بدل رفو المزوري يعلن وجع الغربة
في (وطن اسمه آفيفان)
لقمان محمود
يفاجئ الشاعر بدل رفو المزوري قارئه بما يمتلكه من قدرة فائقة على التقاط الشعر من خارج وجوهه الظاهرة وتعبيراته المألوفة. فهو يعمل في مجموعته الشعرية (وطن اسمه آفيفان) على تقويض العلائق التقليدية القائمة بين الوطن والغربة،أو بين الشاعر الرائي والعالم المرئي.
فالقصيدة لديه ليست نتاج التوصيف أو الانشاء اللذين يفترضان نوعاً من الثنائية الصافية بين طرفي الكتابة، بقدر ما هي هدم الأسوار الثنائيات، وازالة كاملة للباب الذي يفصل بين الداخل والخارج. حيث تستدعي قصيدته فضاءاً انزياحياً للغة الحلم، باعتبارها الخصوبة التي تلقح الموهبة، وتجعلها تنتهك الكتابة، بدءاً من الوطن، ومروراً بالغربة، وفق تداخل يقظ بين المتوقع والغرائبي، لخلق جو درامي داخل قصيدته. فالتقنيات المتاحة في (وطن اسمه آفيفان) تؤكد مقاربتها لتجربة الشاعر الشخصية، كما في قصيدة "أنا ووطني غريبان" والتي تقول:
سنحيا معاً يا وطني
غريبين في الغربة
حيث لا تكتسحنا انهيارات
جليدية
ولا مزايدات وطنية
أنا وأنت
غريبان
يا وطني
في أهلنا وغربتنا.
وسط هذا الانقلاب المفهومي للكتابة، تتحقق شعرية بدل رفو كتجربة متميزة، حيث تبتعد قصيدته عن تحشيد المفردات اللغوية، وكذلك تبتعد عن تداخل الصور المجانية، وهذا يؤهله لكي يكون شاعراً مهماً بسبب علاقته الروحية الشفافة بالفكرة، فهو يعتني بها من الداخل،عبر متاهات المعنى التي تصل أحياناً إلى التوضيح اللازم لقول الألم:
لا أحد سألني
كيف تحيا أنت؟
ولا أحد أخبرني
كيف بوسعي
أن أعيش!!
وبما أن الشعراء يذوبون في المنافي شوقاً إلى الوطن والأهل والأصدقاء، فأنّ البطولة دائماً معقودة للحنين وحده. هذا ما يقوله الشاعر عن الغربة، وعن قدره المحكوم بحتميته، وكأنه استسلام إلى الخسارة الخاضعة لجسارتها القادرة على كشف الأساسي والثانوي والواعي واللاواعي:
حين كان اليوناني زوربا
طفلاً صغيراً
كان يدخر مصروف جيبه اليومي
ليشتري الفستق
يشبع منه حتى الافراط
فمتى سأشبع من عشقك
يا وطني المسافر معي
عبر محطات الغربة؟
الشعر هنا ينبثق أولاً وأخيراً عن طاقة الروح الحية، وعن فورانات الداخل، لذا لا يمكن فهم هذه القصيدة إلا من خلال سياقها الخاص. لأن هذا الشاعر أينما حطت به الجغرافيا، فأنه ينتمي إلى زمنه الكردي الخاص، حتى عندما يكون الوطن والغربة على بُعد خطوات من بعضهما البعض. إنها محاولة التأسيس لنص شعري يحمل الخصوصية الذاتية، بلغة تجمع بين البساطة والعمق.
ولا شك أنّ الشاعر بدل رفو يميل إلى القبض على الجوهري في التجربة الشخصية للغربة، ضمن سياقها التعبيري والدلالي للكشف عن المزيد من نزوات الحنين:
حلمتُ
بمدينتي الموصل
تُبيض واجهات محلاتها
وتزين شوارعها
لاستقبال مهرجان الربيع
وطفولتي المؤلمة.
تتأسس القصيدة لدى الشاعر، على التراكم الهائل من الثقافات واللغات، فهو يعيش منذ عام (1991) بدولة النمسا، متفرغاً للشعر وللترجمة وللصحافة.
فقد صدرت له في عام (2008)، "أنطولوجيا شعراء النمسا" باللغة العربية، عن دار الزمان السورية، كما صدرت هذه الأنطولوجيا باللغة الكردية أيضاً، وفي نفس العام ، عن مؤسسة سبيريز للطباعة والنشر بدهوك.
وهذا دليل على أن بدل رفو – الشاعر والمترجم والصحفي – وثيق الصلة بالثقافة الانسانية أينما كانت، باعتبارها سلاح من أسلحة المناضلين في الدفاع عن وجودها وبقائها ومستقبلها. لذلك تراه مستمراً في فتح القنوات بين القصيدتين الكردية والعربية من خلال الترجمات العديدة التي ينجزها دون هوادة.
من هذه النقطة تحديداً، نستطيع القول أن (وطن اسمه آفيفان) جاءت متسمة بالوضوح والدقة، والحرية في التعبير عن المقاصد والأماني:
آفيفان
وطن لعشق كلمة
تروضها غرانيق كردستان
وهوى تلتحف بها
أمسيات غراتس الحزينة.
***
ارحلي
إلى حيث كردستان
تعزف أنشودة الأمان
حيث قريتي الصغيرة:
الشخ حسن
مصيرك وقدرك.
إننا نلمس في هذه القصيدة، وعي الذات المتأملة في صحوها المعرفي، بكل ما تمتلكه من أهمية أخلاقية وتاريخية لكردستان الوطن. وهذا التعبير – في طبيعة القصيدة – يعبّر عن أمنية الشاعر للعودة بلغة الشعر – أيضاً – إلى الأرض الأولى.