حقـائق وأســرار أقـوى رجــالات الـمغرب..فـؤاد عــالي الهـمـة نمـوذجا
جرائد
حين كان أولئك التلاميذ الصغار القادمون من أوساط اجتماعية متباينة ومن مدن متباعدة، يصطفون ببدلاتهم الأنيقة في بداية السبعينات، إلى جانب "سيدي محمد" واحد منهم يرى أبعد من عدسة كاميرا المصور
المنتصبة على بضعة أمتار أمامه.. ولم يكونوا يملكون عيون زرقاء اليمامة ليحدسوا أي قدر استثنائي جمعهم حول الملك المستقبلي وأن الحظ يهيئ لهم مناسبة سارة ليصبحوا الرجال النافذين والنواة الصلبة للحكم في المغرب.
فؤاد عالي الهمة
لم يكتب عن شخصية بالمغرب في العقد الأخير، بحجم ما كتب عن فؤاد عالي الهمة، فمن هو هذا الرجل الذي أسال الكثير من المداد المكتوب أحيانا بلون ذات الحبر ومن نفس الدواة أحيانا، من هو الهمة الذي لا زال يشغل الأمة ويقيم دنيا المغاربة ولا يقعدها..؟
دائم الابتسامة بقسمات صارمة، متلعثم اللسان، خجول وجذاب، جيد الإصغاء، محاور ذكي.. عينان بسعة الحلم تتحركان في محجريهما كعدسة بندقية تبحث عن طريدة ما، ذكاء متقد، رجل ميدان.. هكذا خبرت الرجل عن قرب، هكذا يقدمه مفكر مغربي، بقدر ما ينجذب لشخصية الهمة بقدر ما يعيب عليه شكل تماهيه مع سلطة تقليدية كان ينتقدها، لكنه يستفيد من ريعها ولا ديمقراطيتها.
ولد فؤاد عالي الهمة في 6 دجنبر1962 من أب معلم وأم ذات أصول مراكشية، بسبب ضربة حظ لا تحدث إلا استثناء في الوجود، تخلي زميلان عن مصاحبة "سيدي محمد" في الدراسة عام 1977، الأمر نفسه حدث مع رشدي الشرايبي، بسبب ميولاتهما العلمية ومنهم نعيم تمسماني مدير "كازا شور"، ونظرا لنجابته وتفوقه الدراسي تم استقدامه إلى الكوليج الملكي وهو يبلغ 15 سنة من عمره.
كان الجو مختلفا، تربية نظامية صارمة مبنية على الانظباط والطاعة، لكن في ظل سعادة مرافقة "سميت سيدي"، وهنا استطاع فؤاد أن يكسب قلب ولي العهد.. لقد كانت للرجل شقة فوق مطعم "أمنيزيا"، فيها كان يجتمع الخلان ويوطدون علاقاتهم المستقبلية، فيما يرسمون ملامح ما سيكون عليه الاتي.
التحق فؤاد عالي الهمة بجامعة محمد الخامس لدراسة القانون حيث حصل على الإجازة في القانون والقانون المقارن، ودبلوم الدراسات المعمقة في العلوم السياسية سنة 1988، وشهادة للعلوم الإدارية عام 1989 ببحث حول ميزانية الجماعات المحلية، وهو الإسم الذي سيحمله الهمة بين الأصدقاء الصحافيين واليساريين وفي ريبرتوار هاتفهم المسجل فيه فؤاد عالي الهمة بإسم الجماعات المحلية لحكمة تتجاوز السر، لا أعرفها حتى اليوم، وبعدها سيقوده مساره، صحبة ياسين المنصوري وفاضل بن يعيش ورشدي الشرايبي، إلى وزارة الداخلية، حيث شغل منصب مستشار في ديوان إدريس البصري، بعدها سيتقدم إلى الانتخابات بإسم حزب الاتحاد الدستوري الذي لم يلتحق يوما بمقره منذ حصوله على تزكية المعطى بوعبيد، فأصبح رئيس المجلس البلدي لإبن جرير من 1992 إلى 1997 وممثل موطن نشأته في البرلمان حتى سنة1997، خصومة يقولون:" إنه يجب أن يعترف للعهد السابق الذي يحاول أن يدفنه شكلا، على الأقل، بحسنة تعديل الكفة لصالحه في الانتخابات التشريعية"، ذلك أن الرجل سقط في الانتخابات المباشرة التي تقدم إليها بجانب المنصوري بن علي وخلي هنا ولد الرشيد، وتم تدارك "الخطأ" في الدور غير المباشر، وهو ما لن ينساه الهمة الذي أعاد للراحل البصري، الضربة القوية، في الشكل المهيمن الذي أعقب إعفاءه، حيث أخضع الوزير المقال وسيارته للتفتيش وهو يغادر مقر الوزارة، وانتزع منه كل شيء.
في أكتوبر 1997 عينه الراحل الحسن الثاني رئيسا لديوان ولي عهد المملكة.. في البداية تزوج فؤاد عالي الهمة من وسط شعبي وحاول الحفاظ على بعض عاداته القديمة من إقامته في الصخيرات حتى مقر سكناه الحالي.. لكن لا يمكن الجمع بين الثروة والثورة.. إذ للسلطة إغراءاتها...
في 9 نوفنبر 1999 سيشتغل فؤاد عالي الهمة منصب كاتب الدولة في الداخلية والذي استمر فيه حتى مع التعديل الحكومي في شتتبر 2000.. لقد كانت مهمته دقيقة للغاية.. إنجاح أول انتخابات على عهد الملك محمد السادس في غياب مهندس انتخابات المغرب لعقود طويلة، وتفكيك "الخلايا النائمة" لإدريس البصري، لذلك وصف بمهندس التدبير الأمني الجديد، وإعادة هيكلة أجهزة المخابرات، التي سمح له التواجد على أمر تسييرها، باستفادة كبرى من كنوز معلوماتها التي سيستغلها بفعالية في رسم ملامح مستقبله كأكبر قوة في محيط العهد الجديد.
منذ البداية جرب الهمة حظه مع سمك القرش، نجح في المسعى الأمني، فقد اتى بحميدو ولعنيكري على رأس "DST" وفيما بعد مديرا للمدرية العامة للأمن الوطني، وذلك بفضل صداقة إبنه ياسر، وأيضا للاستفادة من خبرته الواسعة، إلى أن انقطع حبل الود بين الرجلين، وكان لعنيكري الضحية.. اتفقت استراتيجيتهما حول ملف الإرهاب، وفي محاربة الأمير هشام الذي كان يضع بدوره الكثير من الملح على الجرح، حين يكون السكر هو المطلوب، وحصد الهمة نصف نجاح في إجماع القوى السياسية على كون انتخابات 2002 التي كان مدبرها كانت أكثر نزاهة، ولو أن نتائجها لم تر النور حتى يومنا هذا.. وتلك خصيصة في "الديمقراطية المغربية"، ونجح في توطيد نفسه ضمن أقرب أصدقاء الدراسة إلى الملك، لأنه استطاع هزم حسن أوريد ووضعه على الرف، أنبتت استراتيجية فؤاد عالي الهمة على شعارات ديمقراطية براقة وناعمة الملمس، وإن كانت ما تخفيه غير ما تبرزه، فاستقطب بذلك رموزا من الصحافيين ورجال اليسار، وأطرا عديدة من الحقوقيين والفاعلين المدنيين والمثقفين.. وبحكم اشتغاله على قضايا حساسة: الصحراء وانفصاليو الداخل، هيئة الإنصاف والمصالحة، إعادة هيكلة الحقل السياسي، والمشهد الصحافي.. فإن أجندته دوما كانت ممثلة باللقاءات مع مختلف أصناف الفاعلين في المجتمع.
حتى وإن كان قد عين في أكتوبر 2002 وزيرا منتدبا في وزارة الداخلية، فقد كان حقيقة هو الوزير الفعلي، وهو من "ساهم في عدم تجديد ولاية عبد الرحمان اليوسفي"، يقول أحد النافذين، لكنه أيضا هو من سيحارب جطو وإن بأيدي ناعمة سواء لإزاحته من منصب الوزير الأول أو من سحب يده اليمنى محمد إبراهيمي الذي شغل منصب مدير الجماعات المحلية على عهد أحمد الميداوي وكان الدينامو الأساسي في ديوان إدريس جطو، وذلك بهدف إضعافه، إذ لم يخبر الوزير الأول بأمر تعيين ساعده الأيمن واليا على جهة وجدة في يونيو 2004.
بعد اشتغاله على قانوني الانتخابات والأحزاب.. كانت استراتيجية الرجل القوي قد اكتملت معالمها في مكتبه الجديد بوزارة الداخلية بحي الرياض.. ليحدث المفاجأة.. على بعد خطوات من انتخابات 2009، الديوان الملكي يعلن أنه بناء على طلب من فؤاد عالي الهمة، تم إعفاء الوزير المنتدب في الداخلية.
من بن جرير انطلقت الاستراتيجية الأساسية لإعادة تأهيل المشهد السياسي، كان قبلها الحديث عن شيخوخة الأحزاب ولا ديمقراطيتها، ووقع تسريب أسرار عن فساد نخبها، وفي مرحلة ثانية تم الإعلاء من قيمة المجتمع المدني ليكون بديلا للمجتمع السياسي.. كان ما يرتسم في ذهن فؤاد علي الهمة هو الانطلاق من نواة حزب التجمع الوطني للأحرار والاتجاه نحو الحركة الشعبية لخلق قطب سياسي، لكن رفض المنصوري، الذي دفع رأسه ثمنا لعناده، شوش نسبيا على استراتيجية الرجل الذي اعتقد أنه سيكون في إحراج من رجالات اليسار في الجلوس مع رموز اليمين الإداري، لكن لم يكن يدري، أن الزمن لم يعد هونفسه، وأن الرفاق بدلوا تبديلا، لقد، أصيبوا بالعياء، وما أنا إلا بشر!
حقق الهمة فوزا ساحقا، وخرج بثلاثة نواب من بن جرير ليصل إلى القوة السياسية الأولى في البرلمان، والوزارة الأولى نصب العينين.. إنه الطموح الذي كان خان رضا اكديرة إلى جانب الراحل الحسن الثاني.
إذا كان الهمة قد فشل في استراتيجية إعادة هيكلة المشهد الإعلامي في شقه المرتبط بالصحافة المكتوبة، التي سيتولى الماجدي، خصمه العنيد، أمرها، فإن نظرية BIG BANG)) أو الانفجار الأعظم الذي يقوده في مجال المشهد الحزبي جلب متعاطفين من عابري سبيل الانتخابات والأعيان الجدد، وساخطين ممن لم يركبوا جرار الهمة أو من الأحزاب التي أصبحت تتضايق من استهدافها، التي اشتكت فعاليات منها إلى أسر نافذة في الحكم.
لكن يجب الإعتراف بأن الرجل فرض احترام الكل، ولو أن عينه على انتخابات 2012، فإن المستقبل وحده كفيل بوضعه في ميزان التاريخ. [img]
[/img]