اللص والمتسول والمشعوذ ... علماء بامتياز !
جرائد
نجدهم في كل زمان ومكان ، تجّار شطّار ، امتهنوا حرفهم بكل احترافية ، وسائلهم في الإقناع متطورة وقابلة كل مرة للتحيين والتحديث ، لا يعترفون بالحدود ، لديهم روابط مشتركة أهمها : المال ، رغم اختلاف طرق اشتغالهم إلا أنهم يشتركون في عدة مفاهيم لدراسة الإنسان.
إنهم باختصار رواد العلوم الإنسانية والاقتصادية : اللص والمتسول والمشعوذ ، هؤلاء يعرفون كيف يؤثرون على الآخر ، ليس بمحض الصدفة ، ولا بضربة حظ ، بل يستدعي امتهان الحرفة دراسة متأنية لنفسية الإنسان التي لازال السيكولوجيون في حيرة فك خيوطها ، لكن اللص والمشعوذ والمتسول استطاعوا فك شفرة الأغوار النفسية ، وحيروا العلماء السوسيولوجيين والأنتروبولوجيين في كيفية وضع حد لهذه الظواهر المتفشية في كل زمان ومكان ، وفي كل دولة ، وفي كل طبقة اجتماعية ، وكيف يتم وضع حلول لهذه الظواهر وأبطالها علماء بامتياز يَدرُسون ويُدرسون ، فما هي أهم النقط المشتركة بين اللص والمتسول والمشعوذ؟ قبل التحليل يجب أن نميز بين المتسول الذي امتهن الحرفة وبين الذي رمت به الأقدار لطلب المال ، لكن أفضل وصف هو الذي ذكر في القرآن يميز بين هؤلاء وهؤلاء ، وكان الفرق عزة النفس الذي يحول دون الإلحاح في الطلب ، " لا يسألون الناس إلحافا " ، بالإضافة إلى كونهم لا يبرزون حاجتهم إلى غيرهم " يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف " ، وإنما نخص بالتحليل لمن امتهن حرفة التسول ، والسرقة والشعوذة ، فأول نقطة تجمعهم هو إدراكهم لأهمية الزمان والمكان ، بالإضافة إلى اختيار الأشخاص المناسبين ، وحسن استغلال نقطتي ضعف الإنسان واللتان تتمثلان في الأمل والخوف .
لا يعدّ الزمان والمكان اعتباطيين بل لهما أهمية كبرى ، وتتجسد في اختيار المناسبات والأعياد والمناطق المكتظة والأكثر رواجا والمراكز الاستراتيجية ، كما يمكن أن تنعكس القاعدة بالنسبة للص والمشعوذ فيما يخص المكان المكتظ والواضح ، فقد يحبذان المكان الخال والقاتم .
1 - الزمان والمكان :
يظهر جليا زيادة نشاط اللصوص والمتسولين والمشعوذين في المناسبات والأعياد ، كشهر رمضان المبارك والأيام العشر القبلية لعيدي الفطر والأضحى ورأس السنة الميلادية .... كما أن الاكتظاظ في بعض الأحياء المباشرة والحافلات يولد فرصة مناسبة لأدنى مراتب اللصوص " النشّالون " ، لكن قطّاع الطرق يفضلون الأماكن الخالية في مثل هذه المناسبات للتربص والترصد بالضحية الذي سيكون محملا لا محالة بالنقود للتسوق أو سيكون محملا بالبضائع ومنهكا ومنهمكا في التفكير فيما خسره من نقود ويبرمج فيما سيشتريه ، كما أن المشعوذ قد يحبذ الأماكن التي تعرفا رواجا للتراث الشفهي كما هو معروف ومتداول في " الحلاقي " لبعض المدن العتيقة ، كما أن الأساليب المستعملة تختلف باختلاف الزمان والمكان ، فالمتسول قد يفضل المساجد والأسواق والمطاعم الشعبية في وسط الطبقات الفقيرة والمتوسطة ، لكن المتخصص بالطبقات الميسورة يفضل قرع الأجراس للمنازل الفخمة و أماكن توقف السيارات الباهظة الثمن ، كما نجد فئة من المتسولين تختار زمنا مختلفا ، يتعلق الأمر بالليل أمام حانات لشرب الخمر ، كما يرتقي اللص إلى درجة النصّاب في الأماكن الراقية أو السّطو على المنازل التي يغيب عنها أصحابها لمدة معينة .
2- اختيار الأشخاص :
يختار اللص أو النشال أو النصاب ضحيته بدقة ، فالنصاب يختار الأشخاص الوصوليين الذين يطمحون إلى اختزال واختصار الطرق لبلوغ أهداف بعيدة الأمد ، كما أن اللص يختار كل شخص غير قادر على المقاومة : " نساء ، عجزة ، مرضى ...." ، والمتسول يختار المرأة الحامل ليدعو لها بولادة صحّية دون مشاكل ، أو يختار العشّاق ويتمنى لهم الزواج والأبناء ... كما أن زبناء المشعوذ أغلبيتهن نساء يفتقدن إلى سماع ما يردن سماعه ، وبالتالي فهو يستغل هذه الخاصية في الإنسان وهي أنه يريد سماع كل ماهو طيب يتصف به ويلقي اللوم على الآخر غير البريء .
3- الأمل والخوف :
يشترك كل ممتهن للتسول والسرقة والشعوذة في استغلال نقطتي ضعف الإنسان وهما الخوف والأمل ، كل إنسان يعيش حالة قلق مرتبطة بالخوف من المجهول ، ورهينة بزمن الانتظار الرهيب ، ولم يكن من مخرج إلا بالتمسك بوميض الأمل نحو حياة مستقبلية أفضل من الحياة الراهنة .
لقد كانت الأديان السماوية بمثابة بلسم شافي لجرح وحيرة وتيه الإنسان في هذا الكون ، وأجمعت على وجود حياتين بينهما برزخ الموت ، لكن أبطال هذه المهن استغلوا ضعف نفسية الإنسان من هذه الناحية في جميع الأزمنة والأمكنة ، فالمتسول يدعو للمتصدق بالصحة والعافية وأجر أخروي ، لذلك نجدهم متراصين أمام المساجد ويترصدون المرضى والنساء الحوامل والعجزة الخائفين من الموت والآملين في حياة جديدة ، كما يؤثرون على المتصدق ويجبرونه على إعطاء مبالغ تزيد بزيادة الأمل ، وأول عملية للتأثير على الآخر تبدأ من لباس ثياب رثة أو الاستعانة بأطفال رضّع نيام في حالة مزرية مما يجعل قلب المتصدق يرق لتلك الحالة فيجعل منه متسولا وطالبا للدعاء من المتسول الذي يصبح بعد إمساك الصدقة متصدقا بالأدعية فيتبادلان الأدوار ، أما اللص فهو يتربّص بالضحية ويفاجئه من حيث لا يدري بسلاح أبيض فيجعله خائفا قلقا من مصير قد يكون مأساويا وهذا يعني فقدان الحياة أما الأمل فيعني الاستسلام لقاطع الطريق وشراء حياته بما يمتلكه ، وفيما يتعلق بالمشعوذ فهو يدرك نفسية الإنسان قبل أن يأتي إليه ويعلم أنه قادم من إحباط ومن قلق وينتظر الخلاص والأمل ، فإذا كان الزبون امرأة أدرك حسب سنها أنها تفتقد إلى الزوج أو الأبناء ، ويبقى هاجس العنوسة أو الطلاق حاضرا بقوة بينما يكون الأمل هو الزواج أو مبدأ الحفظ على الزوج ، وهذا يتطلب وقتا ومماطلة وتسويفا وابتزازا ، وكل خطأ يتحمل فيه الضحية المسؤولية لوحده لأنه لم يلتزم بتعليمات الطبيب المشعوذ .
يبدو من خلال ما ذكر أن اللص والمتسول والمشعوذ لا يستهان بعلمهم ، وهذا العلم قابل للتحديث في كل زمان ومكان ، ومادام الإنسان تركيب نفسي يمزج بين العاطفة والحب والكره والحقد والخوف والأمل ...ستبقى هذه الظواهر حاضرة بقوة ، بل يجب الاعتراف بكونهم علماء النفس والاجتماع بامتياز ، بالإضافة إلى كونهم علماء اقتصاد لكنهم لا يعرفون كيف يستمتعون بالأموال المحصل عليها بالسرقة ، سرقة عاطفة دينية أو سرقة بالقوة والنصب أو أمل دنيوي ، ومع ذلك يبقى إدمان وامتهان الحرفة العامل المشترك بين هؤلاء العلماء !. [center]