داخـل الـمحـكـمـة الـعـبـــــريـة
الرحمانية. اوال
باسم جلالة الملك ، وبحكم التوراة والتلموذ وقانون "بن هاعيزر"،يفصل حاخامات في نزاعات المغاربة اليهود. داخل المحكمة العبرية، وسط الدار البيضاء، وبقلب المحكمة الابتدائية. هنا جلسات خاصة جدا، وتروج ملفات أطرافها يهود مشهورون، وينظر أحبار يهود مغاربة في قضايا ساخنة من إسرائيل. هذه تفاصيل رحلة وسط قضاء اليهود المغاربة.. في قلب المحكمة العبرية بالبيضاء.
جلبة عارمة وسط المحكمة الابتدائيى بالدار البيضاء، كالعادة. متقاضون يتنقلون بين ردهات المحكمة في عجل، ومحامون يتحلقون عند الزوايا متسامرين. حشود من المواطنين ينتظرون أمام مكاتب عدة فرغت من الموظفين، وعاملات نظافة جلسن أمام أبواب المراحيض الموصدة. عند الزواية اليمنى لمدخل المحكمة، بالقرب من مكاتب نواب الرئيس، بدأت الحركة تقل، والأصوات تخفت. إلى أن تنقطع عند درج كتب بجانبه" الغرفة العبرية".
القضاة الحاخامات
وقع أقدام أحد القضاة اليهود وهو يصعد الدرج يبدد هذا الصمت المطبق في هذا الجانب المنفي من المحكمة. يدخل إلى ردهة الغرفة العبرية، يسلم على قاض اخر وضع طاقية يهودية (كيبا) فوق رأسه، بينما ظلت امرأة بجلباب رمادي شاحب تنظر صوب مكتب القاضي اليهودي مترقبة خروجه. كان يوم جمعة. الساعة عند حدود الثانية عشرة ظهرا، هذا موعد عقد جلسة نظر في قضية، كما أوضح هذا القاضي الذي التقته" أوال"، أطراف الدعوى يهود مغاربة لا تسري عليهم نفس قوانين المواطنين المغاربة الاخرين.
عقب الجلسة ينتهي عمل هؤلاء القضاة، ليبدأ طقس "شباط" اليهودي زوال كل جمعة. بضعة مكاتب توزعت على تلك الردهة الهادئة. أبوابها كلها موصدة، باستثناء مكتب كتابة الضبط، الذي يشرف عليه موظف من نوع خاص: مغربي مسلم يدعى محمد خروبي، يبلغ من العمر 45 عاما، قضى 14 سنة منها في المحكمة العبرية، مكلفا بالمهام الإدارية بها.
هذا الموظف كان رفيقنا في هذه الرحلة. اشتغل خروبي قبل ذلك داخل القطب الجنحي، قبل أن تقوده الأقدار إلى المحكمة العبرية." العمل هنا يتطلب كاتب ضبط يجيد اللغة العربية لتحرير المساطر والأحكام القضائية التي تتداول إما الدارجة أو الفرنسية أو حتى العبرية. تشترط أيضا الرزانة، وأن يكون الموظف متزوجا وليس له انتماء سياسي. لهذه الأسباب تم اختياري لهذه المهمة، وأنا الان كاتب الضبط الوحيد في المغرب الذي يشتغل داخل محكمة خاصة باليهود المغاربة"، يقول خروبي، كانت الضبط الوحيد في المحكمة العبرية الوحيدة في المغرب، على اعتبار أن كل التعاملات القضائية الشرعية الخاصة باليهود المغاربة يفصل فيها هنا بالغرفة العبرية بالبيضاء، من طرف هيئة قضائية تضم خمسة قضاة، بينما لا يوجد في المغرب كله سوى قاضيين اثنين،" يوجد قاض في مراكش وهو الحاخام غاباي شالوم، واخر يسمى الترجمان في طنجة"، يستطرد خروبي.
تختص المحكمة العبرية بالبيضاء في جميع القضايا ذات الصبغة الشرعية التي يكون أطرافها يهودا يحملون الجنسية المغربية. هذه القضايا تشمل الزواج والطلاق وأحكام النفقة والإرث والوصية، وهي مواضيع ذات طابع فقهي يهودي محض.
هذا الأمر يفسر أن جميع القضاة الموجودين هنا هم من كبار الحاخامات والأحبار اليهود في المغرب. " تضم الغرفة خمسة قضاة، بداية من الرئيس يوسف (جوزيف) إسرائيل، ثم دافيد حداد وغابرييل جسوس وإسرائيل حزوط، وسيمون زاكوري. وهو كلهم أحبار لديهم تكوين ديني يهودي حبري". يستطرد كاتب ضبط هذه الهيئة القضائية. هؤلاء القضاة ليسوا مجرد رجال دين عاديين، بل إن كل حاخام منهم "سيناغوغ" (معبد يهودي) خاص به في الدار البيضاء، حيث يقوم اليهود المغاربة بعباداتهم لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن هؤلاء القضاة الحاخامات يتكلفون بختانة الأطفال اليهود والإشراف على جهاز مراقبة الغذاء عند اليهود المغاربة، فهم الذين يحللون لهم طعامهم الذي يصبح بعد ذلك " كاشير"، أي حلال.
هؤلاء القضاة هم الوحيدون في العالم الذين لهم تكوين خاص في القضاء العبري، كما أن محكمة البيضاء هي الوحيدة في العالم التي تطبق القانون العبري، علما أن إسرائيل تعمل بالقانون المدني المطبق من طرف قضاة مدنيين. لكن وضعهم في المغرب لا يختلف عن باقي القضاة العاديين، إذ لهم نفس الصلاحيات، ويتوفرون على البطاقات المهنية ذاتها، كما أنهم يشاركون في انتخابات المحكمة. " يتقاضى هؤلاء القضاة أجورهم، أيضا، من الخزينة العامة، وهي لا تختلف عن أجور باقي القضاة"، يكشف محمد خروبي.
مجلس إسرائيل
رغم ان هؤلاء القضاة يعينون بظهير، كما يوضح ذلك خروبي، غلا ان شروط اتنقائهم خاصة بهم وحدهم، على اعتبار أن اختيارهم يكون على أساس حظوتهم الدينية والعلمية لدى الطائفة اليهودية في المغرب، " يختار القضاة من طرف الإسرائيلي للمملكة، قبل أن تصدر ظهائر تعيينهم، ويكون أساس الاختيار معرفة هؤلاء القضاة بالفقه القضائي العبري، بشكل لا يتاح لجميع اليهود المغاربة. هذا التخصص يصل إلى درجة ان اللغة العبرية العادية"، يضيف كاتب ضبط الغرفة العبرية.
الاختصاص القضائي العبري المنشود يستدعي من القضاة العبريين ان يكونوا على إلمام بمنابع التشريع اليهودي الأساسية، وفي مقدمتها التوراة، الكاتب المقدس عندهم، والتلموذ، وهو عبارة عن مجمل تعاليم وقوانين المجتمع اليهودي.
بالإضافة على هذه النصوص المشتركة، يستمد قضاة المحكمة العبرية بالدار البيضاء سلطة الحكم من قوانين ذات طبيعة مغربية صرفة، سبق لأحبار يهود مغاربة، تزعموا المجالس الإسرائيلية السابقة، أن سطورها، وفق ما تقتضيه خصوصية تطبيق الديانة اليهودية في المغرب.
أسمى هذه القوانين، كما يوضع محمد خروبي، قانون " بن هاعيزر"، وكتاب " حوشي ميش بات"، ومؤلف " هاتا كانوت هامش"، ثم كتاب " بات هاعبري"، الذي كتبه أحبار مغابة سنة 1950. هذه القوانين تتفرع عن معاملات شرعية يهودية مغربية غاية في التفرد، وتكشف الوجه الاخر لخصوصية هذه الفئة من المجتمع المغربي.
فبخصوص الزواج، يبرز الموظف في المحكمة العبرية، يحرر ضمن عقد خاص يدعى " الكيتوبية". وبعد أن يتم عقد القران وفق طقوس يهودية خاصة، بدءا من تقديم المهر وتلاوة العقد من قبل أكبر حبر يهودي مغربي، تقوم المحكمة العبرية هنا بالمصادقة عليه، على غرار ما يقوم به قاضي التوثيق في المحاكم العادية.
الطلاق بدوره له نظام خاص داخل هذه المحكمة، فعند الانتهاء من الإجراءات الرسمية المعروفة، يبدأ الجزء القضائي الديني بالأساس،وهو ما يسمى " الكيط"، وهو عبارة عن طقوس دينية خاصة يتنفيذ حكم الطلاق الذي يتم على يد الحاخام الأكبر داخل المجلس الإسرائيلي. هذا الأخير يسلم شهادة على الطلاق إلى المحكمة العبرية، ويوثق ضمن سجل تحت رقم معين ودقيق للغاية، وتحت إشراف رئيس المحكمة العبرية مباشرة.
محامون وعدول عبريون
فوق مكتب محمد خروبي، كاتب ضبط الغرفة العبرية، توزعت محررات قضائية عدة، بعضها عبارة عن أحكام بالعربية دبجت بعبارة " باسم جلالة الملك"، وأخرى بأحرف عبرية. بجانب الأوراق كتيب صغير لتعلم اللغة العبرية.
" المداولات والأحكام تكتب باللغة العربية، لأنها اللغة الرسمية للبلاد. الوثائق التي تظهر مكتوبة بالعبرية لأنها صادرة عن عدول عبريين. مثل العدول الاخرين"، يوضح خروبي.
عدد هؤلاء العدول العبريين في الدار البيضاء خمسة فقط، لديهم تكوين عدلي ديني يهودي مغربي. اختلاف بسيط بينهم وبين العدول المكلفين بالتعاملات الشرعية الإسلامية، وهو أنهم لا يفتحون دكاكين ومكاتب بالشوارع وقرب المحاكم، بل لهم أماكن خاصة داخل الأحياء التي يقطن بها اليهود المغاربة بشكل مكثف. مهمة هؤلاء العدول العبريين هي كتابة المحررات القضائية الشرعية العادية مثل عقود الهبة والوصية والإراثة، هذه المحررات العبرية يتكلف القضاة الأحبار بترجمتها.
إلى جانب العدول العبريين المعتنقين الديانة اليهودية، يوجد محامون يهود مختصون في الأحكام القضائية العبرية، يوفرون خدمة الدفاع عن اليهود المغاربة المتقاضين.
غير ان المحكمة العبرية لا تشترط في المحامين أن يكونوا يهودا، وهو ما يتيح للعديد من المحامين العاديين إمكانية الترافع في قضايا معروضة على الغرفة العبرية، وأطرافها يهود.
يكون ذلك أساسا في القضايا الأخرى ذات الصبغة المدنية، والتي يكون النزاع فيها بين مغاربة يهود ومسلمين، أو بين يهود مغاربة وآخرين من جنسيات أخرى، حتى من إسرائيل.
ملفات سرية
تروج داخل المحكمة العبرية في الدار البيضاء، وفق ما يؤكده كاتب الضبط، ما بين 100 إلى 120 قضية في السنة. تتوزع القضايا، بالتساوي، على جميع أنواع فضلا عن هذه القضايا التي يشترط أن يكون طرفاها معا من اليهود المغاربة، ينظر القسم المدني العادي في المحكمة الإبتدائية في قضايا أحد أطرافها يهود مغاربة. وهذه القضايا هي التي يمكن أن تواصل مسارها القضائي نحو الاستئناف.
جميع هذه القضايا، سواء المعروضة على المحكمة العبرية، أو القسم المدني، تخضع للضبط الإداري من قبل المحكمة الإبتدائية، على اعتبار أن كاتب الضبط داخل الغرفة العبرية تابع لكتابة الضبط بالمحكمة، كما أن المتقاضين يؤدون صوائر الدعاوى والمساطر والإجراءات القضائية بصندوق المحكمة المفتوح للجميع، مقابل فتح الملفات، بينما ترتب هذه الملفات وفق الرقم التسلسلي العام للقضايا المعروضة على المحكمة الابتدائية بصفة عامة. بعض هذه الملفات سري للغاية، وفق ما يشدد عليه محمد خروبي، والسبب أنها تتعلق بتعاملات شرعية لشخصيات يهودية مغربية معروفة. هذا ما يفسر طابع التكتم هو أيضا السبب الذي جعل محمد خروبي يشتغل رفقة الحاخامات اليهود هذه المدة كلها، " عندما أخرج من العمل أنسى اية علاقة لي به ولا أفتح تفاصيل ما يجري داخل المحكمة حتى أمام زوجتي"،يقول خروبي.
" الطاكونت".. محرك الاجتهاد القضائي العبري
" اما اليهود المغاربة فتسري عليهم قواعد الأحوال الشخصية العبرية المغربية"، هذه القاعدة التي تتضمنها المادة الثانية من مدونة الأسرة، والتي تلخص الوضع القانوني لهذه الفئة من المجتمع المغربي.
هذا التفرد القضائي اليهودي ليس حديثا، بل يتأسس على تراكمات تنظيمية تاريخية، فخلال فترات متقدمة من تاريخ المغرب كان الأحبار يشكلون محاكم خالصة باليهود المغاربة، وتضم ثلاثة حاخامات فقط.
رغم ذلك، كان هناك فراغ قانوني حاولت عدة ظهائر صدرت بعد الحماية الفرنسية ملأه، وتتعلق بإعادة تنظيم المحاكم العبرية والتوثيق الإسلرائيلي. هذه المهمة وزعت على 13 هيئة سميت" مجالس الأحبار المفوضين"، ظهير 15 ما رس 1957، أي مباشرة بعد استقلال المغرب، شكل بداية إرساء النظام الحديث للقضاء العبري في المغرب، إذ خلق " المحاكم العبرية الإبتدائية" واستبدلت" مجالس الأحبار المفوضين" بـ" محاكم الحاخامات الحكام المفوضين".
مسلسل التغيير تواصل، وشمل المساطر القضائية العبرية المعمول بها. في هذه اللحظة ادخلت اجتهادات قضائية على قانون الاحوال الشخصية العبري، وهي الاجتهادات التي يصطلح عليها ب" الطاكونت". ومن ابرز هذه الاجتهادات تضييق إمكانية تعدد الزوجات بشروط مشابهة لما تضمنته مدونة الأسرة من تعديلات.