دور نعيمة الكافي.. سعيدة ساسي.. ليلي الطرابلسي في صعود 'بن علي'
..
'زين العابدين بن علي'.. كـــيف شق طريقه للسلطة.. وكيف خرج منها؟
أحمد بديوي
في كل انتخابات رئاسية كان أنصار زين العابدين بن علي 'الرئيس التونسي المخلوع'، يرفعون اللافتات ويرددون شعارات 'بن علي ما كيفه حد.. بن علي إلي الأبد' و'الله أحد.. الله أحد.. بن علي إلي الأبد'، لم يكن الأنصار يتوقعون اليوم الذي تطيح فيه انتفاضة شعبية بالرجل، الذي ظل يحكم تونس لأكثر من 23 عاما، قبل أن تتمدد التظاهرات المناهضة لنظام حكمه في محافظات تونس ومدنها الكبري 'سيدي بوزيد.. القصرين.. جرجيس.. بن قردان.. فرنانة.. سوسة.. نابل.. مدنين.. صفاقس.. قفصة.. أم العرائس.. الرديف.. تونس العاصمة....'، احتجاجاً علي البطالة وتردي الأوضاع الاجتماعية، بينما كانت المطالب السياسية أكثر حضورا، بعد مرحلة عانت خلالها البلاد 'الكبت السياسي، منذ عام 1987 تاريخ انقلاب 'بن علي' علي الحبيب بورقيبة 'الزعيم التاريخي لتونس'.
>>>
تردد اسم 'بن علي' للمرة الأولي عندما طلب الزعيم الليبي معمر القذافي، تعيين العقيد زين العابدين بن علي وزيراً للداخلية في دولة الوحدة المقترحة بين ليبيا وتونس 'الجمهورية العربية الإسلامية' عام 1974.. المفاجأة أن القذافي هو الذي طلب ذلك، وسط دهشة من الحبيب بورقيبة 'الرئيس التونسي آنذاك'، لكن أطرافا حضرت اللقاء المنعقد بجزيرة جربة التونسية، لم يشعروا بالدهشة نفسها، 'أولا' لأن القذافي كان يراهن علي علاقته الطيبة بـ'بن علي'، الذي كان يشغل منصب الملحق العسكري التونسي في ليبيا.'ثانيا' لأن هذه الأطراف كانت تعلم أن هذه الوحدة لن تدوم طويلا، وهو ما حدث بالفعل، إذ إن هذه التجربة لم تدم أكثر من 48 ساعة، بعد ضغوط فرنسية علي الحكومة التونسية تسببت في فشل تجربة الوحدة.
>>>
شق 'بن علي' طريقه من مدينة حمام سوسة التي ولد بها 'مطلع سبتمبر 1936'، حتي أصبح الرئيس الثاني لتونس منذ استقلالها.. هناك روايات كثيرة تتحدث عن مسيرته، أشهرها يقول إنه فشل في الحصول علي شهادة متوسطة 'المعهد الفني الصناعي'، مما دفعه للالتحاق بصفوف الجيش، بدرجة جندي يخدم في بيت الجنرال الكافي 'أول قائد للجيش التونسي بعد الاستقلال'.. ولإخلاص 'بن علي' للجنرال وأسرته، ابتسم له القدر وتزوج من ابنته 'نعيمة'، التي كانت فاتحة السعد في حياته المهنية والسياسية.. أنجب منها ثلاث بنات 'غزوة، زوجة رجل الأعمال سليم زروق.. درصاف، زوجة سليم شيبوب رئيس نادي الترجي.. سيرين، زوجة رجل الأعمال مروان مبروك'.
أسهم هذا الزواج في ترقي الزوج الشاب من جندي 'بدرجة عريف' إلي ضابط، ثم أرسله 'حماه' في بعثة عسكرية إلي 'سان سير' إحدي أهم الكليات الفرنسية الراقية، حيث نال تأهيلا 'عسكريا.. استراتيجيا.. سياسيا.. ثقافيا'.. عاد بعدها إلي تونس ليعيش حياة مختلفة، وسط دعم من 'حماه'، فتح أمامه الأبواب المغلقة، فتم تعيينه في جهاز الاستخبارات العسكرية، مما أتاح لـ'بن علي' أن ينسج علاقات قوية مع أجهزة استخبارات دولية، لاسيما الاستخبارات الأمريكية 'C.I.A'، والتنسيق فيما بعد مع الاستخبارات الفرنسية.
>>>
مسيرة 'بن علي' السياسية إلي قصر الرئاسة في قرطاج، لعبت فيها المرأة دورا مهما، ففي الوقت الذي وضعه الزواج من السيدة 'نعيمة الكافي' علي بداية الطريق، فقد لعبت السيدة سعيدة ساسي 'ابنة شقيقة الرئيس السابق الحبيب بورقيبة' دورا آخر علي درجة من الأهمية، لاسيما في الفترة من عام 1982 إلي 1987.. كانت همسة واحدة من 'ساسي' كافية لأن تزلزل الطبقة السياسية التونسية.. تمدد نفوذها بحكم قربها اللصيق من خالها 'مجاهد تونس الأكبر'.. كانت القرارات تصدر باسمه، بينما هي من تصنع القرار.
ورغم أنها لا تشغل أي منصب رسمي، فقد ظلت سعيدة ساسي الآمر الناهي في القصر الرئاسي، وكل ما يتعلق بشئون الدولة.. كانت تتمتع بشخصية غامضة.. لا تحب الإعلام ولا تظهر في أي لقاء صحفي أو إعلامي.. لم تلتقط لها صورة وهي مبتسمة.. خلال تلك الفترة شهدت البلاد تخبطا سياسيا واقتصاديا وأزمات اجتماعية، وقد تسببت هذه الأوضاع في اندلاع ما عرف بـ'ثورة الخبز'، شهدت خلالها تونس مظاهرات عارمة، احتجاجا علي غلاء المعيشة 'يناير 1984'.. كشفت الاحتجاجات عن ضعف الموقفين الأمني والسياسي، قبل أن يظهر زين العابدين بن علي في المشهد بقوة، عندما قرر الرئيس 'بورقيبة' عزل إدريس قيقة 'وزير الداخلية'، وتعيين 'بن علي' بدلا منه.
>>>
تعامل 'بن علي' مع تلك المرحلة بأسلوبه الشخصي، وبدون أن يظهر في الصورة، استغل صعوده السياسي ومنصبه الأمني في الوصول إلي منصب الرجل الأول في الدولة.. راح يتخلص من كل خصومه القدامي، خاصة الحبيب عاشور 'الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل'.. زج به في السجن.. نكّل بقادة المعارضة الإسلامية 'راشد الغنوشي.. علي العريض.. عبد الفتاح مورو.. صالح كركر.. الحبيب المكني...'.. اتهم حركة النهضة 'جماعة الإخوان المسلمين' بالإرهاب، والمسئولية عن تفجير مقار تنظيمية للحزب الحاكم.. تفنن في تهميش المعارضة القومية واليسارية.
لم ينس 'بن علي' أنه أبعد عن تونس بسبب المعارضة، ففي 26 من يناير 1978 حدث إضراب عام في الاتحاد العام للشغل، استخدم خلاله مدير الأمن الوطني 'بن علي' الطائرات في قصف المتظاهرين، التي خلفت العشرات من القتلي والجرحي، قبل أن تتم إقالته بعد صفقة عقدها الرئيس بورقيبة مع الحبيب عاشور 'الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل'، قضت بوقف انتقادات الاتحاد للنظام الحاكم، مقابل الاستجابة لطلب عاشور بطرد زين العابدين بن علي من مديرية الأمن الوطني، حيث تم تعيينه ملحقاً عسكرياً في المغرب.. انتقل بن علي من المغرب إلي بولندا بطلب من الاستخبارات الأمريكية، واللافت أن البلد 'بولندا' أصبح في تلك الفترة نقطة انطلاق أمريكية، فقد برزت منه حركة التضامن العمالية التي سببت زعزعة الحكم الشيوعي وهدم الاتحاد السوفيتي، عاد بعدها بن علي إلي تونس، وزيرا للداخلية.
>>>
كان عام 1987 بمثابة نقطة التحول الكبري في حياة 'بن علي'، فقبل توليه رئاسة مجلس الوزراء التونسي، أمضي بن علي نحو عشرين شهرا في المدرسة العسكرية العليا للاستخبارات والأمن في 'بلتيمور' بالولايات المتحدة قبل توليه الرئاسة بفترة، جعلت صحيفة هيرالد تريبيون تقول في طبعتها الدولية عام 1988 'إن الالتحاق بمدرسة استخبارات أمريكية كان كفيلا في الماضي بالقضاء علي مستقبل أي سياسي في العالم الثالث، عدا تونس كما يبدو'.. في العام نفسه حصل 'بن علي' علي معلومات عبر موقعه 'رئاسة مجلس الوزراء ووزارة الداخلية' تقول: الرئيس الحبيب بورقيبة سيعزل بن علي من رئاسة الحكومة 'الوزارة الأولي' وأنه سيعين محمد الصياح 'الرجل القوي في الحزب الدستوري الحاكم' بدلا منه، كما سيعين الهادي عطية وزيرا للداخلية ومنصور السخيري 'مدير ديوان الرئيس' وزيرا للدفاع، والبشير الخنتوش وزيرا للعدل'.
عندها أقدم 'بن علي' علي الخطوة الأهم في حياته السياسية، بتنفيذ انقلابه الناعم علي الرئيس 'بورقيبة'، وقد ظلت تفاصيل ذلك الانقلاب 'لسنوات' من الأسرار، قبل أن يكشف الدكتور أحمد القديدي 'العضو الأسبق في البرلمان التونسي' تفاصيلها الموثقة في كتابه 'ذكرياتي.. من المنفي إلي السلطة'.. يقول: 'جلس أربعة أشخاص في صالون بيت بن علي.. كان الهادي البكوش 'عضو اللجنة المركزية للحزب الحاكم، رئيس الوزراء فيما بعد' يقف مستندا إلي مدفئة الحطب ذات الإطار الرخامي.. المشهد كان مليئا بالرموز والدلالات.. كانت لحظات عصيبة يمر بها نظام الحكم ومجموعة من أرفع قيادات الحزب والدولة.
آنذاك راح 'البكوش' يتظاهر بكتابة نص استقالة 'بن علي' من رئاسة الوزراء، بينما تظاهرت سعيدة ساسي 'ابنة شقيقة بورقيبة' بالبكاء، بصوت حاولت إيصاله إلي الرئيس 'بورقيبة'، الذي كان يجلس علي مقعده بالصالون.. كان الجنرال الحبيب عمار 'رئيس الحرس الوطني، الصديق الوفي لـ'بن علي'' يقف مرتبكا، لأنه كان يعلم بسيناريو الانقلاب علي 'بورقيبة' وعزله من الرئاسة.
>>>
في مساء السادس من نوفمبر سنة 1987، جلس 'بن علي' في مكتبه بوزارة الداخلية، يرافقه صلاح الدين بالي 'وزير الدفاع'.. سعاد اليعقوبي 'أستاذة الطب'.. الهاشمي الزمال 'المسئول برئاسة الجمهورية'.. كان السيناريو يتطلب ذهاب الجنرال الحبيب عمار في الساعة الواحدة صباحا إلي قصر قرطاج، بقصد تغيير حراسة القصر، بينما الحقيقة أنه ذهاب لتنفيذ الخطوة الأهم في تحديد إقامة الرئيس، وعندما أنهي مهمته طلب 'بن علي' تليفونيا وقال له جملتين 'تم كل شيء حسب.. مبروك سيدي الرئيس'، حيث أصبح زين العابدين بن علي رئيسا فعليا لتونس، في السابع من نوفمبر عام 1987.
غادر 'بورقيبة' الحكم بشهادة طبية تثبت 'عجزه عن القيام بمسئولياته'.. استمع التونسيون لأول مرة عبر الإذاعة لصوت الرئيس بن علي وهو يقرأ نص بيانه الشهير.. تضمن البيان معظم القضايا والملفات التي تهم الشعب التونسي.. لقي الانقلاب ترحيبا من كل التيارات، لأنه وضع حداً لصراع الأجنحة علي إرث 'بورقيبة'، ثم قيامه بالإفراج عن زعماء المعارضة الإسلامية والنقابية، وفتح أمامهم قصر قرطاج، وألغي الحبس الاحتياطي، وألغي محكمة أمن الدولة، التعذيب.
>>>
هنا، ظهرت المرأة الثالثة في حياة الرئيس 'بن علي'، إنها ليلي الطرابلسي، التي تعرف عليها عام 1980 عندما كان مديرا للأمن الوطني.. كانت تعمل مصففة شعر وتملك 'محل كوافير للسيدات'، وبعد ثماني سنوات تزوجها بعد أن طلق زوجته الأولي 'نعيمة الكافي'.. في أكتوبر 2009، صدر كتاب 'حاكمة قصر قرطاج'، للصحفيين 'نيكولا بو.. وكاترين كراسيي'، ليثير زوبعة بسبب المعلومات التي وردت فيه عن سيدة تونس الأولي.. ولدت ليلي الطرابلسي عام 1957 لعائلة بسيطة.. هي البنت الوحيدة بين عشرة ذكور.. حصلت علي الشهادة الابتدائية، ثم التحقت بمدرسة للحلاقة.. تزوجت في الثامنة عشرة من رجل الأعمال خليل معاوي، قبل أن تطلق منه بعد ثلاث سنوات.. ساعدت أسرتها بعد وصول بن علي للحكم تكوين ثروات هائلة 'مشروعات إعلامية.. سياحية وفندقية.. إلكترونية.. توكيلات في كل المجالات والقطاعات.. استثمارات أخري في مجال الطيران والاتصالات والإنترنت والأراضي الزراعية الشاسعة'.
ترأست 'ليلي' المنظمة العربية للمرأة، وجمعية 'بسمة' التي تحظي باهتمام كبير من كل المؤسسات التونسية.. تتولي مهمة الناطق باسم الرئيس.. تحضر أغلب المؤتمرات الرسمية.. تلقي الخطب الرئاسية باسم زوجها حين يتعذر عليه الحضور.. تملك سلطات مطلقة تمكنها من إقالة الحكومة، وعزل المسئولين.. هي الأكثر تأثيرا في قطاع المال والأعمال.. أصبحت تونس دولة رأسمالية، تحتكرها ثلاث عائلات 'الطرابلسي.. بن عياد.. بن يدر'.. تحدثت تقارير السفارة الأمريكية التي كشفها موقع 'ويكيليكس' عن بعض ممتلكات عائلة 'بن علي'، وتورط بعض أفراد العائلة الرئاسية في قضايا غسيل أموال وتهريب مخدرات، مما جعلهم من كبار الأسماء في عالم المال والأعمال، ليس فقط في تونس بل في العالم.
>>>
لذا لم يدم الربيع التونسي طويلا، إذ سرعان ما ظهرت ملامح دولة جديدة تتأسس علي القمع الأمني والفساد، وتفشّي الحديث عن التجاوزات واستغلال النفوذ ونهب المال العام.. اندلعت المواجهة بين السلطة وحركة النهضة، فكان ذلك إيذانا بنهاية سريعة لفُـسحة نادرة وبداية تغيير جوهري لأسلوب تعامُـل النظام مع المعارضة والمجتمع المدني.. استمرت سياسة التضييق علي الحريات.. لاحقا أغلقت تونس مكتب قناة الجزيرة.. حجبت مواقع المعارضة، وموقعي 'youtube' و'dailymotion'، ثم موقع 'facebook'.
تم إغلاق جميع الأبواب أمام التونسيين حتي لا يعرفوا أي حقائق عما يتعلق ببلدهم.. المعلومات التي يتم تسريبها من الخارج كانت خطيرة.. تقرر أن تكون قاعدة 'سيدي حمد' بمدينة بنزرت التونسية مقرا لاستقبال قاعدة الأفريكوم africom الأمريكية، التي تشرف علي الجيوش الأفريقية المتعاونة مع واشنطن في حربها المزعومة علي 'الإرهاب'، بعد أن ظلت قيادة القاعدة الأمريكية 'لسنوات' تتخذ من مدينة شتوتجارت الألمانية مقرها الجديد.
ربط المراقبون بين هذه الخطوة ووصول الرئيس 'بن علي' للسلطة عقب عودته من الولايات المتحدة الأمريكية، التي تلقي فيها تدريبات أمنية واستخبارية.. زاد القلق من نقل صراعات النفوذ والمستعمرات بين باريس وواشنطن إلي تونس.. تداولوا من جديد قضية اغتيال الشاب التونسي، الذي تمكن قبل سنوات من اختراق نظام المعلومات بقصر قرطاج، واكتشافه أسماء عملاء لجهاز الاستخبارات الإسرائيلية 'موساد'، الذين يقومون بالتجسس علي قادة منظمة التحرير الفلسطينية، وغيرها من القضايا الكفيلة بمحاكمة أركان النظام.
>>>
الآن.. يعيش 'بن علي' لاجئا سياسيا في السعودية بشروط حازمة علي الرئيس التونسي وعائلته، لا تسمح له بممارسة أي نشاط أو تحرك سياسي خلال إقامته بالمملكة، وعدم تحريك أمواله إلي السعودية، وعدم الإدلاء بأي لقاءات أو حوارات صحفية أو إعلامية.... إنها المقولة الخالدة 'كما تدين...... تدان'!