التوازنات السياسية وعلاقتها بالأسواق العالمية للنفط
محمد سالم سرور الصبان *
لم تشغل سلعة دولية محور النقاشات العالمية والصراعات الدولية عبر العقود العديدة الماضية مثل ما فعلته سلعة النفط، فنجد أنها على الأجندة التنموية العالمية في إطار الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها وعلى أجندات مجموعة العشرين ومجموعة الثماني واتفاق تغير المناخ وأهداف الألفية واجتماعات التكتلات الإقليمية مثل الإتحاد الأوروبي و»أيبك» و»آسيان». وسيستمر هذا الدور وهذا الاهتمام الدولي المتزايد طالما استمرت أهمية النفط في تشغيل عجلة الاقتصاد العالمي وتحريكها. وتعترف الدول التي حققت نمواً اقتصادياً كبيراً في الماضي بأن توافر النفط وبأسعار رخيصة جداً ساهم في شكل رئيس في تحقيق معدلات النمو المرتفعة لديها وحقق لها التفوق الصناعي الذي تعيشه، في وقت كانت فيه الدول النامية مجرد مُصدّر لهذه السلعة الإستراتيجية وغيرها من المواد الخام من دون تحقيق الاستفادة المثلى من ثرواتها الطبيعية أو عائداتها عبر السنوات الماضية. والأمر وإن تحسن بعض الشيء خلال العقود الأخيرة من خلال استعادة السيطرة على قرار إنتاج النفط من الشركات الدولية، وقيام العديد من الدول المنتجة بزيادة القيمة المضافة من النفط الخام عن طريق الدخول في مجالات تكريره وتصنيعه، إلا أنها لا تزال خطوات خجولة في العديد من الدول النفطية مع غياب واضح لرؤية تحدد ما يجب فعله مستقبلاً.
والعالم المستهلك وإن خفض في شكل كبير استخدام النفط أو استغنى عنه في العديد من القطاعات وكثير من الاستخدامات، إلا أنه لا يزال وإلى وقتنا الحاضر يلهث لإيجاد بديل له في قطاع النقل المستعصي عليه في شكل كبير. ولن يهدأ بال العديد من الدول المستهلكة للنفط إلا بإيجاد بديل حقيقي يحل محل النفط خلال أقرب فترة ممكنة. ولا أعتقد أن ذلك سيستغرق أكثر من عقدين من الزمن على أكثر تقدير وهي فترة قصيرة جداً بكل المقاييس. ومن البديهي القول إننا لا نتوقع - كدول نفطية - بأن العالم سينتظر إلى نفاذ آخر برميل من احتياطاتنا قبل أن يتحول نهائيا عن النفط.
وفي الوقت ذاته والى أن تتحقق أمنية التحول عن النفط، دخلت الدول المستهلكة الرئيسة في صراعات في ما بينها في محاولة للتحكم بمنابع نفطية قائمة أو السيطرة عليها أو الدخول في مناطق جديدة تملك احتياطات نفطية واعدة. وهذه الصراعات وإن اتخذت الطابع التجاري من خلال شركات النفط العالمية، إلا أن الدول بدأت نؤمّن لها المظلة الآمنة - سياسياً واقتصادياً بل وعسكرياً - لتعمل وتتمكن من استغلال الاحتياطات النفطية التي سيطرت عليها بأدنى مقدار من الأخطار. وما حدث في العراق والسودان وبعض الدول الأفريقية الأخرى ودول آسيا الوسطى وأميركا اللاتينية وغيرها يدلل بوضوح على هذه الحقيقة. ونجد أن الاقتصادات الناشئة مثل الصين بدأت منذ فترة تمارس هذه اللعبة الدولية مستفيدة من ثقلها الاقتصادي الدولي وعلاقتها الجيدة مع العديد من دول العالم من جهة، وعضويتها الدائمة في مجلس الأمن من جهة أخرى. والصين - التي دخلت مجال التنافس الجغرافي على مصادر الطاقة والنفط خصوصاً - وإن وجدت ممانعة شديدة عند رغبتها في الاستحواذ على بعض الاحتياطات النفطية ومصافي التكرير في بعض الدول المتقدمة، لقيت ترحيباً من قبل الدول النامية التي تحرص على استقطاب الاستثمارات الأجنبية الأمر الذي أدخلها ذلك في صراعات خفية مع دول متقدمة مثل الولايات المتحدة واليابان.
أما علاقة الدول المنتجة للنفط بالدول المستهلكة فقد بدأت بالمجابهة العلنية في ما بينهما، ما لبثت أن تحولت إلى حوار بدأ متحفظاً من قبل بعض الدول المستهلكة وتحول إلى حوار كامل يشمل كل المواضيع المشتركة بين المنتجين والمستهلكين. وحتى أسعار النفط والتي كان محظوراً تداولها في بدايات الحوار، أصبحت تُناقش وفي شكل كامل في إطار السعر العادل المشترك للكتلتين. وكان للسعودية الفضل الأكبر في تحول هذا الحوار إلى حوار هادئ وفاعل يقر بوجود اختلافات في المصالح والرؤى تجاه مختلف المواضيع ويدفع إلى تعزيز المشترك منها. وتبنت السعودية بمبادرة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز استضافة سكرتارية «منتدى الطاقة الدولي»، ويُتوقع قريباً تبني ميثاق يحكم علاقة هذا الحوار ويعزز فاعليته. ويمثل اختلاف نظرة كل منهما لمفهوم مسألة «أمن الطاقة» نقطة جوهرية تسيطر على كثير من النقاش بين المجموعتين، إذ لا تعترف الدول المستهلكة للنفط إلا بـ «أمن الإمدادات» تفسيراً وحيداً لمفهوم أمن الطاقة بينما تصر دولنا المنتجة على ضرورة إعطاء أهمية مماثلة لمسألة «أمن الطلب» كجزء مكمل وأساسي لمفهوم أمن الطاقة. إلا أن الحوار أدى إلى مزيد من التفاهم حول هذه النقطة وغيرها، وأثبت ألا بديل لمثل هذا الحوار ليحل محل أي صراعات محتملة بين الكتلتين.
هل من منطق في تبني سياسة تقليص الاعتماد على النفط؟ تنطلق مبررات تقليص الاعتماد على النفط - وهي المسألة التي تتبناها العديد من الدول الرئيسة المستهلكة للنفط - ومحاولة الاستغناء عنه وإيجاد بديل له، من محاور كثيرة يمكن تلخيصها من خلال التالي:
1 - منظور أمن إمدادات الطاقة، ويتمثل في التخوف السائد لدى المستهلكين من أن معظم الاحتياطات النفطية متركزة في دول نامية يعاني بعضها حالات من عدم الاستقرار السياسي والأمني مثل نيجيريا وفنزويلا والعراق وغيرها، وهي ذريعة وإن صحت في جزء منها، فهي غير مقبولة في شكلها العام. فعلى مر العقود الماضية لم تكن مسألة الإمدادات النفطية مشكلة على الإطلاق، وحتى في أصعب الظروف السياسية والعسكرية التي مرت ببعض الدول النفطية، سواء خلال الحرب الخليجية أو الحروب الأهلية في مناطق مثل نيجيريا، كانت السعودية - وهي المصدر الآمن والموثوق به في مجال تأمين الإمدادات النفطية - تحتفظ على الدوام بطاقة إنتاجية فائضة لا تقل عن مليوني برميل يومياً جاهزة لسد أي نقص محتمل في إنتاج بعض الدول المنشغلة بالنزاعات، وأثبتت قدرتها على القيام بدورها في المساهمة في استقرار سوق النفط العالمية ورغبتها في ذلك، وهو في مصلحة الجميع.
2 - منظور تزايد متسارع في إعادة توزيع العائدات المالية باتجاه الدول النامية، وعلى رغم إلزامية تدوير الجزء الأكبر لهذه العائدات المالية لتصب مرة أخرى في الدول الصناعية بسبب اعتماد العديد من الدول النامية البترولية المطلق على استيراد معظم احتياجاتها من الدول الصناعية وتفضيل استثمار الفائض في المؤسسات المالية للدول الصناعية لمبررات عديدة.
3 - منظور أن تقنيات مصادر الطاقة الجديدة إنما تنطلق من الدول الصناعية والى مختلف الأسواق العالمية، وكلما زاد انتشار استخدام هذه التقنيات، اتسعت أسواقها وكُتب للدول الصناعية استمرارية تنافسيتها الاقتصادية والتقنية في مقابل الدول النامية والناشئة، وتعرف هذه الدول أن تكلفة العديد من تقنيات مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة لن يُكتب لها الانخفاض إلا بإدخال التحسينات اللازمة وتعميم انتشارها في مختلف الأسواق.
4 - منظور التوفير الكبير الذي سيحدث تدريجاً في فاتورة الواردات النفطية للدول المستهلكة وتخفيف العبء على موازينها التجارية، وهذا المبرر تستخدمه الدول الصناعية لإقناع بعض الدول النامية المستهلكة للنفط لتبني سياسات دولية مشتركة تهدف إلى الحد من الاستهلاك العالمي للنفط.
أخذت مسألة تقليص الاعتماد على النفط والتصريح بذلك بعداً سياسياً وعلى أعلى المستويات مصحوباً بالسياسات الرامية إلى تحقيق الهدف. وهي وإن كانت مقبولة في الفترة الماضية قبل الدخول في مرحلة العولمة الاقتصادية ذات شعار الاعتماد التجاري المتبادل بين الدول، فإنها تعتبر الآن وسيلة نحو الحمائية التجارية والتي لا تساعد في تعزيز التجارة الدولية الحرة.
هل تستمر الأسعار الحالية المرتفعة للنفط؟ وبغض النظر ما إذا ستستمر أسعار النفط في التزايد متجاوزة مئة دولار للبرميل، أم تعود إلى معدلات العام الماضي في حدود 75 دولاراً للبرميل، لن يغير ذلك من حقيقة أن هناك كثيراً من المبالغات التي تكتنف أسواق النفط العالمية والتي رسخت في الأذهان وكأنها حقيقة لا مجال للتشكيك فيها، وهو ما أدى إلى إذكاء المستويات المرتفعة التي تشهدها أسعار النفط أخيراً، غير مهتمة بأساسيات العرض والطلب والتي يُفترض أنها تحكم الأسواق التي اتجهت إلى ترسيخ المضاربات على النفط في اتجاه واحد وزيادة الطلب على العقود الآجلة له. وإذا أردنا استعراض أهم هذه المبالغات المرتبطة بالمتغيرات الرئيسة لكل من العرض والطلب العالمي على النفط، فستكون على النحو التالي:
أولا: إن عهد النفط الرخيص ولى إلى غير رجعة، وإن تكاليف برميل النفط ارتفعت وفي شكل كبير. وغذى هذه المبالغة ما صدر من دراسات وتقارير حول نظرية تسارع نضوب النفط وأن إنتاج النفط العالمي وصل إلى ذروته وسيأخذ في الانحدار السريع خلال السنوات القليلة المقبلة. وعلى رغم دحض هذه النظرية حتى من مؤسسات الدول المستهلكة ذاتها، مثل وكالة الطاقة الدولية، أبقى الاستمرار في نشر مزيد من نتائج هذه الدراسات على التخوفات في شأن الإمدادات المستقبلية للنفط. صحيح أن تكلفة إنتاج النفط قد ارتفعت في بعض المناطق الإنتاجية أكثر من غيرها، وأيضاً في ظل ارتفاع أسعار مختلف السلع والخدمات، ولكنها تظل طبيعية مقارنة بوضع تكاليف إنتاج السلع والخدمات عالمياً. وبالطبع يمكن القول أيضاً أن ثمة اتجاهاً لدى بعض الدول إلى إنتاج النفط غير التقليدي مثل النفط الرملي ذي التكاليف المرتفعة، لكن هذا الاتجاه نحو هذا النوع من الخام غير التقليدي لم تفرضه ظروف نقص إنتاج النفط التقليدي بمقدار ما فرضته الظروف السياسية وامتلاك دول مثل كندا لاحتياطات كبيرة من هذا النوع من الخام غير التقليدي.
ثانيا: إن فرص اكتشافات نفطية جديدة قد أصبحت شبه معدومة، وهذه أيضاً تعاني من مبالغة، فقد سادت هذه المقولة منذ ثمانينات القرن العشرين، وما حدث ويحدث من اكتشافات جديدة يدحض هذه المبالغة، والسبب الرئيس في انخفاض وتيرة الاكتشافات الجديدة - بحسب ما تؤكده العديد من المؤسسات الدولية وعلى رأســــها وكالة الطاقة الدولية - هو عدم التخصيص الكافي للاستثمارات في هذا المجال، خصوصاً أخيراً في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية. وعلى رغم ذلك نجد أن هناك اكتشافات جديدة في العديد من الدول داخل «أوبك» وخارجها مثل البرازيل وغانا والسودان وفنزويلا وغيرها.
ثالثا: إن معدلات الطلب العالمي على النفط ستتزايد وفي شكل كبير في السنوات القليلة المقبلة، وتحمل هذه العبارة أيضاً كثيراً من عدم اليقين، خصوصاً في ظل ظروف الشكوك العديدة القائمة والمتعلقة بطبيعة التعافي المستدام للاقتصاد العالمي وتوقيته، وطبيعة السياسات والإجراءات الدولية المتخذة «لخنق» الطلب العالمي على النفط والحد في شكل كبير من معدلات نموه ومدى تأثير هذه السياسات. وتستند هذه المبالغة دائماً إلى الصين كدولة ولاعب رئيس في سوق النفط العالمية من خلال حجم سكانها الهائل والمستوى المتدني لمتوسط استهلاك الفرد من الطاقة وامتلاكه لوسائط النقل. وبالتالي سيعني أي تغير ولو بسيط في تحسن مستوى معيشة الفرد الصيني ارتفاعاً كبيراً في معدلات الطلب الصيني على النفط. ويجري التذكير أيضاً بالدول النامية الناشئة الأخرى مثل الهند والبرازيل وحتى بعض الدول البترولية التي يجمح فيها الطلب المحلي على النفط بمعدلات متزايدة وإن كانت تقل عن تلك التي تشهدها الصين. وكلنا يعرف أن الصين وعلى رغم أنها خامس منتج للنفط في العالم بإنتاج يومي في حدود أربعة ملايين برميل يومياً، إلا أنها تستهلك أكثر من ضعف هذه الكمية، إذ قارب مجمل استهلاكها النفطي 10 ملايين برميل يومياً نهاية العام الماضي، وهي معدلات استهلاك ارتفعت في شكل كبير منذ النصف الثاني من العام الماضي ومرجح استمرارها في التزايد. ويعود ذلك في درجة رئيسة إلى معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة للصين والتي تقارب 10 في المئة سنوياً، وهي التي وضعتها حالياً كثاني اكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة متجاوزة اليابان.
إلا أن الظروف الحالية بدأت تدفع الحكومة الصينية نحو اتخاذ إجراءات تكبح حدة هذا النمو في محاولة منها للسيطرة على معدلات التضخم الذي بدأت تعاني منه.
ومن ضمن هذه الإجراءات رفع أسعار الفائدة وغيرها من أدوات السياسة النقدية التي قد تقلل في شكل كبير من معدلات نمو الاقتصاد الصيني في المرحلة المقبلة وهو ما يؤثر في معدلات الطلب الصيني على النفط كونه طلباً مشتقاً.
وهناك حقيقة تغيب عن أذهان كثيرين منا وهي اتجاه الصين وغيرها من الدول المستهلكة الرئيسة للنفط إلى تبني سياسات مماثلة للسياسات التي تتبعها الدول الصناعية في الحد من معدلات نمو الطلب المحلي فيها على النفط، بما في ذلك إجراءات ترشيد الاستخدام والتحول إلى مصادر الطاقة الأخرى، ووضع الحوافز والضوابط لتحقيق أهداف خفض استهلاكها من مصادر الطاقة.
وبغض النظر عما إذا كانت معدلات الزيادة في الطلب العالمي على النفط من الاقتصادات الناشئة في العالم النامي وعلى رأسها الصين ستستمر، هناك حقيقة مقابلة لها قد تعمل تدريجاً على تحييد هذه الزيادة - أن استمرت - وتتمثل في أن الطلب العالمي على النفط من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية( الدول المتقدمة) وصل إلى معدلاته القصوى (الذروة) بحسب اعتراف وكالة الطاقة الدولية وسيبدأ في التراجع التدريجي في المستقبل القريب نتيجة لنجاح السياسات التي تبنتها في مجالات زيادة كفاءة الاستخدام والتحول إلى مصادر طاقة بديلة. وستحدد النسب المئوية السنوية لمقدار هذا التراجع المتوقع في طلب الدول المتقدمة على النفط ومقارنتها بنسب الزيادة السنوية في طلب الاقتصادات الناشئة وبقية الدول النامية، ستحدد طبيعة اتجاه معدلات الطلب العالمي على النفط مستقبلاً، وهو الأمر الذي يستدعي كثيراً من الشكوك وبالتالي لا يمكن الجزم بتزايد معدلات الطلب العالمي على البترول وبالصورة التي تحملها بعض التوقعات المتداولة.
* اقتصادي سعودي