ليلة رحيل بن علي ... في شقة في شارع أتاتورك
ايزابيل موندرو وكاترين سيمون *
في شقة في المبنى الرقم 3 القائم على جهة من شارع أتاتورك، غير بعيد من جادة بورقيبة، اجتمع عشرات من المتظاهرين هرباً من هراوات الميليشيا التي سلكت من غير رقيب في شوارع تونس العاصمة وطرقها. وعلم المحاصرون بخبر هرب الرئيس زين الدين بن علي، الساعة السادسة بعد الظهر (في 14 كانون الثاني / يناير) بواسطة رسالة هاتفية قصيرة. فاستقبلوا الخبر بالتهليل.
وتكاد مريم بلال، والآخرون مثلها، لا يصدقون حصول الثورة الاولى في العالم العربي هنا، في تونس. وفي أثناء دقائق البهجة الاولى، تبادل المحاصرون التهنئة، وصفقوا، وأخرجوا علماً تونسياً لوّحوا به على شرفات الشقة. ولكن القلق ما لبث أن عاد سريعاً، ليخيّم على الملتجئين الى شقة شارع أتاتورك. فبن علي ذهب، ولكن البوليس المخيف لا يزال في البلد. وفي انتظار ان تستعيد تونس روعها، وتنصّب حكومة فعلية جديدة يطلق البوليس العنان لانتقامه وثأره. فالضرب المبرح والقاسي يسد طريق النجاة على ضحايا فرق الشرطة. ومنع التجول يبقي الناس أسرى الملاجئ والمخابئ.
وفي الشقة الصغيرة، وهي من غرفتين ومطبخ ودورة مياه، لم يبق محل لقدمين. والمحاصرون يهاتفون الاصحاب والاهل في الهواتف النقالة ويهمسون. وترد الاخبار من أنحاء المدينة، ولكنها لا تدعو الى الاستبشار خيراً. فأعمال النهب والتعدي على الناس والاملاك تتكاثر. وبعضها يبادر أفراد الشرطة وقوى الامن اليها، متعاونين مع عصابات الجريمة. وقوى الامن لم تبق في إمرة قائد يأمرها. والجيش انتشر في أنحاء البلاد كلها، ويبدو عاجزاً عن الحؤول دون تفاقم الحال.
وبعض اللاجئين الى شارع أتاتورك ما زال يذكر مشاهد مروعة لم تنقضِ على بعضها دقائق. فهم رأوا صبية تقع على ركبتيها، فيهجم ثلاثة شرطيين عليها، ويصفعون وجهها، ويركلونها بأحذيتهم. ويجر آخرون شاباً من شعره، ويضربونه بالأيدي والعصي. وآخرون يدفعون متظاهرين، يسيل الدم من وجوههم، الى الجدران دفعاً عنيفاً. وناديا (18 عاماً) التي شهدت هذا قبل لجوئها، وهربت منه، تنشج متكئة على جدار الغرفة. وآخرون لا يدارون أمارات الانهيار، ويريدون مغادرة الشقة التي انقلبت مصيدة. ولكن المصيدة في كل مكان. ومن الطريق، وراء الستائر، تترامى صيحات الالم، ويتردد صدى الابواب المحطمة. ويؤذن هذا بانسدال ليل طويل على المحاصرين.
وتتعالى هتافات المتظاهرين من المساء الذي يلف المدينة: «بن علي قاتل!» «عشرون سنة من التخريب تكفي! إرحل!»... ويعقب المحاصرون، وهم يهمسون، على الهتافات: «لم تبق عائلة واحدة في تونس لم يسرقها ولم يُهنها ويذلّها هؤلاء الاوباش والحثالة. وما يقوله بن علي هو كلام لص، ولا يصدقه أحد». ويذهب لطفي بن مصبح، وهو طبيب في الواحدة والخمسين، الى أن حكومة الوحدة الوطنية «ترقيع». «فما دام بن علي في تونس فهو الحاكم ولا رأي للحكومة ولا للمجلس النيابي». وتدمع عينا موظف في شركة طيران تونس وهو يقول: «التظاهر في الشارع هو فرصتنا الاخيرة. ونحن لا نريد تخفيض سعر الحليب، بل نريد الكرامة».
وجمهور الشقة فيه مدلكات حمام ومحامون وممرضون وفنانون وجامعيون وتجار ومستخدمون وعمال. وبعض المتظاهرين جاؤوا فرادى، وآخرون جماعة أو مع أسرتهم. وتعتلي جماعات من الشبان سطوح الحافلات. وتحمل الأعلام الوطنية، وتلوح بها، وتنشد النشيد الوطني. وبعض المغامرين الشجعان يتمسكون بشبابيك وزارة الداخلية وقضبانها. وعلى الرصيف يصفر الجمهور، ويصفق، ويمازح بعض بعضاً. ويرتجل شعراء، هم أولاد الساعة، الشعر في هجاء نظام مرتجل: «هذه السعادة كلها/ لم أحلم بها»، «ينظم» طبيب الاطفال دادوش وهو يضحك.
وبعيد إعلان بن علي تركه الحكم أوكل الى الوزير الوحيد توليه موقتاً. وأعلن هذا قراره إجراء انتخابات في غضون 6 أشهر. وتناهت الأخبار عن نهب المتظاهرين بعض دور آل طرابلسي، إخوة زوجة بن علي، وعن مقتل أحدهم. وناقش المحاصرون الاخبار هذه من غير تحفظ. وقطعوا مناقشاتهم حين اقتربت خطوات الميليشيات. وسكتت الاصوات خوفاً. وأُعلم أحد الديبلوماسيين الفرنسيين، إيتيين شابون، بالوضع في الشقة. فحاول المفاوضة بواسطة الهاتف، من غير جدوى. فما كان منه إلا أن جاء، الساعة الثالثة صباحاً، وحضر الى شارع أتاتورك بنفسه. وكان تجمهر أمام المبنى الرقم 3 أفراد من البوليس ومعهم عشرات من المجرمين المسلحين. وحين خرجنا، لم يف الشرطيون بوعدهم، فصفّوا التونسيين في جهة، وصرفوا الفرنسيين الى جهة أخرى قادتهم الى السفارة. وصباح اليوم التالي لم نعرف ما حل بالعشرين تونسياً. وكانت الاحذية المتفرقة تملأ طرق المدينة المقفرة.
* مراسلتان، عن «لوموند» الفرنسية، 16-17/1/2011، اعداد: منال نحاس.