الجوزو.. المفتي الذي يتشرف بشتمه
رجل دين بدأ حياته بالعمل في الصحافة الفنية بالقاهرة.. يثير الجدل في لبنان
بيروت: ليال أبو رحال
لا يغيب اسم مفتي جبل لبنان، الشيخ محمد علي الجوزو، عن أحد في لبنان، سواء أيده في أفكاره ومواقفه أم عارض جرأته المثيرة للجدل. قيل عنه المفتي «المشاغب» أو «المشاكس»، الذي يصل في مواقفه إلى الحد الأقصى ويتخطى أحيانا «الخطوط الحمر». خصومه لا يترددون في نعته بالـ«عميل الأميركي» و«المفتن». ولا يتوانون عن تذكيره ببداياته عندما كان يعمل في الصحافة الفنية في القاهرة. وحتى إنه نجح مؤخرا بأن يغضب «حلفاءه»، عندما انتقد البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير.
ولكنه هو لا يأبه بالانتقادات التي يوجهها إليه خصومه في السياسة، مهما كانت قاسية. ولا يعير اهتماما للحملات التي تطاله بين الحين والآخر. سهام نقده لا تستثني مجالا، بدءا من الإعلانات الفاضحة وبرامج النكات البذيئة التي تتنقل من شاشة إلى أخرى، والبرامج التلفزيونية التي تحول التلفزيون إلى «كازينو لبنان داخل كل منزل»، على حد تعبيره، مرورا بحزب الله، الذي قال عنه يوما إنه «أشد خطرا على لبنان منه على إسرائيل»، وبحليفه النائب ميشال عون الذي يصفه بـ«أداة يحركها حزب الله كيفما يشاء»، وصولا إلى «عتبه» على البطريرك صفير بعد حديثه عن وجود أقلية مسيحية «نوعية» في لبنان.
ويبرر الجوزو، المفتي السني، عتبه على البطريرك صفير بالقول لـ«الشرق الأوسط»: «لا يمكن لأحد أن يتحدث اليوم عن (نوعية)، فهذا التمييز ليس مقبولا، ولا يمت للديمقراطية بصلة، لأن (النوعية) موجودة عند كل الطوائف»، مؤكدا معارضته لرأي البطريرك الماروني في هذا السياق على «رغم احترامه المطلق لمواقفه الوطنية».
وإذا كان المفتي الجوزو، مؤسس دار الإفتاء في منطقة جبل لبنان منذ عام 1962، عاد وأوضح ما صرح به تعليقا على مواقف للبطريرك صفير، بعد صدور كثير من المواقف «المسيحية» المستنكرة، حتى من حلفاء الصف الواحد، مذكرا بأن المسيحيين عندما يهاجمون بعضهم يهاجمون بشراسة و«بينهم ما صنعه الحداد»، إلا أن مواقفه من عون وحزب الله بقيت على حالها منذ عام 2005.
«للسيد حسن نصر الله كاريزما، وأنا لدي كاريزما وجمهوري» يقول المفتي الجوزو، الذي أتم دراسته الثانوية والجامعية في جامعة الأزهر في مصر، وتخرج منها حاملا الإجازة في اللغة العربية والتاريخ الإسلامي، ودبلوم تربية وعلم نفس وتخصص قضاء، إضافة إلى الدكتوراه من جامعة السوربون في باريس عن رسالته «مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة».
«أنا أقول كلمة الحق»، يقول الجوزو لـ«الشرق الأوسط». ويسأل، تعليقا على وصفه بـ«المفتي المشاغب»: «هل من أحد لا يشاغب في لبنان؟ كل جماعة حزب الله مشاغبون وميشال عون أكبر مشاغب»، مؤكدا أن وصفه هذا «يدلل على أنني شخصيا لي تأثيري وحضوري وأتحدث في الصميم، لأن قول كلمة الحق أمر صعب».
لا يتوانى المفتي الجوزو عن تذكير النائب عون بملفات مالية سابقة. لأن الأخير صاحب شهية مفتوحة على «إدانة الآخرين من دون أن يدين نفسه». تارة يسميه «جنرال التعطيل»، وتارة يعتبره «بطلا لا يحارب ولا يبارى في تقسيم الصف المسيحي والوطني». ويقول الجوزو: «ميشال عون لم يكن يوما إلا قاسيا في تصريحاته، فهو يهاجم ويوزع الاتهامات يمنة ويسرة، وبالتأكيد عندما يطال جماعتنا بأسلوب خارج عن المألوف السياسي لن نسكت وسنردّ عليه».
إلى جانب عون، يظل حزب الله هدفا دائما لسهام المفتي الجوزو. وفي هذا الإطار، يؤكد الجوزو اليوم أنه مع «حزب الله عندما يقاوم إسرائيل، ولكن عندما يقاوم بالداخل فهذا أمر آخر»، معتبرا أن مشكلة حزب الله اليوم «داخلية»، مع قضية «شهود الزور» ومع المحكمة الدولية التي يعتبرها إسرائيلية وأميركية مسيسة». ويشدد على أن «ثمة ناس اغتيلوا ودماء سالت على أرض لبنان، ومعرفة الحقيقة أقل ما يمكن لنا أن نطالب بها».
توتر علاقته مع حزب الله تزامن مع التغير في الوضع السياسي في لبنان منذ اغتيال رئيس الحكومة الراحل، رفيق الحريري، وازداد تدريجيا بعد انسحاب وزراء حزب الله من حكومة فؤاد السنيورة الأولى أواخر عام 2006، بسبب معارضتهم للمطالبة بمحكمة دولية تحاكم مرتكبي جريمة اغتيال الحريري والجرائم التي تلتها، مرورا بأحداث «7 أيار» 2008 التي شكلت صورة مصغرة عن حرب أهلية في أحياء بيروت، وصولا إلى بدء «حزب الله» مسيرة «تعطيل» المحكمة الدولية منذ شهر أغسطس (آب) الماضي وحتى اليوم.
وينتقد الجوزو توجيه حزب الله سلاحه إلى الداخل، ويوضح «لا سلاح لدينا يخيف الناس، ولا يمكن لنا الاستمرار بالعيش في ظل التوتر والخوف من انفجار جديد».
في تصريح له إثر أحداث «7 أيار»، قال الجوزو: «ليس شجاعة ولا بطولة ولا رجولة ما قام به حزب الله من عدوان على بيروت العاصمة وعلى أهلها الذين احتضنوهم. وليس صحيحا ما أورده الأمين العام لحزب الله (السيد حسن نصر الله) من حجج واهية لتبرير هذا العمل الجبان الذي كان توطئة لإشعال حرب طائفية ومذهبية». وسأل «أي فضل نذكره للمقاومة؟ محاولة إسقاط الحكومة بالانسحاب منها للهروب من المحكمة الدولية التي ستحاكم رؤوسا كبيرة ارتكبت الجرائم وعلى رأسها اغتيال الرئيس الحريري؟».
وتعليقا على احتفالات ما سمّي بـ«النصر الإلهي» لحزب الله خلال عدوان يوليو (تموز) 2006، اعتبر الجوزو في حوار نشرته صحيفة «روز اليوسف» المصرية في ديسمبر (كانون الأول) 2006، أن «الثلاثين يوما التي يفخر حسن نصر الله أنه صمد خلالها حدثت جبريا من قرار أميركي طلب من إسرائيل أن تطيل مدة الحرب وتضرب بالطيران من أجل أن تدمر أكبر منشآت ممكنة»، لافتا إلى أن «هذا كله لا يعد نصرا، النصر ليس مجرد أن أضرب صواريخ على إسرائيل».
ولرئيس اللقاء الديمقراطي، النائب وليد جنبلاط، جار منطقة إقليم الخروب التي يتحدر منها الجوزو (من بلدة برجا)، نصيبه من انتقادات المفتي، لا سيما بعد انعطافته السياسية في الثاني من أغسطس 2009، حيث أبدى الجوزو آنذاك «عتبه على الزعيم الدرزي عندما يتحدث عن خصوصية طائفته في الجبل، ويتناسى أن هناك قلعة عربية كبرى في الجبل هي إقليم الخروب التي وقفت إلى جانبه وجانب أبيه (الراحل كمال جنبلاط) وأسهمت في الحفاظ على الزعامة الجنبلاطية، وكانت بيضة القبان في جميع الانتخابات النيابية».
ويصف الجوزو علاقته بجنبلاط بالقول: «علاقتي به هي علاقة مع زعيم في منطقتي، وعندما يقوم بما نريده من مطالب يحصل على كل الرضا، وعندما يخطئ فعلينا تنبيهه»، مشددا على أنه «ليس بصدد منافسة معه لأنه لن يترشح للانتخابات النيابية ولا يطمح إلى زعامة تنافس عامة جنبلاط».
لا ينكر أحد أن مواقف الجوزو المثيرة للجدل كانت تحرج في بعض الأحيان رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، خصوصا عند مهاجمته حلفاء سورية اللبنانيين بشكل فاقع، وحملاته المتواصلة على الأميركيين حتى بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
ويروى أن الرئيس رفيق الحريري أرسل لطلبه ذات يوم ودعاه إلى أن يكف عن إطلاق الموافق النارية، وسأله «إلى متى ستبقى أبو علي؟ فرد الجوزو مازحا: أنت مستاء مني لأني أبو علي».
وفي حين يحمل خصوم الجوزو عليه عدم ثباته في مواقفه، ويتهمونه بأنه كان من المؤيدين لسورية خلال فترة وصايتها على لبنان، يرد على ذلك بأنه تعاطيه المحدود مع السوريين، كغيره من القيادات والمسؤولين لم يكن خيارا، إنما أملته قوة الأمر الواقع في تلك «الحقبة السوداء».
وحتى أشد خصوم الفتى «المشاغب» يقرّون بجرأته حتى في أوج حكم المخابرات السورية للبنان، في مهاجمة بعض الشخصيات والتنظيمات اللبنانية الموالية لسورية إلى أقصى الحدود، ومن بينها «جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية» المعروفة بـ«الأحباش»، حيث كان ينعتها في خطاباته بـ«جماعة التكفير»، ولا يبالي بالرسائل الاعتراضية التي كانت ترده من السوريين الذين كانوا شديدي الرغبة في إقالته من منصبه، لكن حيثيته الدينية والشعبية كانت تصعّب عليهم هذه المهمة.
ذات يوم، وقبل انسحاب الجيش السوري من لبنان، سئل الجوزو عن موقفه من هجوم شنه سياسي موالٍ لسورية عليه، فأجاب قائلا: «لن أنحدر إلى مستوى ماسحي الأحذية في بلاط عنجر (المقر العام لقيادة المخابرات السورية في لبنان) وهذا ما زاد من الاستياء السوري ضده».
واليوم لا يوفر هذا الرجل سورية من انتقاداته، عندما يقول «إننا لا نزال اليوم في ظل الحكم السوري». وفي إطلاله تلفزيونية له في يونيو (حزيران) الماضي، سأل الجوزو: «من يحكم البلد أكثر؟»، ليجيب بعد ذلك: «من معه السلاح السوري وينتمي إلى سورية ويرسم سياسة البلد»، مشيرا إلى «أن سورية خرجت عسكريا وليس سياسيا».
أما عن علاقته بمصر التي درس فيها وتزوج منها، في ظل الأقاويل التي تتردد عن عمله لحساب المخابرات المصرية بين الحين والآخر، فيؤكد المفتي أن «مصر بلدي الثاني، وهي من أهم الدول التي زرتها يوما، وكل كلام يزيد عن علاقة الاحترام التي تربطني بها كذب وافتراء». ويشدد على أن «كل كلام يزيد عن علاقة الاحترام التي تربطني بها كذب وافتراء»، مشددا على أن «هذه الشائعات ليست إلا دجلا». ويسأل: «هل تنتظرني مصر لبناء سياستها في لبنان؟».
في مقابل المواقف «الصادمة» التي يطلقها المفتي الجوزو، لا يتردد خصومه في رد الكيل كيلين. في نظر حزب الله هو «عميل أميركي»، وفي نظر عون وتياره السياسي هو «المفتن» والساعي لتهجير المسيحيين من لبنان وتوطين الفلسطينيين.
وبينما يحمّل خصوم الجوزو رئاسة الحكومة مسؤولية مواقفه، باعتبار أن دار الإفتاء وما يتفرع عنها يتبع مباشرة في لبنان لرئاسة الحكومة، فإن الردود لا تقتصر على الكلام السياسي فحسب، إذ نظم الوزير السابق وئام وهاب قصيدة للمفتي تلاها مباشرة على الهواء أثناء حلوله ضيفا على قناة «المنار»، الناطقة باسم حزب الله.
ومما قاله وهاب:
«عميل في مقدمة الرموز يجوز بشرعه ما لا يجوز محب لاكتناز المال دوما يجاهر في العمالة كي يفوز...».
وفي خضم الردود التي صدرت على موقف الجوزو من البطريرك صفير و«المارونية السياسية» التي اعتبر أنها جرّت الويلات إلى لبنان، دعا أحد النواب في كتلة عون المفتي الجوزو للعودة إلى «الكتابة عن الراقصات»، في انتقاد لاذع يشير إلى عمل الجوزو في الصحافة الفنية أثناء وجوده في القاهرة، وقبل دراسته للشريعة في الأزهر.
ويشير الجوزو في هذا الإطار، إلى أنه عمل قبل انتقاله إلى القاهرة لمتابعة دراسته الثانوية، كمدقق لغوي لحساب إحدى الصحف الصادرة آنذاك في لبنان، بسبب ثقافته العربية الجيدة باعتباره تلميذ مدرسة «المقاصد». ويقول: «لم أكتب كلمة واحدة (كصحافي فني) في مجلة الكواكب، وقالوا إنني أعرف تحية كاريوكا...».
ويضيف أنه أثناء وجوده في مصر كان يأخذ الأخبار الفنية من صديق له يعمل في عدد من الصحف وينشرها. ولا يتردد الجوزو في الافتخار بعصاميته: «هذا فخر لي، إذ انتقلت من مرحلة من هذا النوع إلى أخرى. هذه عصامية وأنا أفتخر بأنني عصامي، بدأت من تحت الصفر».
على الرغم من تعرض منزله لحادثتي إطلاق نار في عام 2007، وكل الاتهامات التي تلاحقه، يحافظ المفتي الجوزو على وتيرة مواقفه، مقتنعا بأن «الأعمار بيد الله، وماذا سيأخذ من الدنيا أكثر مما أخذ منها». ينفي تعرضه لضغوط من دار الفتوى أو من قبل الرئيس سعد الحريري، مشددا على أن «كل مواطن حر بقول ما يريده، فنحن في بلد ديمقراطي، وإذا رفعنا السقف أحيانا؛ فلنرد على مواقف تطالنا وتجبرنا على رفعه».
يرفض وصفه بالتطرف في مواقفه، انطلاقا من قناعته بأنه «لا وجود لإنسان معتدل في لبنان». «السياسيون كلهم متطرفون، أي جهة لدينا ليست متطرفة؟» يسأل، ويشير إلى أن «نواب حزب الله عندما يتحدثون يبلغون أقصى درجات التطرف، وجماعة عون أكثر منهم، إلى درجة أن ميشال عون بات مدرسة في التهجم والتطاول في لبنان اليوم».
وفي إطلالة تلفزيونية له في سبتمبر الماضي، قال المفتي، ابن بلدة برجا الشوفية: «يشرفني أنني لست كالنعجة أسكت. أنا رجل أؤمن بأن على الرجل أن يقول كلمة الحق مهما كان السبب. الشتائم تهبط علي من كل جانب، وهذا شرف لي. كلما هاجمني هؤلاء، شعرت بأن كلمتي قوية وبأنها مؤثرة».