الإسلاميون في مصر يغتالون أنوار السادات أثناء استعراض عسكري
خلفه حسني مبارك الذي قدم تنازلات عديدة للمتطرفين على المستوى الاجتماعي والثقافي
كتاب «صدام الأصوليات» للمفكر البريطاني المعاصر ذي الأصل الباكستاني طارق علي، هو عبارة عن رحلة تاريخية تحليلية مادية تنقلنا إلى أعماق العلاقة بين الشرق والغرب،
وتتوقف عند أسباب نشأة الإمبراطوريات الحديثة واستراتيجياتها الإيديولوجية والاقتصادية. ينظر صاحبه في وجود الديانات السماوية ودورها في تعبئة الناس، وفي ظهور الطوائف والأصوليات والجهاد والحملات الصليبية، ينظر في الوهابية والأندلس والاستشراق والإمبراطوريات الغربية قبل أن يتطرق للإمبراطورية الأمريكية والثورة الشيوعية و«الحرب الباردة» والحداثة والكيان الصهيوني ونكبة الفلسطينيين و«العدوان الثلاثي» والثورة الإيرانية وحروب الخليج وأحداث 11 شتنبر 2001.
المنظمة التي كانت تتوفر على رصيد من التجارب المتراكمة في مجال العمل السرّي هي «الإخوان المسلمون» وتشعباتها الراديكالية. كانوا قد اخترقوا الجيش فقرروا الآن القيام بعملية مذهلة وأمام أنظار الجميع لإبراز عدائهم للنظام القائم. وفي السادس من أكتوبر 1981م، أيْ أربع سنوات بعد «الانفتاح»، كان الرئيس المصري يردّ على التحية خلال استعراض عسكري عندما صوَّب أربعة جنود أسلحتهم ورشّوا مِنصة كبار الشخصيات الحاضرة بنيران الأسلحة الرشاشة، مما أدى إلى مصرع السادات وإصابة عديدين بجروح. تفجّعتْ عليه النخبة المصرية، أمّا العامّة فلمْ تبال. المفارقة مع جنازة جمال عبد الناصر كانت بارزة للغاية.
ألقِي القبض على المغتالين وحوكِموا وأعدِموا. ومنذئذٍ، منِعت الذخيرة الحيّة خلال الاستعراضات العسكرية، وليس في مصر وحدها. إلا أنّ الظروف الداخلية والخارجية التي أدّت أصْلا إلى صحوة قوية للإسلاميين لم تتغير. حل محل السادات حسني مبارك، الذي قدم على الفور عدة تنازلات للمتطرفين الدينيين في الحقلين الاجتماعي والثقافي مقابل الاحتفاظ لنفسه بدكتاتورية أكل عليها الدهر وشرب. هذا الأمر زاد من قوة الإسلاميين ووسّع قاعدة انتشارهم في المجتمع المصري. غير أنّ الحدث الذي سيلهب انفجار الحماس السياسي الديني كانت وقائعه خارج العالم العربي.
الخطوط الرمزية للمعركة رُسمت في 1971م، عندما أقدم عاهل مغرور بنفسه وواثق منها أكثر من اللزوم، يحجب عنه مديحُ المتملقين في الداخل والخارج رؤية الأمور، وغيرُ واع بانعزاله عن الشعب، على محاكاة المخرج السينمائي سيسيلْ ب. دُوميلْ (1881-1959م، المحب للظهور وإخراج أفلام ضخمة). فقد أراد هذا العاهل إقامة حفل عيد ميلاد لتخليد ذكرى قورش (سيروس) العظيم و2500 سنة من «الملوكية الإيرانية». وعلى غرار كل الجوانب الأخرى من هذا الحدث، كان تاريخ إجراء الحفل أيضاً غامضاً. أمّا سبب هذا الموقف المتهوّر فواضح: تقليص الخطر الجينيالوجي المحدق بـ «نور الجنس الآري»، وهو الوصف الذاتي المفضل لدى الشاه. وقدِ اختير لهاته المناسبة موقع تاريخي: أطلال برسيبوليس، عاصمة الإمبراطورية الفارسية القديمة.
واستناداً إلى قصاصات وسائل الإعلام، فإن جميع الحاضرين استمتعوا بالحفل. استقدِمت المأكولات وخمس وعشرون ألف قنينة من الخمر بالطائرة من باريس. أما المواد المحلية، فلم يوجد منها على القائمة إلا الكافيارْ، وهو حصة إيران من بحر قزوين. بلغت فاتورة الحفل ثلاثمائة مليون دولار فقط، ولا شك أنها تتضمن «مصاريف» مَن حضروا من المشاهير غير المحسوبين على دولهم. هذا المبلغ النقدي يكفي لإطعام شعب كامل من العالم الثالث لشهور عدّة. ذروة هاته التمثيلية كانت عبارة عن سِقط المتاع. انبهَر الضيوف حينما أشعِلت الأنوار الكاشفة لتسلط الضوء على المعتلي لعرش الطاووس في لباسه الفوقي وهو واقف أمام قبر قورش. تغلبَ الشاه على رهبة الخشبة وهو ينطق جملة تدَرَّب على ترديدها طويلا: «أُرقدْ على راحتكَ يا قورش، فنحن يقظون».
ولدى عودتهم إلى العالم العادي برحاب الجامعة الأمريكية، صرّحَ بعض المستشرقين من أصحاب الشعور الفياض بأن نسيماً صحراوياً مُفاجئاً قام على إثر الكلمات السحرية التي نطق بها الشاه، ولكنهم لم ينتبهوا إلى الأنسام الأخرى التي كانت تنشط في الهواء. فبينما كان الشاه يتلقى تكريم الزعماء من الغرب والشرق، وجّه إليه رَجل دين إيرانيّ غير معروف خارج إيران تحذيراً نُبوئياً. من منفاه بالعراق، دقّ الخميني ناقوس الخطر.
داخل إيران، حيث كان معروفاً ومَهيباً معاً، لوحِظ أن النبرة قد تغيّرتْ. في 1963م، اشتد غيظ الخميني عندما أشير إلى الملالي وطلابهم الفقراء في المدارس الدينية بأنهم «طفيليات» فأرسل تحذيراً من معقِله في قمْ إلى حاكم البلاد الداعر من الصداقات المشبوهة ودعاه إلى تغيير سياسته. لم يأخذ الشاه بهاته النصيحة، وتعرض رجل الدين الذي قدّمها إليه في سبيل الإصلاح للنفي خارج الوطن. من العراق، ثم من فرنسا لاحقاً، بدأت رسائل الخميني المُسجَلة على أشرطة متآكلة تتبادلها الأيدي عبر كل أنحاء البلاد. وفي بعض الحالات، كان يتم الاستماع إليها في المساجد بعد صلاة الجمعة.
منذ أواخر 1977م، وقعت إيران في قبضة هياج ما قبل الثورة الذي كان ينمو من أسبوع إلى آخر. وفي فبراير 1979م، انتصرت ثورة، ولكنها انهزمت كذلك. النضال الشعبي ضد حاكم فظ وفاسد وعميل من المفضلين لدى الغرْب انتهى إلى الإطاحة بالمَلكية. وفي اللحظة الحاسمة، رفض الجيش الإيراني أن يطلق النار على الشعب. أما فِرق التدخل السريع المُعدة خِصّيصاً لمِثل هذا الثوَران فإنها انقسمت في ما بينها. هرب شاه إيران نحو المنفى، لينتهي بذلك أقصر حُكم عائلة مَلكية في تاريخ إيران. تم الهجوم على السجون وأطلِق سراح المعتقلين السياسيين، الذين تعرضوا للتعذيب والتخدير، فكانوا يصدّقون بالكادّ أنهم قد انتصروا أخيراً. ظل هؤلاء ينتظرون ما يقارب السنتين. لقد كان من الواضح داخل السجون وخارجها أنّ الشاه قد انهزم، وأنه سيترك عرشه عاجلا أو آجلا، ولكن في الثورات يكتسي الوقتُ أهمية كبرى. يمكن للوقت أن يحسم كل شيء. كان السجناء مستعدين عند الإفراج عنهم.
في الشوارع، كانت الجماهير تتلذذ بانتصارها، حيث عمَّ الابتهاج كل مكان. كانت تلك المشاهد مألوفة في التاريخ. مَشهدُ الجماهير الباريسية خارجَ الباستيلْ في 1789م (إبان الثورة الفرنسية)، ومَشهدُ عُمّال بطرُوغرادْ في انتظار نزول زعيمهم الأكثر راديكالية من القطار في محطة فنلندا عام 1917م، ورفض الجيوش النظامية التساريّة إطلاق النار وهروب أعداد منهم المتزايد للالتحاق بالقضية البولشيفية، ومَشهد أكتوبر 1949م وساكنة بيكين، المُثارة والتواقة، تنتظر دخول ماوتسي تونغ وجيوشه إلى المدينة وإعلان انتصار الثورة الصينية، ومشهد هافانا في 1959م: الدكتاتور الكوبي وزملاؤه من المافيا يفرّون من البلاد والدخول الفاتح للجنود الثوار الذين تغلبوا عليهم في حرب العصابات، ومشهد سايغون في أبريل 1975م: وصول الشيوعيين الفيتناميين إليها وإنزال الراية الأمريكية وإخلاء المِروحيات الأمريكية للموظفين من سفارتها.
د. إسماعيل العثمان