بناء الشخصية بين التربية الحديثة والتعاليم الدينية
الشخصية كلمة من الكلمات العامة الشائعة التي تتداولها ألسنتنا وأقلامنا، فنقول إن لفلان شخصية قوية أو ضعيفة، ولا نكاد نجد صعوبة في فهم ما نعنيه، ولكن لو سألنا
عن حقيقة هذه الشخصية وعن تحديد مدلولها لأعيانا الجواب. ذلك أننا لا نكلف أنفسنا مشقة البحث والتحليل في مدلول كثير من الكلمات، مثل: الديمقراطية، والإنسانية، وما إليها من الكلمات التي نكتفي بمدلولها العام.
من المعلوم أن لكل إنسان طابعاً خاصاً يميزه عن غيره، وأن هذا الطابع هو ما نعبر عنه بالشخصية.
إننا نرى أن شخصية الإنسان مسطورة على وجهه، معقودة بلسانه، بادية في خلقه وسلوكه، وفي نظرته إلى الأشياء والأحداث، وفي موقفه منها، فمتى كان الإنسان صلب الإرادة، صادقاً معتزاً بكرامته، عفاً في لسانه، حسن التقدير للأمور، بصيراً بعواقبها، وصفناه بقوة الشخصية.
أما إذا كان جباناً رعديداً، يفر من التبعات، ويجزع لأيسر الملمات، متردداً ينقض في غده ما أبرمه في أمسه، مسلوب الإرادة، مشلول العزيمة، حكمنا عليه بضعف الشخصية. ولكن ما طبيعة هذه الشخصية؟
لقد أثبتت البحوث والدرسات أن الشخصية هي اتجاه يسود حياة المرء وسلوكه نتيجة التفاعل القائم بين حياته التعليمية والخلقية والاجتماعية والعملية والجسمية، وأنه متى نمت هذه القوى أو النواحي المختلفة في الإنسان نمواً منسقاً متوافقاً نتجت عن هذا النمو الشخصية السوية الناضجة.
وعلى هذا، فالسوية أو الانحراف في الشخصية مرتبط أوثق ارتباط بالكيفية التي ينمو بها رأس الإنسان وقلبه، ويده، وجسمه، ومن أجل هذا تسعى التربية الحديثة جاهدة إلى إتاحة كل فرصة لإنماء هذه النواحي المختلفة في المتعلم كي تستطيع أن تصوغ منه شخصية قوية متزنة على أن يجري هذا النمو في انسجام وتوافق، فلا نؤثر بالعناية ناحية دون أخرى، فإن العلم والذكاء والمهارة قد تكون من نصيب امرئ بلغ من الضعف الخلقي أدنى درجاته، كما أن العناية بتكوين الخلق مع الجهالة لا يعني شيئاً في تكوين الشخصية، بل يجعل الإنسان عرضة للزلات والعثرات.
والآن نسأل أنفسنا: ما نصيب الدين في تكوين هذه الشخصية التى تسعى التربية الحديثة إلى تحقيقها؟
إن الدين الإسلامي ينكر تلك الروحية المجردة عن النشاط والسعي والتفاعل مع المحيط الذي نعيش فيه. إن مثله الأعلى هو الرجل الذي يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً ولأخراه كأنه يموت غداً.
لقد تناول الإسلام تلك النواحي التي تعتبر الدعامة في تكوين الشخصية القوية السوية الناضجة، فمن الناحية العقلية حطم الإسلام أغلال العقل وأطلقه من أسر الأوهام والخرافات، ووجهه إلى النظر الحر والتدبر في مشاهد الطبيعة وآثار الوجود.
ثم اعتنى بإنماء النواحي المختلفة التي تكون الشخصية الكاملة الناضجة، ووضع منهاجاً واضحاً لذلك، فهو يحث على الاهتمام بالجانب العقدي أولاً لما له من أثر في تكوين الفرد القوي المتصف بالصدق والعزم، الصابر على مواجهة الشدائد ومغالبة الصعاب، كما اهتم بالبناء العبادي، والأخلاقي، والعلمي، والفكري من أجل تكوين شخص سوي يكون صادقاً إذا حدث، منجزاً إذا وعد، وفيا إذا ائتمن، صابراً إذا ابتلي، ورعاً في غير تزمت، متسامحاً في غير غفلة، ولم يهمل الإسلام الجانب العاطفي، والنفسي، والصحي، بل هو منهج تربوي يتصف بالشمولية، والواقعية، والعالمية، والتوازن.
علي قاسمي التمسماني