نظرة على واقع الإصلاح العربي:
الإصلاح في العالم العربي...من فشل إلى فشل!
في ضوء الحديث عن تداعيات ثورة الياسمين التونسية المحتملة على عملية الإصلاح في العالم العربي يستعرض الكاتب السوري سلامة كيله في هذه المقالة العوامل الداخلية والخارجية التي تقف عائقا أمام نسمات الإصلاح والتغيير السياسي في المنطقة العربية. =
"على رغم الحراك الذي حكم العقد السالف خصوصاً، و "الضغوط" الخارجية من أجل ذلك، فإننا ما زلنا في الوضع ذاته"
بعد عقدين من الأمل في تحقيق الإصلاح السياسي في البلدان العربية، وخصوصاً ما شاب العقد الأخير من دعاية وأيديولوجية انطلقت من الرياح العالمية التي حملت الفكرة حول ضرورة الإصلاح، نكتشف أننا ما زلنا في المكان الذي كنّاه. ولا شك في أن مفهوم الإصلاح قد تمحور حول الدمقرطة، وتحديث آليات الحكم، في وضع كان يتسم بسيادة شاملة للنظم الشمولية أو الديكتاتورية، وكان الطموح هو الوصول إلى نظم ديموقراطية تعتمد تداول السلطة بعد أن تكون قد أقرت الحريات العامة بمجملها، وكذلك حق الانتخاب الذي يمكن أن يفتح الأفق لتداول سلمي للسلطة. وعلى رغم الحراك الذي حكم العقد السالف خصوصاً، و "الضغوط" الخارجية من أجل ذلك، فإننا ما زلنا في الوضع ذاته، حيث لم يتدمقرط أي من النظم، والنظام الوحيد الذي أصبح "ديموقراطياً" بقوة الاحتلال، والذي أعلن بوش الإبن أنه سيكون المثال في "الشرق الأوسط"، يغرق في تكوين طوائفي، ومحاصصة طائفية، وتدمير لمبدأ المواطنة، ما يجعله مثالاً على الخطورة التي يمكن أن تطاول "ضعف السلطة" وعلى تجاهل مبدأ المواطنة لمصلحة التقسيم الطائفي، والتوزيع الطائفي للسلطة، والذي أصبح المبرر للتخوّف من الديموقراطية، والخوف من الحديث عنها.
لقد أصبحت الانتخابات منتظمة في الكثير من البلدان العربية، لكن النتيجة لم تتغير لأن الوضع الذي تمارس فيه، والتزوير الذي يشوبها لا يسمحان بالظن أنه يمكن أن تكون مدخلاً للإصلاح. حتى بعض الحريات التي أُعطيت، مثل حرية تشكيل الأحزاب وحرية الصحافة، لم تخرج عن حدود مرسومة مسبقاً، وعن دور لا يُسمح لها بتجاوزه. وبالتالي سنلمس أن التحوّلات التي حدثت، والتي عبّرت عن انفراجات محدودة، لم تغيّر شيئاً، ولم تؤسس لصيرورة تسمح بالقول إنه يمكن الوصول إلى الإصلاح.
أين موجة الإصلاح؟
بعد أحداث سبتمبر رفعت إدارة بوش شعار الإصلاح والتغيير في العالم العربي الذي سرعان ما تبدد وانتهى
ربما كانت "الموجة العالمية" هي التي أوحت أكثر بأن الإصلاح بات ممكناً، حيث كان يسود اليأس لدى النخب التي شعرت بحاجتها إلى وضع سياسي جديد يتجاوز البنى السياسية القائمة. وهي الموجة التي انبنى على أساسها جزء مهم من النشاط الذي تصاعد خلال العقد المنصرم في كل الوطن العربي، حيث أحدث حادث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 أملاً بأنه يمكن أن يكون مرتكزاً للتعلق بتلك الموجة، التي انبنى خطابها على أن الأصولية الإسلامية باتت خطراً، وهي نتاج الأفكار التي تبثها النظم التي هي ديكتاتورية (وهنا تساوت النظم الإسلامية والنظم العلمانية تحت بند ديكتاتورية)... لهذا ستكون الدمقرطة والتحديث السياسة التي يجب أن تُفرض عليها. ومن هذا الأساس أصبح الحلم ممكناً، وأصبح النشاط من أجل الإصلاح ذا نتيجة مؤكدة.
لكن الموجة تكسرت خلال سنوات هذا العقد، ربما بالتدريج لكنها تكسرت في كل الأحوال، وأبان الواقع عن وضع لا يشير إلى إمكانية لتحقيق الإصلاح أو الدمقرطة، وأن النظم لا تعطي أكثر من شكل يمكن أن يجرى الاعتماد عليه للقول بأنها نظم ديموقراطية (التعددية والانتخاب)، لكنه الشكل الذي يكرّس وجودها هي ذاتها من دون أي تغيير. وبهذا أصبحت مسألة الديموقراطية مسألة نسبية، ولم يعد من "المحبذ" وصمها بأنها نظم ديكتاتورية. المشكلة هنا تتمثل في أن هذه النظم لا تستطيع أن تحكم إلا بالطريقة التي تحكم فيها، ومن غير الممكن أن تتحوّل إلى شكل آخر يستوعب التعددية وتداول السلطة، والصحافة الحرة، والنشاط الحزبي الفعلي، والشفافية... إلخ من المسائل التي تؤسس لنظم ديموقراطية وحديثة حقيقةً. هذا ما توضّح في التجربة على الأقل، وربما سيبقى يتوضّح ما دامت هي ذاتها. فالأمر لا يتعلق بنيات أو بوعي، أو حتى بضغط، بل يتعلق بمصالح الطبقة المهيمنة، التي لا تجد إمكانية للحكم إلا عبر هذا الشكل الديكتاتوري... حتى وإن كانت تقرّ الحريات والانتخاب، فهي تعيد إنتاج ذاتها عبر الطابع الشكلي لـ «ديموقراطية» متحكم بها، من خلال قوة السلطة والتزوير.
عبثية الإصلاح
"الطابع الذي يعمم في الاقتصادات العربية هو طابع ريعي ومافيوي، وليس أي شيء آخر، حتى لو كان تجارياً كما كان وضع البورجوازية التجارية القديمة"
كيف يمكن فئات تمارس كل أشكال النهب والفساد، وتمركز المال في جيوبها، أن تقبل بألا تكون في السلطة؟ إنها تفعل كل ذلك بقوة السلطة، وهي تراكم المال نتيجة سيطرتها وسطوتها وليس نتيجة مجهودها ونشاطها الفعلي في الاقتصاد الحقيقي. فالطابع الذي يعمم في الاقتصادات العربية هو طابع ريعي ومافيوي، وليس أي شيء آخر، حتى لو كان تجارياً كما كان وضع البورجوازية التجارية القديمة. وهي تترابط برأس المال العالمي بألف رابط ورابط، وتخضع لسطوته، وبالتالي تسهّل له النهب. في هذا الوضع كيف يمكن أن يكون شكل السلطة التي تخدم هؤلاء؟ هل ستسمح بكشف كل ذلك في صحافة حرة؟ أو تسمح بتحريض يفرض انتصار غالبية معارضة عبر الانتخابات؟
هنا تقف حدود الحرية الممكنة، وهنا يقف البحث في موضوع الإصلاح، وليس من إمكانية لتجاوز هذا الحدّ، لأنه يعني إلغاء السلطة، هذه السلطة التي لا تسمح بأن تُلغى. وبالتالي إذا كان يمكن الحديث الطويل عن الإصلاح، فإن الممكن هو اللعب بالكلمات، والأشكال من أجل استمرار النظم ذاتها.
سلامة كيله