صدور رواية الكاتب العراقي سنان أنطون "إعجام" باللغة الألمانية
محاكاة تهكمية تعالج أهوال الحروب وتؤسس لعلاقة جديدة مع الذات
يرى الشاعر والكاتب العراقي سنان أنطون أنه لا يمكن فهم ما يحدث في العراق اليوم، دون فهم تأثير دكتاتورية صدام الدامية وتأثير الحرب العراقية الإيرانية على سيكولوجية وبنية المجتمع العراقي. إبتسام عازم حاورت سنان أنطون في برلين بمناسبة صدور روايته "إعجام" باللغة الألمانية.
أنطون: كنا نفيق وننام مع الحرب وأجيال خلف أجيال تذهب إلى الجيش
"إعجام" هو العنوان الذي اخترته لروايتك ويحمل معنى الكلمة في طياته الشيء وضده وهو التوضيح والإبهام في الوقت ذاته. كيف تولدت لديك فكرة تسمية الرواية؟ ولماذا اخترت هذه التسمية؟
سنان أنطون: اخترت العنوان لأني كنت أبحث عن عنوان تتبلور فيه الفكرة الرئيسية في الرواية، وبما أن الرواية تتمحور حول موضوع الكتابة ، ولا نتحدث هنا عن الكتابة بالطريقة العادية، بل عن كتابة بالسر والخفاء وفي السجن وبدون نقط، بغية مراوغة الرقيب والسلطة والخطاب السائد. أما السلطات فتحصل على المخطوطة الغير منقطة التي يكتبها السجين وتحاول وضع النقاط على الحروف كما يقال. هذا يعني أن عملية وضع النقاط هي بهدف توضيح المعنى.
ولكن عملية وضع النقاط على الحروف لا تنجح بالقبض على معنى واحد أي أن هناك عملية إنزياح للمعنى. وعندما بدأت أُفكر أكثر بالموضوع وقرأت عن موضوع الإعدام نال هذا الأمر إعجابي، لأن المصطلح يحتوي على المعنى والمعنى المعاكس، أي الإعجام بمعنى الإيضاح ولكن بمعنى أن يصبح الشيء مطلسماً وغامضاً. وبعد أن كنت انتهيت من كتابة الرواية تقريبا، بدأت أبحث عن عنوان يلائمها فوقع اختياري على مصطلح إعجام.
إذا نحن هنا إزاء نص يصل إلينا عن حياة هموم وأفراح شاب عراقي ولا نعرف في نهاية الأمر، إن كان النص الذي وصل إلينا فعلا كتب على هذا الشكل أم تم تحريفه من قبل المحقق أو حتى عملية تنقيطه كانت السبب في تحريفه.
أنطون: نعم، إحدى الأفكار الأساسية الموجودة في الرواية تعالج إشكالية ما وهي بأن الحقيقة التي تصل إلينا تمر بعد أن تمسها يد السلطات والمؤسسات التي تؤطر وتسيطر على كل ما يصل إلينا. وهذا أمر غير موجود فقط في المجتمعات الدكتاتورية، بل في"المجتمعات الديمقراطية" إلا أنه على نحو أكثر فجاجة في المجتمعات الدكتاتورية.
من جهة أخرى حاولت إيصال فكرتين متناقضتين، أولاً يمكننا مقاومة الخطاب الاستبدادي عن طريق الالتفاف حوله والتلاعب به واستعمال المحاكاة التهكمية مثلا ولكن هناك الفكرة الأخرى والتي تقول بأن صوت المهمشين والمقموعين لا يصل، وإن وصل يكون مهمشاً أو مجتزأ وهذه حقيقة مأساوية.
هل تحاول في تناولك موضوع اللغة على هذا النحو خلخلة قدسيتها على مستويات عدة منها الديني والسياسي والاجتماعي؟
أنطون: اخترت العنوان لأني كنت أبحث عن عنوان تتبلور فيه الفكرة الرئيسية في الرواية.
أنطون: عندما يقرأ القارئ العربي الرواية قد يخطر بباله أن النصوص المقدسة التي وصلتنا لم تكن منقطة، وأن لهذا الأمر تبعات فيما يتعلق بهذا النصوص منها أن المؤسسة هي التي تحدد المعنى سواء كانت المؤسسة الدينية أو السياسية وغيرها وبالتالي هناك ضرورة في العودة إلى تاريخ تكوّن النصوص، وهذا أمر يكشف عن أمور كثيرة تخلخل الوعي السائد. ولكن هدفي كان خلخلة خطاب سياسي يقدس اللغة ولكن بدرجات مختلفة. صحيح أن كل المجتمعات تحاول الحفاظ على لغتها مثل فرنسا والولايات المتحدة التي تحاول الأكاديمية فيها "تنقية" اللغة وتعمل على حراستها من لغات أُخرى ولكن في المجتمعات الدكتاتورية يصبح الأمر خطر وله وجوه مختلفة.
عند الحديث عن هيمنة أصوات المؤسسة وتهميش ما يصل إلينا في الرواية، اخترت تقنية الصوت الواحد، وهو صوت السجين كما أنك استفدت من الأسلوب الكافكاوي إن صح التعبير، لماذا هذه الأساليب دون غيرها؟
أنطون: هناك مقولة لأدورنو يقول فيها بما معناه أن المجتمعات الحديثة بمثابة سجن مفتوح، هذا يعني أنه من الصعب أن نكتب عن محنة الفرد في المجتمعات الحديثة دون أن يحوم شبح كافكا أو أورويل حول النص وخاصة في نص يكتب عن مجتمعات كمجتمعاتنا. ومن ناحية أُخرى قررت أن أكتب نصاً فيه هيمنة صوت السارد وهو السجين الذي يتحدث عن محنته. هذا الأسلوب يعطي النص مقداراً أكبر من التأثير العاطفي والجمالي لأن القارئ يتعرف على حياة شخص، على ماضيه وأحلامه وكوابيسه ومن ثم يختفي وهنا محاولة للإمساك بالأصوات الضائعة التي لا نسمع عنها أي شيء.
يسخر السارد من كل ما هو حوله، وكأن السخرية هي آخر احتمال للنجاة بالنسبة له، في الرواية تلعب السخرية دوراً فيه نوع من قتل المقدسات بغية تكوين الذات من جديد. إلى أي مدى تنطبق هذه السخرية وضرورتها على العراق كما تعرفه؟
أنطون: يكفي أن نتذكر أن جريدة الوقائع العراقية، التي تنشر قوانين الدولة الرسمية، نشرت في آخر الثمانينيات قانونا ينص على عقوبة الإعدام لمن يردد نكات عن رئيس الجمهورية بشكل مباشر. هذا يدل على أنه كان هناك الكثير من الناس الذين يرددون النكات. كان الناس يتلاعبون بكلمات الأغاني ويسخرون من النظام فيما بينهم، إذا شعروا بأمان وبحسب حميمة العلاقة.
هذه السخرية شيء طبيعي وجاءت بشكل تلقائي إلى النص ولم أُحاول أن أحشرها داخله. لقد كانت هذه طبيعة حياتنا وأعتقد انه كلما زادت صعوبة الحياة كلما زادت الحاجة للسخرية والتهكم كسلاح للبقاء وليس ترفاً. وحاولت أن أضعها بالنص كما عايشتها في العراق.
يشعر القارئ بهيمنة حالة من الانتظار اللانهائي كذلك الذي نعرفه من مسرحية بانتـظار غودو؟ وفي الوقت ذاته نشعر وكأن شيئاً ما سيحدث كل لحظة ويقلب الموازين رأسا على عقب. كيف ترى إلى ذلك؟
أنطون: نحن عشنا بالعراق حرباً مع إيران، والتي تدور أحداث الرواية خلالها، كانت هذه الحرب أطول من الحرب العالمية الثانية وراح ضحيتها مئات الآلاف! هذه الحرب منسية لأنه تلتها بفترة وجيزة حروب أخرى. ولكن هذه الحرب كان لها التأثير الأكبر على نفسية العراقيين. كنا نفيق وننام مع الحرب وأجيال خلف أجيال تذهب إلى الجيش، كنا نعيش حالة انتظار، إضافة إلى الانتظار العادي الذي هو سمة الحياة المعاصرة وخاصة في المدن الكبيرة كبغداد.
ولكننا وخلال سنوات الحرب كنا ننتظر أن يحدث شيء ما، انقلاب أو أي شيء! ولكن بؤس الحياة كان يعطينا الشعور بأن هذه الحياة سوف تستمر إلى الأبد. وعند انتهاء الحرب في الثامن من آب عام ثمانية وثمانين، خرج العراقيون إلى الشوارع يرقصون لمدة ثلاثة أيام غير مصدقين أن هذه الحرب قد انتهت، و ظننا بأننا سوف نعود إلى الحياة العادية والرتيبة. الانتظار كان جزءا من الأجواء التي نعيشها. وهاجس الشباب كان ذهابهم إلى الجيش دون أن يدروا إن كانوا سوف يبقون على قيد الحياة أو لن يعودوا. أعتقد أن الصبر وقابلية التحمل، هي أحسن وأسوأ خاصية لدى البشر، لأن التحمل والانتظار يدعانا نتحمل ونقبل ما لا يجب أن نقبل به.
ماذا عن العراق اليوم، هل نجح الأمريكيون في فتح صفحة جديدة في تاريخ العراق الدامي؟
أنطون: في الخطاب السياسي الدائر اليوم في عراق اليوم نجح الأمريكان في وضع حد فاصل بين ما بعد وما قبل سقوط نظام صدام، وكأّن لا علاقة لهم بكل ما قاموا به هم أنفسهم من تشجيع ودعم لصدام وتزويده بالأسلحة ولسنين طويلة. ومن جهة أخرى فإن المعارضين للنظام الأمريكي لا يتحدثون عما جرى قبل الاحتلال الأمريكي. لكننا لا نستطيع أن نفهم ما يحدث في العراق اليوم، دون فهم تأثير الدكتاتورية والحرب على بنية المجتمع العراقي والنسيج الاجتماعي. وعلينا أن لا ننسى تلك الفترة ليس لأننا نحب الندب الكربلائي والبكاء، بل كي نستوعب ما يحدث في عراق اليوم.
تنتهي الآن فترة إقامتك في برلين التي استمرت لمدة سنة تقريباً وسوف تعود إلى نيويورك حيث تعيش، كيف كان لبرلين تأثير عليك؟
أنطون: عملي الأكاديمي ومعيشتي هما في أمريكا، والغريب أن وجودي هنا كباحث ضيف لمدة سنة في برلين، ولأنني لا أتقن الألمانية، ولّد عندي نوعاً من العزلة مما وضعني في مكان المشاهد والمراقب والمتأمل للحياة في هذه المدينة. التأمل في تفاصيل الحياة البسيطة يسمح للإنسان باقتناص الكثير من الصور والأفكار الجديدة. ودون شك فإن عدم وجود عمل يومي أكاديمي كما هو الحال في نيويورك، أعطاني مساحة أكبر للتأمل. ولكن هذه المدينة بخصوصيتها وتاريخها المعقد والعميق تحمل في ثناياها تفاصيل تشبه ما أكتب انأ عنه أي ما يسكن هواجسي حول العراق والعنف والحروب والدكتاتورية أو البربرية التي نعيشها في العالم،
كل هذا يتلخص في جزء من تاريخ هذه المدينة. وعندما نرى الحجارة على الأرصفة التي تتحدث عن تاريخ البيوت وكيف أن هناك أُناس أخروج من هذا البيت أو ذاك وتم ترحيلهم أو عندما تكون هناك إشارات كتب عليها : من هنا خرجت القطارات لمعسكرات الاعتقال، فإن ذلك يأخذنا إلى تلك الحقبة وتعقيداتها. أضف إلى ذلك فإن المدينة غنية بالثقافة ولها معمار رائع، كل ذلك ساعدني على إعادة تقوية علاقتي مع نفسي وكأن هذه المدينة سمحت لي بحوار مع ذاتي.
أجرت الحوار: إبتسام عازم