مدونات الحرب: "بغداد تحترق":
"ريفر بيند" – صوت التنوير
تعتبر "المدونات" مصدراً مهما في الحصول على المعلومات على الرغم من الطابع الشخصي الذي يغلب عليها، كما أنها أكثر قرباً للأحداث من تقارير المراسلين الذين عادةً ما يلقون نظرة خارجية على مناطق الصراع. مدونة "بغداد تحترق" مثال على ذلك كونها تعطي صورة عن طبيعة الغزو الأمريكي للعراق وتداعيات ذلك على الأرض والإنسان. أمين فارزانيفار يعرفنا بهذه المدونة.
ريفر بيند" قامت دار "روفولت" الألمانية بنشر مدوناتها الإليكترونية، المكتوبة أصلاً بالإنكليزية، تحت عنوان "بغداد تحترق"
في أثناء الحرب على العراق حاز "بغداد بلوغر" شهرة نسبية. تحت اسم مستعار هو "سلام باكس" راح الشاب العراقي يصور الوقائع التي شهدتها بلاده خلال الغزو الأمريكي وفي الفترة التي أعقبته. مدونات "باكس" كانت مكتوبة بذكاء وسخرية فاضحة، وهو ما دفعه إلى أن يختار لفترة طويلة عدم الكشف عن هويته. الطريق نفسه سلكته "ريفر بيند" (أي: منحنى النهر) التي نشرت دار "روفولت" الألمانية مدوناتها الإليكترونية، المكتوبة أصلاً بالإنكليزية، تحت عنوان "بغداد تحترق".
وحسب ما كتب على غلاف الكتاب فإن "ريفر بيند" امرأة عراقية شابة عملت بعد تخرجها في قسم المعلوماتية كمبرمجة ومتخصصة في الإنترنت – "هذا هو كل ما ينبغي عليكم أن تعرفوه"، كما نقرأ في النص المبتسر عن المؤلفة. يقدم الكتاب الضخم الذي يبلغ زهاء الأربعمائة صفحة (صدرت الطبعة الإنكليزية في مجلدين) زخماً شيقاً ومثيراً للدهشة من المعلومات التي توضح الصراع في العراق أكثر من كل تلك الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام أو الأخبار المرعبة التي تنشرها وكالات الأنباء.
الحياة اليومية والحرب
أول ما يواجهه القارئ هي الخبرة المعمقة للحرب نفسها: الاستعدادات للضربة التحريرية المعلنة تحت مسمى "الحرية الدائمة"، ثم دوي القنابل وهدير الدبابات والمروحيات الذي ما يلبث المرء أن يعتاده، بل ويصبح بإمكانه تدريجياً أن يحدد مصدره. شيئاً فشيئاً يغدو اليوم الذي يخلو من الانفجارات "يوماً سيئاً"، وكأن الشعار الذي يعتنقه الناس هو: الأسوأ لم يأت بعد.
"الغزو الأمريكي غيّر شكل الحياة اليومية للعائلات العراقية من الطبقة الوسطى، كيف يحتفل الناس بالأعياد التقليدية مثل شهر رمضان المبارك وعيد الأضحى"
توثق "ريفر بيند" كيف يغير الاحتلال شكل الحياة اليومية للعائلات العراقية من الطبقة الوسطى، كيف يحتفل الناس بالأعياد التقليدية مثل شهر رمضان المبارك وعيد الأضحى، في ظروف تزداد صعوبة يوماً بعد يوم. أما المواكب الشيعية التي تحتفل بعيد عاشوراء – وهو ما كان ممنوعاً في عهد صدام حسين – فإنها تأتي بأغراب كثر إلى المدينة وتنبئ بصراعات وتوترات جديدة.
ولكن، يظل التحدي الأكبر هو المحاولة اليائسة لكي يحيا المرء على نحو عادي بعد سنوات طويلة من الحصار الاقتصادي والصراعات الدموية، إذ ما زال الناس تحت الاحتلال يعانون من نقص في البنزين والغاز والماء والكهرباء. بالإضافة إلى ذلك هناك مخاطر الخروج من المنزل لشراء لوازم المعيشة.
تصحيح الصورة
أكثر ما توضحه "ريفر بيند" بصوتها التنويري الذكي هو أن بغداد لم تكن دوماً جزءاً من "الهامش" الحضاري، فهي كانت تُعد في العصور الوسطى "المظلمة" – التي يبدو أن العراق قد عاد إليها – من أكبر العواصم العالمية. وفي خمسينيات القرن العشرين منحها معماريون من الطراز العالمي الأول، مثل المهندس المعماري لو كوربوسيه، وجهاً حداثياً مشرقاً. لم يرتد العراق إلى العصر الهمجي - هل كان يمكن تجنب ذلك؟ - إلا في العقود الأخيرة التي شهدت الحكم الديكتاتوري وحرب الخليج والمقاطعة والاحتلال والحروب الأهلية.
تبقى مدونات "ريفر بيند" شخصية، غير أنها تتجاوز أيضاً الطابع الشخصي بما تورده بين الحين والآخر من أرقام وبيانات ومقارنات – مثلاً عن الضحايا والمشردين وقوات الاحتلال وأعضاء الحكومة الضعفاء، وكذلك عن الأموال المُختَلسة والعطاءات التي تُمنح عن غير وجه حق.
بتفصيل كبير تعلق المدوِّنة على سبيل المثال على عقود إعادة الإعمار التي مُنحت لشركة ديك تشيني Halliburton. آنذاك تم تجاهل العروض التي قدمها مهندسون عراقيون والتي كانت أرخص في التكلفة بكثير من عرض ديك تشيني. وبسخرية لاذعة تفضح "ريفر بيند" عملة التزوير التي تعرضت لها على يد مواطن أمريكي قام بإعادة كتابة مدوناتها لأغراض الدعاية، مستخدماً في ذلك لغة الرئيس الأمريكي جورج بوش. كما تقدم المدوّنة تفاصيل كثيرة عن نظام التعليم في العراق، مصححةً بذلك الصورة السائدة عن عهد حكم صدام حسين، وهي صورة مرسومة بالأبيض والسود ولا تراعي درجات الألوان الأخرى: فالجامعة مثلاً لم تكن تفتح أبوابها إلا لأبناء أتباع حزب البعث، وأن المستوى التعليمي بقي عالياً على الرغم من الحصار، وأن المساواة بين الرجل والمرأة كانت متقدمة بالمقارنة مع البلاد المجاورة.
تنوع معلوماتي
كتاب "بغداد تحترق" كتاب شخصي، غير أن كاتبته مستقلة. فعلى العكس من الصحفيين والمراسلين الغربيين الذي تم "زرعهم" في القوات العسكرية الأمريكية وإدماجهم بها، كي يكتبوا تقاريرهم عن الحرب في العراق، فإن المدونات تتيح الفرصة للتعرف على شتى المصادر. "ريفر بيند" تقارن مثلاً بين تغطية الأحداث مثلما ظهرت في مجلات دولية عديدة، وتحيل إلى روابط إلكترونية للإحصائيات والنشرات وكذلك لمدونات كتبها عراقيون من الداخل والخارج، كما أن مدوناتها تتنوع لتشمل ملفات موسيقية يمكن تحميلها ووصفات للأكلات العراقية.
"كان لدي دوماً تصور محدد وخاطئ عن اللاجئين الذين يهيمون على وجوههم في الطرقات بالحقائب والخيام. والآن، أصبحنا نحن أيضاً لاجئين"
غير أن الواقع اليومي والمشاعر الذاتية تظل هي محور هذه النصوص المجمعة، المؤثرة والمسلية في آن واحد. من أجل ذلك حصلت "ريفر بيند" في عام 2005 على "جائزة أوليسيس" التي يمكن اعتبارها جائزة نوبل للريبورتاج الصحفي، وتقوم باختيار الفائز المجلة الثقافية "ليتر إنترناسيونال".
قام بكتابة المقدمة للكتاب والتعليق عليه الصحفي الأمريكي اللامع جيمس ريدجواي. ويضم "بغداد تحترق" مدونات حتى شهر سبتمبر (أيلول) 2004. بعد ذلك الحين لم تظهر المدونات على صفحة الإنترنت إلا بصورة عشوائية.
لم تعد مدونات "ريفر بيند" الساخرة التهكمية تتسم بالطول والاستفاضة كما كانت تفعل من قبل. بعد أحداث أبو غريب وإعدام الصحفي نيك بيرغ يلاحظ المرء لدى المؤلفة الشابة نوعاً من التعب والإرهاق والسأم المتنامي. من يزر "ريفر بيند" اليوم على صفحة الإنترنت، سيعرف من مدونتها الأخيرة بتاريخ سبمتبر(أيلول) 2007 أنها تعيش الآن مع أسرتها في سوريا ضمن ما يقرب من مليون ونصف مليون عراقي. "كان لدي دوماً تصور محدد وخاطئ عن اللاجئين الذين يهيمون على وجوههم في الطرقات بالحقائب والخيام. والآن، أصبحنا نحن أيضاً لاجئين." وهو مصير من الممكن أن يصيب كلاً منا.
أمين فارزانيفار
ترجمة: صفية مسعود