على هامش بطولة كأس العالم لكرة القدم 2006:
فلنتعلم العولمة من كرة القدم
نادي أرسينال الإنكليزي - الذي لايضم لاعباً إنكليزياً واحداً - يمثل نموذجاً من نماذج العولمة
يدعو برانكو ميلانوفيتش إلى تطبيق القواعد المعتمدة في أندية كرة القدم والتي تسمح بانتقال اللاعبين دون النظر إلى جنسياتهم من دولة إلى أخرى على مهن أخرى، بذلك تستفيد الدول الغنية والفقيرة على حد سواء، حسب رأيه.
تمثل لعبة كرة القدم اليوم أحد نعكاسات العولمة التي رفعت الحدود بشكل عام، لتُمكن أكثر النوادي الأوربية ثراءً من استئجار أفضل اللاعبين، الأمر الذي أدى إلى ازدياد تركيز الموهبة الكروية في الدول الغنية، وتناقص هامش الفوز بين المنتخبات الوطنية، ولكن أيضاً إفادة اللاعبين لمنتخاباتهم الوطنية. بقلم برانكو ميلانوفيك.
إن كرة القدم ليست اللعبة الأكثر شعبية في العالم فحسب، بل إنها قد تكون أيضاً الحرفة الأكثر انتفاعاً من العولمة. فليس من المتصور أن يتمكن الأطباء أو علماء الحاسب الآلي أو أبناء الطبقة العاملة أو صرافو البنوك البرازيليون أو الكاميرونيون أو اليابانيون من الانتقال من دولة إلى أخرى بنفس السهولة التي ينتقل بها لاعبو كرة القدم البرازيليون أو الكاميرونيون أو اليابانيون.
من المعروف أن نادي الأرسينال لكرة القدم في لندن يتألف بالكامل من لاعبين أجانب، فضلاً عن مدرب فرنسي. حتى أن لقب الكابتن لم يعد مقتصراً على اللاعبين المحليين: على سبيل المثال، تيري هنري اللاعب الفرنسي يحمل لقب كابتن فريق الأرسينال، وأندري شيفتشيكو اللاعب الأوكراني كثيراً ما يحمل لقب كابتن فريق ايه سي ميلان، وكريستيانو زانيتي اللاعب الأرجنتيني يحمل لقب كابتن فريق إنتر ميلان. وعلى نحو مماثل، فإن العشرات من لاعبي أميركا الجنوبية وأفريقيا يلعبون في روسيا، وتركيا، وبولندا، والعديد من اتحادات كرة القدم في جنوب شرق أوروبا.
وعلى هذا، فإن كرة القدم تقدم لنا لمحة عن الكيفية التي قد نستطيع بها توظيف العولمة الحقيقية. ففي كرة القدم، كما في حرف أخرى، تعتمد القيود المفروضة على تحرك العمالة على الطلب بشكل كامل. ولم يسبق لنا قط أن رأينا قيوداً تفرض على انتقال اللاعبين إلا في الدول الشيوعية. لكن ذلك كله كان خاضعاً لتنظيم صارم، بسبب قاعدة كانت تمنع أي نادٍ من إنزال أكثر من لاعبين أجنبيين اثنين إلى الملعب في أي مباراة.
قاعدة بوسمان تُطلق العنان للنوادي الثرية
لكن قاعدة بوسمان، التي أسميت باسم اللاعب البلجيكي الذي نجح في تحديه لتطبيق هذه القاعدة على اللاعبين القادمين من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، أدت إلى تآكل الحدود بالتدريج حتى انهارت بالكامل في النهاية تحت وطأة مطالبة أكثر النوادي الأوروبية ثراءً بمنحها الحرية في استئجار أفضل اللاعبين أينما تمكنت من العثور عليهم.
وعلى هذا فأينما كان الحكم للعولمة والتجارة الحرة، نستطيع أن نجد أعلى تركيزات الجودة والنجاح. ولنتأمل النوادي التي تأهلت لدور الثمانية في بطولة كأس أوروبا. وإذا ما قسمنا الفترة من عام 1967 حتى اليوم إلى فترات من خمس سنوات، فلسوف نجد أن عدد الفرق المختلفة التي تأهلت لدور ربع النهائي في الفترات الأولى حتى عام 1986 كانت تتراوح ما بين 28 إلى 30 فريقاً. ولكن في الفترة التالية على ذلك انخفض العدد إلى 26، وفي الفترة الأخيرة (2000ـ 2004) انخفض العدد إلى 21 فريقاً. وخلاصة القول هنا بسيطة: وهي أن أعداد الفرق التي تتمكن من التأهل لدور النخبة الأوروبية تقل بالتدريج مع الوقت.
والموقف مماثل بالنسبة للاتحادات الوطنية. فمنذ بدأت بطولة الاتحاد الإنجليزي الأول في عام 1992، لم تخرج إلا بطولة واحدة من يد مانشستر يونايتد أو الأرسينال، أو تشيلسي. وفي إيطاليا لم تخرج بطولة الدوري الممتاز إلا مرتين منذ عام 1991 من يد يوفينتوس أو ايه سي ميلان. وفي أسبانيا، فاز نادي برشلونة ونادي ريال مدريد بكل البطولات منذ عام 1985 وحتى الآن باستثناء ثلاث بطولات.
والسبب وراء تركز البطولات عند القمة واضح: ألا وهو أن أكثر الأندية ثراءً أصبحت الآن قادرة على اجتذاب أفضل اللاعبين في العالم. ومع ذلك فهناك من يزعم أن هذه الظاهرة جاءت مصحوبة بتحسن في جودة اللعبة ذاتها. ويرجع هذا إلى ما يطلق عليه خبراء الاقتصاد "الزيادة العائدة إلى الحجم". فحين يلعب أفضل اللاعبين معاً، تتحسن جودة كل لاعب، والفريق ككل، بصورة غير عادية. وحين يلعب رونالدينهو مع ميسي، أو كالا مع شيفيتشينكو، فإن الناتج المشترك الناجم عن اقتران اللاعبين (عدد الأهداف) يكون أعظم من مجموع الأهداف التي قد يسجلها كل منهما إذا ما لعب في نادٍ مختلف مع زملاء أقل موهبة.
وقد يؤدي انتقال العمالة بحرية في مجالات أخرى إلى نفس التأثير. فإذا ما سمح للأطباء واختصاصيي الحاسب الآلي والمهندسين (ناهيك عن "السباك البولندي" الشهير) بالانتقال بحرية، فإن تركيز الموهبة في الدول الغنية سوف يزداد على الأرجح. كما سيتزايد التفاوت في توزيع المواهب بين البلدان في أغلب الظن، حتى إذا ما تحسن الناتج العالمي الإجمالي من السلع والخدمات، وتحسن متوسط جودتها، كما هو الحال في حرفة كرة القدم اليوم. أما الدول الأفقر أو الأصغر حجماً فليس لها أن تحلم بالفوز ببطولة أوروبية، كما فعل من قبل نادي ستيوا (رومانيا)، أو ردستار (صربيا)، أو نوتنجهام فورست (الذي هبط إلى دوري الدرجة الثالثة الإنجليزي الآن).
تناقص في هامش فوز بين المنتخبات الوطنية
ولكن على الرغم مما نراه من تفاوت واستبعاد في كرة القدم على مستوى الأندية، فإن العكس يصدق على المنافسة بين المنتخبات الوطنية. فقد تناقص متوسط هامش الفوز بين المنتخبات الوطنية الثمانية الأول في بطولة كأس العالم لكرة القدم، على نحو ثابت، من أكثر من هدفين في فترة الخمسينيات إلى حوالي هدف ونصف الهدف في فترة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، ثم إلى 0.88 هدف فقط في بطولة كأس العالم التي جرت في عام 2002.
ويصدق نفس القول على كل المباريات التي لعبت في البطولة النهائية، وليس فقط على المباريات التي جرت بين الفرق الثمانية الأول. والحقيقة أن هذا التناقص في هامش الفوز يصبح أكثر إثارة للعجب لأن بطولة كأس العالم ازدادت من 16 إلى 32 فريقاً وطنياً ـ ولكن العديد من هذه الفرق جديد وبلا خبرة. ومن العجيب أن هذه الفرق لا تستسلم للفرق الكبرى التقليدية. بل على العكس من ذلك، فقد ضمت الفرق الثمانية الأولى في آخر أربع بطولات لكأس العالم فريقين "جديدين" لم يصلا إلى دور ربع النهائي من قبل قط، مثل تركيا وكوريا الجنوبية في مسابقة عام 2002.
ومرة أخرى يرجع هذا إلى سببين. الأول، أن حرية انتقال اللاعبين تعني أن اللاعبين المهرة من الاتحادات الصغيرة قد تحسنوا كثيراً عما لو كانوا قد ظلوا في ديارهم. فاللاعب الدنمركي أو البلغاري يتحسن بسرعة أكبر إذا ما انضم إلى فريق مانشستر يونايتيد أو برشلونة.
السبب الثاني أن ذلك التحسن في جودة اللاعبين جاء في مصلحة المنتخبات الوطنية، وذلك بفضل قرار الاتحاد الدولي لكرة القدم الذي يمنع اللاعبين من اللعب في أي منتخبات وطنية غير منتخبات بلدانهم. فعلى سبيل المثال، يستطيع إتو أن يلعب لأي نادٍ أسباني أو إيطالي أو إنجليزي، ولكنه في المنافسات التي تدور بين المنتخبات الوطنية، لا يستطيع إلا أن يلعب مع منتخب الكاميرون. أو بعبارة أخرى، أرسى الاتحاد الدولي لكرة القدم قاعدة تسمح للدول الصغيرة (فيما يتصل بكرة القدم) بالانتفاع ببعض الفوائد الناجمة عن ارتفاع جودة اللعبة اليوم، الأمر الذي أدى إلى موازنة مسألة استنزاف اللاعبين المهرة.
نقل القاعدة الكروية إلى أنشطة أخرى
نستطيع أن نطبق نفس القاعدة على أنشطة أخرى. فبوسعنا أن نجعل انتقال العمالة الماهرة مصحوباً بضوابط دولية تلزم المهاجرين من الدول الفقيرة بالعمل في بلدانهم لمدة سنة من كل خمس سنوات يقضونها في العمل في الخارج على سبيل المثال. وهذا يعني أن هؤلاء العاملين سوف يعودون إلى بلدانهم الأصلية بالمهارات، والتكنولوجيا، والصلات المهنية التي لا تقل قيمة عن المهارات التي عاد بها إتو، أو إيسين، أو ميسي إلى الكاميرون، أو غانا، أو الأرجنتين. سوف تظل مسألة تعيين وتحديد الوظائف والمهام تمثل مشكلة، لكن المبدأ السليم يقول: "يتعين على العالم أن يتعلم من أكثر ألعابه الرياضية شعبية".
بقلم برانكو ميلانوفيتش
ترجمة: هند علي