في وفاة آية الله العظمى حسين علي منتظري:
الثوري الذي التهمته الثورة....من "صانع" الجمهورية إلى "مرشد" المعارضة
رحل قبل بضعة أيَّام المرجع الإيراني المعارض، آية الله العظمى حسين علي منتظري الذي كان يشكِّل الروح الدينية "للثورة المخملية" في إيران. كما اختير نائباً للخميني إلى أن عَزَلَه من منصبه، حيث يمثل تحوّل منتظري من رجل دين ثوري إلى إصلاحي تطوّر حركة المعارضة في إيران. أورس سارتوفيتش يسلِّط الضوء على هذا الزعيم الشيعي المعارض.
منتظري في نقد نظام أحمدي نجاد :"أشعر بالعار وبأنَّني مسؤول أمام الله عن الدماء التي تمت إراقتها وعن انتهاكات حقوق المواطنين"
عندما تم في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1985 انتخاب آية الله حسين علي منتظري ليكون خليفة لمرشد الثورة الإسلامية في إيران، آية الله روح الله الخميني، لم يكن هناك ما يشير كثيرًا إلى أنَّ منتظري سوف يصبح في يوم ما من أبرز ممثِّلي حركة الإصلاح في إيران. ورجل الدين، منتظري الذي كان يعدّ منذ فترة الستينيات من أكثر مؤيدي الخميني المخلصين له والمقربين جدًا منه، كان يعدّ كذلك من أشدّ المطالبين بتصدير الثورة الإسلامية ومن أبرز المدافعين عن فكرة ولاية الفقيه التي ساعد في ترسيخها في الدستور عندما كان رئيسًا لمجلس خبراء القيادة في العام 1979.
ومنتظري كان يعتبر، حتى إبَّان الاحتجاجات التي قامت ضدّ سياسة الشاه في العام 1963، من أقرب المقرّبين من روح الله الخميني الذي تم اعتقاله وتمكَّن منتظري من منع إعدامه الوشيك، وذلك من خلال تنظيمه احتجاجات لرجال الدين. والخميني شكره على ذلك من خلال تعيينه له في فترة وجود الخميني في المنفى ممثله في إيران. وعلى الرغم من أنَّ الدور الذي لعبه منتظري في الثورة كان ثانويًا بالمقارنة مع دور رجال دين آخرين، إلاَّ أنَّه كان بعد عام 1979 المرجع الإيراني الوحيد المحتمل لخلافة الخميني، وذلك لأنَّه كان المرجع الديني الوحيد الذي يؤيِّد فكرة ولاية الفقيه.
نقد حاد للنظام
ولكن اليوم ينظر منتظري إلى دوره السابق نظرة انتقاد، حتى وإن كان يدَّعي أنَّه كان يريد في تلك الفترة انتخابات القيادة من خلال انتخابات ديمقراطية وفرض الرقابة عليها: "أنا ومثلما يعلم الجميع كنت مدافعًا صلبًا عن سلطة الدين ومؤسسًا لولاية الفقيه - وبالطبع ليس في شكلها الحالي، بل بطريقة تمكِّن الشعب من انتخاب الفقيه ومن الإشراف على عمله - وبذلت ما في وسعي من أجل تحقيق ذلك، ولكنَّني أشعر الآن بالخجل حيال الظلم الذي تم فرضه باسم الفقيه على الشعب، وأشعر بالعار وبأنَّني مسؤول أمام الله عن الدماء التي تمت إراقتها وعن انتهاكات حقوق المواطنين".
"كان منظري من أشدّ المطالبين بتصدير الثورة الإسلامية ومن أبرز المدافعين عن فكرة ولاية الفقيه التي ساعد في ترسيخها في الدستور عندما كان رئيسًا لمجلس خبراء القيادة في العام 1979"
وشعوره هذا بالعار والمسؤولية نشأ أيضًا ومن دون ريب في صمته في أثناء الأعوام التي تلت الثورة. فعلى العكس من رجال الدين والمراجع الآخرين، كان منتظري ينتقد في هذه الفترة أعمال العنف الوحشية التي تمت ممارستها في أثناء ملاحقة أعداء الثورة الحقيقيين أو المحتملين، وكذلك لا يعرف سوى القليل من احتجاجه على تقييد حقوق المواطنين في هذه الفترة. وعلى الرغم من أنَّ منتظري الذي تعرَّض في عهد الشاه طيلة أعوام للسجن والتعذيب والنفي، يبذل منذ العام 1984 ما في وسعه من أجل تحسين أوضاع السجون، بيد أنَّه لم يبدأ إلاَّ في عام 1987 بالمطالبة وبشكل علني بإجراء إصلاحات أكثر شمولاً.
وقد شكَّلت قضية مهدي هاشمي المقرَّب منه أحد الأسباب التي أدَّت إلى تنامي موقفه النقدي. وكان مهدي هاشمي قد قام في شهر أيَّار/مايو من عام 1986 بالإعلان عن المفاوضات التي كان يجريها الناطق باسم البرلمان الإيراني في ذلك الحين، علي أكبر هاشمي رفسنجاني مع الولايات المتَّحدة الأمريكية. وتم إعدام هاشمي مع أربعة عشر موظفًا يعملون معه في شهر أيلول/سبتمبر من العام 1987، وذلك بناءً على تحريض رفسنجاني - على الرغم من معارضة منتظري واحتجاجه على ذلك. وفيما بعد ازدادت التوتّرات مع الخميني، حتى وصلت في آخر المطاف في شهر آب/أغسطس من العام 1988 إلى حدّ قطيعة منتظري لأبيه الروحي السابق وقدوته الذي يقتدي به - روح الله الخميني، وذلك لأنَّ منتظري استنكر بشدة حكم الإعدام الذي أصدره الخميني بحقّ جميع أنصار المعارضة المعتقلين واعتبره انتهاكا للقانون والدين.
مرشد المعارضة
واليوم لا تقوم مصداقية منتظري فقط على حقيقة أنَّه كان في تلك الأيَّام المرجع الديني الوحيد الذي تجرَّأ على معارضة هذا الإعدام. وعلى سبيل المثال لقد كتب في يومنا هذا وزير الثقافة السابق، عطاء الله مهاجراني يقول: "نحن جميعًا بقينا صامتين إزاء هذه المذبحة التي قتل فيها شبابنا، وذلك لأنَّنا كنَّا نعتقد أنَّ الحرب تبرِّر هذا الصمت وتسمح بأعمال القتل هذه التي لم يكن لها في تاريخنا أي مثيل من حيث حجمها. ومن بين جميع المسؤولين لم يرتفع سوى صوت واحد؛ صوت آية الله منتظري الذي احتجّ على عمليات القتل ولذلك تم عزله من منصبه. وفي الحقيقة إنَّ قيمة ما فعله تفوق قيمة كلِّ منصب كان من الممكن له أن يفقده".
والسبب المباشر لسقوط منتظري كان يكمن في مجموعة من الخطابات والحوارات والمقالات التي كتبها في الذكرى السنوية العاشرة لقيام الثورة الإسلامية في إيران في شهر شباط/فبراير من العام 1989، ووجَّه فيها انتقادات شديدة إلى الثورة الإسلامية؛ إذ إنَّه لم يدع فقط إلى ترخيص الأحزاب ومحاربة الفساد وكذلك إلى إنهاء اضطهاد المعارضة، بل لقد اتَّهم الثورة وعلى نحو عام بخيانتها أهدافها وقيمها الخاصة بها، بالإضافة إلى أنَّه انتقد مواصلة الحرب ضدّ العراق ووصفها بأنَّها غير ضرورية وغير مشروعة - ما شكَّل هجومًا مباشرًا على الخميني. وقد وصل أمره إلى نهايته عندما تم بعد ذلك بفترة قصيرة نشر الرسالتين اللتين كتبهما في شهر آب/أغسطس عام 1988 إلى الخميني في قناة البي بي سي.
في شهر آذار/مارس من العام 1989 قام الخميني بعزل منتظري من منصب نائب مرشد الثورة الإسلامية، على الرغم من أنَّ الخميني قد وصفه ذات مرة بأنَّه "ثمرة حياته"
وفي شهر آذار/مارس من العام 1989 قام الخميني بعزل منتظري من منصب نائب مرشد الثورة الإسلامية، على الرغم من أنَّ الخميني قد وصفه ذات مرة بأنَّه "ثمرة حياته". وبعد ذلك ببضعة أشهر عندما توفي الخميني في شهر حزيران/يونيو من العام 1989، تم انتخاب علي خامنئي في منصب المرشد الأعلى. وكان ذلك يعني بالنسبة لمنتظري فقدان جميع سلطاته، بيد أنَّه تحوَّل في الأعوام التالية إلى ما يشبه السلطة الدينية الخاصة بحركة الإصلاح التي ساهم في منحها شرعيتها بفضل مكانته الدينية، وكذلك أيضًا بفضل استقامته وسلامة شخصيته.
وعلى الرغم من أنَّه كثيرًا ما كان مدعاة للسخرية ولم يكن يتم التعامل معه باعتباره سياسيًا بشكل جاد، بسبب أصوله البسيطة ولهجته القروية، إلاَّ أنَّ تواضعه وكذلك دفاعه عن حقوق السجناء والمضطهدين أكسباه، وبصرف النظر عمَّا كان لذلك من عواقب وتأثيرات عليه، أيضًا الكثير من التعاطف بين المواطنين.
صراع وتحد
ومنتظري كان يمثِّل تحديًا بالنسبة لخامنئي، وذلك لأنَّ خامنئي لم يكن إلاَّ مجرَّد مرجع ديني من الدرجة المتوسطة، وتم منحه بين ليلة وضحاها درجة آية الله، ولهذا السبب فهو لا يملك في نظر الكثير من رجال الدين المؤهِّلات الضرورية لمنصب مرشد الثورة الإسلامية. ولهذا كان يسعى منذ البداية إلى توطيد سلطته الدينية. ولكن عندما راح مؤيدوه يدعون في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1994 إلى الاعتراف بمنح خامنئي درجة آية الله العظمى، رفض منتظري وبعض رجال الدين والمراجع الآخرون قبول مثل هذا التدخل من قبل الحكومة، والذي كان سيعني وضع الدين تحت سيطرة السياسيين.
وعلى الرغم من أنَّ خصوم منتظري وأعداءه يتَّهمونه بأنَّه يرغب من خلال معارضته لخامنئي قبل كلِّ شيء في الانتقام، لأنَّه لم يصبح هو بنفسه المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، إلاَّ أنَّ مطالبته بإصلاح النظام لا يمكن أن تكون ناجمة فقط عن منافساته وخلافاته الشخصية؛ إذ إنَّ منتظري لم يسع قطّ بعد الثورة إلى ممارسة سلطة سياسية، بالإضافة إلى أنَّه رفض في الأصل انتخابه لخلافة روح الله الخميني. ولكن انتقاده للنظام يتَّضح من خلال كونه فهم مثل الإصلاحيين الآخرين وبناءً على تجربته الخاصة، أنَّ هذا النظام الذي شارك هو بنفسه في تأسيسه، صار يسير في اتِّجاه خاطئ، ولا يمكن لشيء أن يضمن بقاءه سوى إصلاحه.
منتظري...المرشد الإصلاحي
"منتظري كان يمثِّل تحديًا بالنسبة لخامنئي، وذلك لأنَّ خامنئي لم يكن إلاَّ مجرَّد مرجع ديني من الدرجة المتوسطة"
ومنتظري لم يدع أبدًا أي مجال للشكّ في أنَّه يسعى من أجل الحفاظ على النظام الذي لم يشكِّك قطّ في جوهره - أي توجيه السياسة من خلال تعاليم الإسلام. ولذلك فإنَّ الإصلاحات التي يطالب بإجرائها منذ منتصف التسعينيات لا تهدف أيضًا إلى إلغاء وجود مرشد الثورة ودوره، بل تهدف فقط إلى انتخابه بصورة ديمقراطية والإشراف على عمله. وفي نظر منتظري لا يحصل المرشد الأعلى على شرعيته إلاَّ من خلال انتخابه من قبل الشعب، وذلك لأنَّ الله قد منح السلطة إلى الشعب ولم يمنحها، مثلما يدَّعي أنصار خامنئي، إلى مرشد الثورة. ومن خلال هذه الانتخابات ينشأ - حسب رأي منتظري - ميثاق يُلزم مرشد الثورة أمام الشعب.
وحسب تصوّر منتظري ينبغي لمرشد الثورة أن يضمن بصفته صاحب السلطة الدينية تطابق السياسة مع الإسلام، ولكن لا ينبغي له أن يمارس الحكم بنفسه. ومثلما عبَّر منتظري بعد انتخاب الإصلاحي محمد خاتمي رئيسًا للبلاد في خطاب ألقاه في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1997 ولقي الكثير من الاهتمام، فإنَّ كلَّ المسؤوليات تقع على عاتق الرئيس، ومع ذلك فإنَّ السلطة تتركَّز في يد مرشد الثورة. وقال منتظري إنَّ هذا المرشد قد أحاط نفسه بحاشية تشبه حاشية ملك ما، وابتعد عن الشعب. وحينها ردّ النظام على ذلك بإغلاق حلقته الدراسية وبفرض الإقامة الجبرية عليه في بيته، ولم يتم إلغاء قرار الإقامة الجبرية هذا إلاَّ في بداية العام 2003.
ومنذ العام 1997 تغيَّرت الأوضاع في إيران بشكل جذري. فإعادة توزيع السلطة ومنحها إلى رئيس الدولة - هذه السلطة التي كانت مجدية ومفيدة عندما كانت في يد رئيس إصلاحي - لم تعد تقدِّم على ما يبدو منذ انتخاب الرئيس المتشدِّد محمود أحمدي نجاد أي حلّ. ومثلما كتب منتظري أنَّ "الدولة تخضع في الحقيقة لسلطة العسكريين، وليس لسلطة الفقيه"، يبدو في هذا الوقت أنَّ الجدال حول سلطة مرشد الثورة وشرعيته أصبح يفقد من أهميته. ويبدو أنَّ منتظري قد فقد الأمل في إصلاح النظام منذ الانتخابات الرئاسية الإيرانية المثيرة للجدل والتي تم إجراؤها في شهر حزيران/ يونيو 2009.
تشكيك في شرعية نجادي
وفي تصريحه الذي يحظى في داخل إيران وفي خارجها بقدر كبير من التقدير والذي أدلى به حول شرعية النظام في الحادي عشر من شهر تموز/يوليو 2009، قال إنَّه لم تعد هناك أي قيمة للمحافظة على هذا النظام الذي فقد كلَّ شرعيته الإسلامية والديمقراطية ولم يعد يعتمد إلاَّ على القوة والغش والخداع، وأنَّ من واجب جميع المؤمنين وعلى رأسهم رجال الدين المساهمة في سقوطه. وعلى الرغم من شدة هذه الكلمات الفريدة من نوعها، إلاَّ أنَّ أزلام النظام اكتفوا وعلى خلاف ما فعلوه في العام 1997، فقط بإغلاق موقع منتظري على شبكة الإنترنت، وذلك لأنَّهم لم يكونوا يريدون المخاطرة في ترك هذا المرجع الديني الذي بلغ عمره الآن سبعة وثمانين عامًا يموت تحت الإقامة الجبرية ويتحوّل بذلك إلى شهيد.
وصحيح أنَّ هذا النظام يعلم قبل كلِّ شيء أنَّ بإمكان منتظري أن يقوِّض دعائم شرعيته، ولكن هذا النظام فقد أيضًا كلَّ شرعية ولم يعد يستطيع الحفاظ على وجوده في السلطة إلاَّ بالقوة. ومنتظري يدرك أيضًا أنَّه في حال قيام ثورة جديدة لن يتم فقط إبعاد القيادة الحالية، بل سوف يتم أيضًا إبعاد النظام نفسه - وبذلك أيضًا إبعاد منجزاته. ولذلك فقد اقتصر منتظري في تصريحاته اللاحقة على إدانة المحاكمات الصورية والاعترافات القسرية، بالإضافة إلى انتقاده التعذيب في السجون، وعلى المطالبة بتشكيل لجنة مستقلة من أجل التحقيق في اتِّهامات تزوير الانتخابات. ولم يكرِّر دعوته إلى إسقاط النظام.
أورس سارتوفيتش
ترجمة: رائد الباش