سنسحب التفويض منكم
لم يعد من الممكن في اكثر الدول تخلفا ان تتحدث السلطات وتعقد الاتفاقات في مسائل مصيرية من دون العودة الى شعبها، عبر استفتاء يضمن مشاركة واسعة من الناس. ولم يعد بالامكان استهتار شخص او مجموعة اشخاص بأمور الناس من دون تفويض من مؤسسات تمثل الشعب تمثيلا حقيقيا.
هذه الفردية والارتجال والجرأة باتخاذ القرارات المصيرية والخطيرة هي احتكار عربي بامتياز. لانه مع قيام المؤسسات الحكومية والهيئات القضائية بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اخذت الشعوب تقرر مصيرها بنفسها نسبيا وتختار من تثق به لتمثيلها، وبهذا تطورت البلدان تطورا مطردا على كافة الصعد، وبالاخص في مجال الحريات وتداول السلطات ومراقبة اداء المسؤولين الحكوميين. ولهذا ايضا فإن اقل الازمات كانت تُسقط حكومات واحزابا أو وزراء على اقل تقدير. مسألة الاستئثار بالسلطة والتشبث بها وارتكاب الاخطاء القاتلة والمصيرية على اسس ارتجالية وفردية وانعدام المراقبة القضائية والتشريعية 'ماركة' فقدت من اسواق العالم.
ولم تعد تسوق الا هنا! هنا حيث يتربع الحاكم بأي صفة كان على كرسيه حتى الابد.. بحكم مطلق او بتزوير انتخابات او بالبلطجة وبقوى الامن او بقوانين طوارئ لا نهاية لها، بأفكار جاهلة كصاحبها الذي يتوهم بنظرية عالمية جديدة.
كل هذا يحصل هنا، بل ان الرجل 'الذي لا مثيل له في البلاد' يحل البرلمان، ويشكل الحكومات ويبعثر الاموال، ونحن ندعو له بطول العمر ونشكره على تكرمه بأشياء صغيرة لا تسمن ولا تغني من جوع.
على الرغم من كل هذه الطاعة العمياء والرضوخ الاستسلامي فإن الرجل 'المنزّه' لا يلتفت لقضايا شعبه ومشكلاته الحقيقية. ولا يقدم اليسير لمستقبل الناس، وهو لا يلام بهذا لانه يقدم كل ما لديه، ففاقد الشيء لا يعطيه! الجاهل لا تهمه المدارس والجامعات، والسكير لا تهمه دور العبادة، والمتخم لا يهمه الجياع. وساكن القصر لا يهمه من يسكن في المقابر. والجلاد لا يهمه المعذبين في السجون، وبالعودة لمن يقدم المساومات التي لا يملك تقديمها الا عبر استخفافه بتطلعات الشعب، نسأله من كلفك، من فوضك بانتزاع حقوق فردية وجماعية ليست ملكا لك.
يمكنك ان تفاوض على بيع سيارتك، بيتك، ضميرك، لكن لا يمكنك ان تبيع شرفك ان تبيع مقدسات لا تملك بيعها، وعذابات لا يمكن انتزاعها من صدور الناس، وآلام وحسرات تلوع بها الاجداد والآباء والاولاد والاحفاد، في بلاد لم تقبلهم كبشر.
وفي قهر مات عليه البعض ويعاني منه البعض الآخر. انت ايها التاجر نرجوك ان تتاجر بكل الاشياء الا بدمائنا وانسانيتنا وآلامنا وماضينا ومستقبلنا.
نسألك ايها السيد السمين هل جربت اللجوء، هل جربت برد الخيم، هل راقبت والدك يموت حسرة على ارضه ومسقط رأسه، هل عشت مع عشرة من اسرتك في غرفة رثة ضيقة، هل اكلت سياط الجلادين من لحم ظهرك. هل تعرضت للسخرية من اجل لهجتك، هل هدم منزلك خمس مرات بغارات العدو؟
انت ايها الرجل ذو البدلة وربطة العنق هل جربت يوما ان تحلم بالليل والنهار بالعودة؟ وحافظت على مفتاح رسم الصدأ نتوءاته، واوراق تركها الاباء ذكرى وامانه؟ انت ايها الاشيب بلا وقار هل جربت الكرامة والعزة ولو مرة في حياتك؟
ماهر الصديق