الشروق تخترق عالم المزادات العلنية
تهديدات بالقتل وبضاعة المليار تباع بـ 20 مليونا
تحقيق: ن.إكرام
المزاد العلني..غابة "الأقوياء"
لم يكن من السهل ولوج عالم المزادات العنية بالنظر إلى الأخطار الكبيرة التي تحوم حول هذه الأسواق التي هي نظريا تابعة للدولة ومن تنظيمها، أما واقعيا فهي خاضعة لسلطة "المافيا"، وكل شيء فيها يسير وفقا لأحكامها المستنبطة من قوانينها الخاصة.
*بودي ڤارد مسلح يمنع التجار من المزايدة
"الشروق" فضلت اقتحام هذا العالم المخيف وتتبعت أجواء وأخبار المزادات العلنية لعدة شهور، وخلصت إلى هذا الروبورتاج:
من دخل المزاد ليس آمنا!
أول مزاد قصدناه كان من تنظيم مفتشية الجمارك قبل نحو 06 أشهر، فقبل التوجه إلى قاعة المزاد، وهي عبارة عن مخزن كبير، قصدنا قبلها بـ 48 ساعة مكان عرض المبيعات، وهي عبارة عن سيارات وملابس وقطع غيار ودراجات ودراجات نارية وزورق صيد وبعض الأثاث، تم حجزها من طرف الجمارك بميناء سكيكدة الدولي، وذلك على مستوى مركز الحاويات (سطورة) الكائن مقره بالمنطقة الصناعية حمروش حمودي، وصادفنا هناك سيارات عديدة مركونة أمام مدخل المركز مرقمة بأرقام ولايات باتنة، أم البواقي، قسنطينة، ميلة، تبسة، وهي الولايات التي يكثر فيه تجار السيارات القديمة والمستعملة وقطع الغيار بمختلف الأنواع والماركات، خاصة بعين مليلة وبريكة وتاجنانت والعلمة. تحدثنا إلى بعض هؤلاء دون الكشف عن هويتنا، فأخبرونا بأنهم دائما يتتبعون أخبار المزادات العلنية عبر الجرائد ومن مفتشيات الجمارك عن طريق معارفهم وأصدقائهم! وتعد المزادات بالنسبة إليهم مصدرا للربح وخبزتهم التي لا تقدر بثمن. في اليوم الموالي، قصدنا المزاد الذي تم تنظيمه بوحدة تابعة لميناء سكيكدة، تقع بالمنطقة الصناعية حمروش حمودي، غير بعيد عن مكان عرض السيارات والسلع التي ستباع في المزاد. كانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف صباحا، إلا أننا وبمجرد وصولنا أحسسنا بأننا نحن الوحيدين الذين وصلنا متأخرين، فالمكان يعج بالناس وبالسيارات، وقبل النزول فرض علينا شابان يرتديان "قشابية" ويحملان عصا في يد كل واحد منهما ركن السيارة في إحدى جنبات الطريق مقابل دفع مبلغ 200 دج (عدا ونقدا)، والدفع يكون مسبقا، فرفضنا هذا الابتزاز، وكاد الأمر يتحول إلى شجار لولا تدخل بعض العقلاء الذين أقنعونا بضرورة الدفع وإلا حدث ما لا يحمد عقباه، كأن تخرج من المزاد ولا تجد السيارة بتاتا، فلم نجد إلا الدفع المسبق ونحن له كارهون. تركنا السيارة واتجهنا نحو باب الدخول، كان هناك جمركي يرتدي الزي الرسمي يدخل بين الحين والآخر مجموعة صغيرة من الذين يريدون المشاركة في المزاد، ولم نفهم لماذا لا تفتح الأبواب على مصراعيها ليدخل ويخرج من يشاء بكل حرية! الجواب وجدناه عند أحد المزايدين المتعودين على الحضور، الذي قال لنا أن الهدف من ذلك هو منع المتطفلين من الدخول!
القتل لكل من تسوِّل له نفسه المزايدة بشرف
أمام باب الدخول سمعنا ورأينا العجب العجاب، شباب لا ندري إن كانوا "مزطولين" أم لا، يهددون كل من تسوّل له نفسه المزايدة على العروض المقترحة، فتجد من ينادي بأعلى صوته "من يزايد على العرضين 8 و13 سيكون مآله الموت، ولن يعود إلى عائلته"، وآخر يحذر من المزايدة على العرض الخامس والأربعين، وثالث على عروض أخرى.. وهكذا.. تجرأنا وتكلمنا مع أحدهم: هل المزاد ملك لأبيك أو لأحد أفراد عائلتك حتى تهدد من تشاء، فقال لي "أفعل ما أريد وأتلفظ بما أريد، وإذا لم يعجبك الحال ستموت أنت أيضا!"، عندها اقترب مني أحد العارضين وهمس لي في أذني "باين فيك راك ناس ملاح.. أخطيك من هؤلاء راهم سالكين على واش يقولو فيه"، فقلت له على الفور من هؤلاء الذين يقفون وراءهم فقال لي "ستكتشف ذكل بنفسك في الداخل".
المزاد معركة تستعمل فيها كل الأسلحة الممنوعة
اقتربنا من البوابة بغرض الدخول، لكن دون جدوى، حيث منعنا التدافع و"الدحيس" من الاقتراب من الجمركي الواقف بالباب، فاضطررنا لاستعمال نفس الأسلوب الذي استعمله من حالفه الحظ بالدخول حتى وصلنا إلى الجمركي الذي أدخلنا بصعوبة. بالداخل مشينا حوالي 60 مترا قبل ولوج قاعة المزاد، والتي هي عبارة عن مخزن كبير مغطى بصفائح الزنك، وكان أول من شاهدناه محافظ البيع بالمزايدة واقفا فوق طاولة خشبية حتى يتمكن من رؤية وسماع كل المزايدين. وجدنا المزاد عند العرض الخامس، بعدها قدم المشرف على المزاد العرض السادس، والذي هو عبارة عن لوازم للصيد البحري، فما كاد ينتهي المزايد من تقديم العرض ومواصفاته حتى راح بعض الشبان يهددون ويتوعدون كل من يزايد عليه، فالعرض هو ملك لفلان وهو رزقه كما يقولون، وما يكاد ينطق مزايد بسعر ما حتى يسمع وابلا من السباب والشتائم وتهديدا بالقتل، وهكذا إلى أن رسا المزاد على من أراده هؤلاء الشبان، بعده العرض السابع ومعه تكررت نفس المشاهد. وماشد انتباهنا، هو إخراج أحد الشبان المكلفين بالسب والشتم والتخويف سكينا من جيبه، ودون أن يلفت الانتباه اقترب من مزايد ووضعه في ظهره مهددا إياه إن أكمل في رفع السعر فسيموت، مما جعله يطبق الصمت، وعلى نفس المنوال توالت العروض وتوالت الشتائم والتهديدات، مما دفع بالبعض إلى الانسحاب، على غرار (مصطفى العاصمي) الذي كان ينوي شراء العرض الخاص بالملابس، إلا أن العرض رسا على شخص آخر، ليس بسبب أنه دفع أكثر، ولكن بسبب أنه تمكن من إسكات المزايدين الآخرين. ونفس المشاهد والصور تكررت بعد ستة أشهر في مزاد مماثل بنفس المكان، حيث فرضت "المافيا" منطقها في غياب أدنى سلطة للدولة.
عتاد للأشغال العمومية بيع تحت التهديد بالقنابل المسيلة للدموع
وبنفس المنطقة الصناعية بحمروش حمودي، نظم مزاد علني آخر لبيع عتاد للأشغال العمومية، حيث اضطرت المافيا إلى إخراج كل أوراقها للاستيلاء على العتاد بالأثمان التي تريدها؛ فبعد السب والشتم أخرج بعض من هؤلاء الشبان قنابل مسيلة للدموع وهددوا كل من يرفع السعر فوق السعر الذي يحدده سيدهم بتفجير القنبلة فيه، وسار المزاد على النحو الذي أراده التجار الكبار الذين يشتمُّون رائحة المزادات من على بعد مئات الكيلومترات.
مزادات سوناطراك تسيل اللعاب
وبالعملاق الاقتصادي سوناطراك تنظم مزادات علنية بين الحين والآخر، لكن تظل بمنأى عن عصابات المافيا، حيث من الصعب التلاعب في الشركات البترولية، نظرا للإجراءات الأمنية الدقيقة التي يخضع لها الجميع أمام بوابة الدخول، وكذا إلى عدم علم الجميع بهذه المزادات وتواريخ تنظيمها. ويشير إطار من ذات الشركة عن هذه المزادات فقال إنها مزادات علنية وتخضع للقوانين السارية المفعول، إلا أن الشيء الذي يميزها عن باقي المزادات هي الأسعار المنخفضة، نظرا لقلة المزايدين. ويؤكد هذا الإطار أن كل العتاد والوسائل والتجهيزات التي تصاب بالعطب تباع في هذا المزاد، ويجد مرتادوها راحة أكبر وربحا وفيرا، حيث حكى لنا عن شخص رسا عليه المزاد بقيمة 400 مليون سنتيم، فقام في المكان نفسه بإعادة بيع ما اشتراه بضعف السعر لشخص آخر. ويؤكد العارفون بخبايا العملاق سوناطراك أن مسؤوليها يلجأون عند أبسط عطب يصيب سياراتهم الخاصة وحتى وإن كانت جديدة إلى تحرير محضر بعدم صلاحيتها وبيعها في المزاد والإقدام على شراء سيارات جديدة.
البودي ڤارد يجنون مابين 3 إلى 6 ملايين في كل مزاد
بعد نهاية المزاد اقتربت "الشروق" من أحد الذين أشبعوا الناس سبا وشتما وتهديدا بالقتل وحاورته عن مهنته هذه فقال دون تردد "إنها خبزتنا احترفناها منذ مدة ونجني من ورائها أموالا طائلة، وكل من يدفع أكثر نحن في خدمته، ولا يهمنا من أين أتى ولماذا يزايد. المهم أن يدفع أكثر حتى يرسو عليه العرض". سألناه كيف يعلم بموعد المزادات فقال إنه يتتبع الأخبار عن طريق الجرائد، وحين موعد المزاد يتنافس مع من يمتهنون مهنته في اصطياد الزبائن، وهم تجار تعودوا على خوض المزادات، ويكون أحسن زبون من يدفع أكثر في مقابل التعهد له برسو العرض عليه. وحول ما إذا كان يخشى من رد فعل رجال الأمن المتواجدين بالمزاد، رد علينا بأن هؤلاء تعودوا على ما نقوم به وهم أصبحوا أصدقاءنا (يضحك محدثنا)!!
مليارديرات المزاد العلني
فضولي ينتظر فرصته ليصبح أحد بارونات المزاد العلني، أخذنا إلى حي راق في عنابة ووقف أمام شبه قصر فاخر وقال أن صاحبه لا مهنة له سوى المزادات العلنية، فهو يقرأ الجرائد العمومية، وبالخصوص التي تنتشر المزادات العلنية، ويأخذ (شلته) إلى كل المدن الجزائرية، وبلغ به الثراء النازل من السماء بالمطر أن اشترى سيارة بـ 20 مليونا وباعها بمكالمة هاتفية بـ100 مليون، أما عن بقية التجهيزات ففائدته قد تصل إلى المليار في مزايدة واحدة، وهو نموذج لمزايدين آخرين بإمكانهم أن يشتروا سيارة المئة مليون بـ 20 مليونا حتى ولو كان هناك زبون قادر مستعد لدفع 80 مليونا نظير هاته السيارة أو العتاد.. وصار من الصعب تحريك هؤلاء البارونات أو بلوغ درجتهم، لكن ما لاحظنا أن الفضوليين وهم قلة من الذين يحضرون مختلف المزاد يحضرون أنفسهم لولوج عالم المزايدة بعد أن يشبع البارونات الحاليون.. إن شبعوا طبعا!!
أما المزادات العلنية الأكثر غرابة، فتقع في المراكز الحدودية، حيث من الضروري أن تطرح جمارك الحدود للبيع بالمزايدة كل ما هو مستورد، وبالطبع ما غلى ثمنه، حيث حضرنا مزايدة في المركز الحدودي بأم الطبول بالقالة بولاية الطارف على الحدود مع تونس، وكانت عبارة عن سيارات حاول أصحابها إدخالها بطرق غير قانونية ومعظمها غير متوفر في الجزائر، إضافة إلى أن هذه المراكز الحدودية بعيدة عن التجمعات السكنية، مما يعني إمكانية "الاستفراد" بها بعيدا عن أعين المزايدين أو الفضوليين. ويعرف لدى أهل المزايدين أنه من تنقل إلى مركز حدودي من البارونات فلن يعود إلا بكيس كبير من المال.. وأمام انسداد الأبواب الآن في الشمال، غامر آخرون نحو الحدود الجنوبية، حيث يتهاطل الذهب على البارونات من كل مكان، ومنهم من صار يعجز عن عد أمواله.. كما يشاع حاليا.