نص الحوار مع المفكر المغربي الدكتور المصطفى تاج الدين أستاذ الثقافة الإسلامية والتفكير الإبداعي وعميد كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة الحصن العامرة – أبو ظبي.
نحتاج إلى إعادة تفسير القرآن الكريم، ولا وساطات بيننا وبين الخالق
حاوره من أبو ظبي: مولاي محمد إسماعيلي
سؤال: كيف يعرف الدكتور المصطفى تاج الدين نفسه لقراء جريدة مغرب الغد؟
جواب: من الصعب أن يعرف الإنسان نفسه لأن التعريف مؤسس على الفهم وعلى ما يريد الآخر أن يعرفه عنك. المهم أنني رجل ولد في بيئة فقيرة نوعا ما ليجد نفسه مضطرا للتفكير في مستقبل ينتشل الأسرة من براثن الفقر والحاجة. وكان نبوغي مبكرا في المدرسة واستمر ولله الحمد إلى المراحل التعليمية الأخرى. لم أكن أميز في اجتهادي بين الرياضيات والعربية والفيزياء لقد كنت مميزا فيها جميعا لكن حب العربية وعشقها خطفاني إلى حيث يريد امرؤ القيس. ومنذ طفولتي المبكرة قرات العقاد وحسن البنا وعماد الدين خليل ومحمد قطب وطه حسين و كنون الإبراشي وديكنز وأدبيات السجن والمحنة الإخوانية ثم انخرطت بفعل ذلك في صفوف حركة الإصلاح والتجديد المغربية والتي كان اسمها آنذاك جمعية الجماعة الإسلامية. وطلب منا ساعتها أن نتوقف عن قراءة كتب التنوير مثل كتب برهان غليون وإن كان هذا المنع خاصا بمن كانوا مكلفين بتربيتنا داخل الجماعة في منطقتنا وربما كان اجتهادا خاصا منهم.
ولقد وفرت لي الجماعة مناخا جيدا للقراءة بحيث كنت مكلفا بالرد على إديولوجيات اليسار خلال الثمانينيات وبداية التسيعينات من القرن الماضي. ثم إن أجواء الالتزام الديني أعطتنا تصورا وظيفيا للحياة فكانت مرحلة المراهقة مليئة بالعمل والسعي والدعوة والقراءة وبمعنى آخر نجحت الحركة الإسلامية في أن تعطي لحياتنا الرتيبة معنى وأن نشعر بقيمتنا ودورنا في تغيير المجتمع. إلا أن ما كان يميزني هو أنني كنت مسكونا بالعقاد وطه حسين ومحمد عبده ومالك بن نبي فبدأت طريقة تفكيري تختلف عن إخواني ومن ثم تعددت دوائر المفاهيم المؤسسة عندي واختلطت فكان لا بد من جهد شخصي لتحديد ما تريده الذات فكان أن بدأت في إعلان أفكاري ودعوت داخل التنظيم إلى القراءة والتفكير وواجهت ماكينة التنظيم المنمطة للأفكار والأشخاص.
ثم سافرت إلى ماليزيا فاكتشفت مدرسة الإخوان من خلال لقاءاتي بأعضائها ومدرسة الترابي ومدرسة حركة النهضة التونسية من خلال أفرادها ومن خلال زعيمها الشيخ راشد الغنوشي وكذا جبهة الإنقاذ من خلال أعضائها وبعض زعمائها في الشتات ثم اكتشفت العقل المسلم غير العربي من خلال مسلمي ماليزيا والصين وتركيا والبوسنة وتايلاند وروسيا وامريكا وكلها جنسيات قمت بتدريسها .
سؤال: قمتم بالتدريس في العديد من الجامعات في ماليزيا والسعودية وسلطة عمان والآن في أبو ظبي، هل يمكن لكم أن تحدثوننا قليلا عن هذه التجارب المتنوعة؟
جواب: هي جزء من الحياة التي يبحث فيها الإنسان عن مصدر للرزق الكريم. لقد حاولت الرجوع إلى المغرب بعد التجربة الماليزية الأولى ولكنني تنبهت إلى أن أقسام اللغة العربية والدراسات الإسلامية أضحت مغلقة أمام من لا يملك بطاقة انخراط في حزب يساري او ديني او إداري. لم أحتمل الانتظار بعد تورط قسم اكاديمي من الإسلاميين في جامعة مغربية في منح منصب وعدت به لغيري وكذا تورط عميد كلية اللغة العربية في توجيه لجنة التوظيف لاختيار غيري لشغل منصب أكاديمي في جامعتي التي تخرجت منها بتفوق معروف. المهم انني عرفت أن المغرب ليس مكانا آمنا ولأنني تركت ماليزيا بسمعة طيبة فقد فتحوا لي المجال من جديد فالتحقت بالجامعة الإسلامية العالمية من جديد فكان أن تفتحت آفاقي على البحث الأكاديمي وعلى التدريس باللغة الإنجليزية والتي وفقت بحمد الله في إتقانها.
ثم التحقت بجامعة ظفار بسلطنة عمان إلى جانب فريق من الجامعة الأمريكية ببيروت حيث ترأست لجانا كثيرة بما في ذلك رئاسة قسم اللغات والترجمة وعضوية مجلس رئاسة الجامعة ثم اتجهت إلى جدة حيث درست مهارات الاتصال في اللغة الإنجليزية والتفكير النقدي وأخيرا وجدت نفسي بابوظبي أستاذا للثقافة الإسلامية والتفكير الإبداعي والنحو والصرف وعميدا لكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة الحصن العامرة.
استفدت من هذه التجارب أن الرزق بيد الله وأن لو اجتمع الناس بقضهم وقضيضهم على أن يمنعوك رزقا كتبه الله لك فلن يفلحوا وتعلمت أن أتعلم من الناس وأن أفكاري لا بد أن تجد لها مستمعين قادرين على الاستفادة منها وهو ما حصل في ماليزيا مع طلابي من المسلمين وغير المسلمين ومع طالباتي في السعودية والتي لا يمكن أن أنسى حبهن وتقدير إدارة الجامعة في شخص مالكتها صاحبة السمو الملكي الأميرة لؤلؤة الفيصل ورئيستها الفريدة والفاضلة الدكتورة هيفاء جمال الليل لجهودي وأفكاري.
سؤال: تشتغلون على العديد من المواضيع الفكرية المختلفة ونشرتم العديد من الدراسات والبحوث، فما هي القضايا الفكرية التي يشتغل عليها الدكتور تاج الدين الآن؟
جواب: أشتغل الآن على الإمام الفراء رائد المدرسة الكوفية في النحو والمفسر العبقري كما أشتغل على مفهوم الكفر في القرآن وعلى القيم الإنسانية في القرآن وعلى مناهج استدخال التفكير الإبداعي والنقدي في برامج الدراسات الدينية بالإضافة إلى مشاريع ترجمة مختلفة ومشروع كبير عن مشكلة توقف العقل العربي عن إنتاج المعرفة.
سؤال: كيف تعرفون "مفهوم التنوير" من وجهة نظركم؟
جواب: التنوير هو الوظيفة الأساسية لجميع الأديان السماوية ولجميع الفلسفات وهو الهدف الذي تسعى إليه كل حركات التغيير الفكري والاصلاح الاجتماعي في العالم. فهو ببساطة إخراج الناس من الظلمات إلى النور فالجهل ظلام والعلم نور والاستبداد ظلام والديموقراطية نور والعبودية ظلام والحرية نور والفساد ظلام والصلاح نور وهكذا. وإذن فإن التنوير عودة بالناس إلى أصل الفطرة التي جبلوا عليها أقصد الحرية في الاختيار والتزود من معين العلم وطلب المساواة الإنسانية وتحمل المسؤولية الاجتماعية في الإصلاح.
سؤال: هل يمكن الحديث عن تنوير عربي وإسلامي في الوقت الراهن؟
جواب: لا يمكن الفصل في عملية التنوير بين مجالات الإصلاح والتغيير. فلا يمكن الحديث عن تنوير سياسي ضمن إطار ثقافي غير تنويري ولا يمكن إنجاح التنوير الثقافي في غياب إرادة للتحديث السياسي لبلوغ الديموقراطية. وفيما يتعلق بوجود تنوير إسلامي حاليا فإنني أعتقد ان هناك خطابات تنويرية متفرقة ولكنها لم تخلق رأيا عاما بعد فمن الصعب الآن الحديث عن شرعية اجتماعية ودينية للخطاب التنويري والذي يقاوم من قبل المؤسسات الصحوية التقليدية والسلفية ومن قبل السلطة ايضا والتي وإن اتفقت مع خطابات التنوير إلا أنها حاليا ومع كامل الأسف تعيش لحظة تحالف موضوعي واضح مع الخطاب التقليدي والممثل في الحركات الإسلامية المسيسة وكذا الاتجاهات السلفية والصوفية المحافظة.
سؤال: البعض تحدث عن تنوير سياسي وتنوير ديني وغيرهما، كيف يمكن الحديث عن تنوير ديني في ظل ما تعيشه الأمة الإسلامية من بروز تيارات فكرية وعقدية تتبنى العنف وتقصي الآخر وتؤمن بتفسير واحد للدين ؟
جواب: هذه الحركات موجودة دائما ولقد أشار ابن خلدون إلى بعضها وانتقد فيها الافتقار ألى أساس بناء الدولة وهو العصبية والمهم فإن حركة التنوير الديني عرفت تراجعا واضحا عن خطاب التنوير الإحيائي في مصر والمغرب والشام فمن الصعب الآن أن تجد مرجعيات دينية كبيرة ومعترف بها ذات خطاب تنويري فبعد وفاة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله صرنا بحاجة إلى مرجعية على الأقل في المجال السني وكان للمعهد العالمي للفكر الإسلامي أن يقوم بتلك المهمة لولا ظروف موضوعية وشخصية وإذن فتحدي التنوير الديني الآن هو خلق مرجعيات عن طريق وضع خطة واضحة للبحث العلمي الرصين في القرآن والحديث والتاريخ والفقه والأصول من إجل ملأ المكتبات بكتب تنويرية نقدية تتناول العلوم الدينية التقليدية. أما بالنسبة للتفسير الواحد للدين فإن هذا المنزع كان موجودا في التراث ولقد تمكن على الرغم من قلة أتباعه من خلق رأي عام مؤمن بمطلقية المعرفة الدينية ومركزية العالم في نقل المعرفة الصحيحة عن الله والرسول.
سؤال: في نظركم ما هي حدود مسؤولية الطبقة المثقفة في العمل على التأسيس لتنوير عربي إسلامي يحترم العقل ويؤسس لفكر مستنير يعطي صورة حقيقية عن الإسلام بدل الصورة الحالية المرتبطة بالتزمت والإرهاب؟
جواب: الطبقة المثقفة أو النخبة عامل حاسم في نجاح مشاريع التنوير. إلا أنه ينبغي التحذير من مشكلة التراجع لدى المثقف والذي يبدو أنه مجبر ومع كامل الأسف على الدوران في فلك المؤسسات والتي تريد من المثقف أن يقول ما تريد سواء كانت مؤسسات رسمية أو شعبية أو حتى معارضة. ولذلك فمسؤولية المثقف كبيرة جدا فإليه يعود ميراث النبوات وعلى أكتافه مسؤولية إعادة الحياة للقيم والعقل. إن المثقف المسلم ملزم الآن بتحديد موقفه الواضح من الارهاب مهما كانت مسوغات العمل الإرهابي. إن قتل الناس أو إجبارهم على التدين من خلال قناة العنف الجسدي أو الرمزي أمور لن يقبلها مثقف ملتزم.
سؤال: في الحديث عن التنوير تبرز مشكلة النص التراثي الذي يتهمه المشتغلون على مفهوم التنوير بتكبيل العقل وتقزيم دوره وجعله تابعا للنص بشكل أعمى، ما هو رأيكم في أصحاب هذا الاتجاه؟ وكيف تنظرون لمشكلة العقل والنقل؟
جواب: من الواضح أن ثقافتنا الإسلامية ثقافة نصية ولقد ساهم النص في تكبيل العقل وإيقاف مسيرته في البناء والاكتشاف ولا أقول هذا عن النص بوصفه تنزيلا بل عن النص بوصفه تأويلا. فلقد اكتسحتنا الروايات والمسانيد والصحاح ولم تترك لنا مجالا لإعمال العقل. ولك أن تتصور واقعنا الفكري البئيس الذي يردد فيه علماء ودعاة أن النبي علمنا حتى كيف نقضي حاجتنا في المرحاض وكيف نضاجع زوجاتنا؟؟؟ مع أن الحيوانات وبغريزتها الإلهية لا تحتاج إلى من يعلمها ذلك. لقد تحولنا بفعل هيمنة النص إلى روبوهات تردد ما لا تعيه وإلى كائنات سلبية تنتظر الفتوى في كل أمر تقصده أو عمل تيتغيه.
التراث جزء من نسيجنا الثقافي لكن علينا أن نوقف سلطته علينا وأن نتوجه إلى إعمال عقولنا كما فعل أجدادنا أنفسهم. علينا أن نطلق التراث وأن نتصادق معه أي أن تقتله بوصفه أبا وأن نبقي عليه بوصفه صديقا.
سؤال: برزت على الساحة الفكرية في العالم العربي مجموعة من المشاريع الفكرية المتنوعة، في نظركم ما هي المشاريع التي ترون أنها تستحق أن تسمى مشاريع فكرية والتي تتوفر على رؤية ومنهج واضحين لدى أصحابها؟
جواب: أعتقد أن مفكري الحركات الإسلامية لا يملكون مشاريع فكرية ولكنهم يملكون مشاريع سياسية ستعود بالشر على الإسلام نفسه. فمشروع الترابي الفكري قتلته السياسة والبراغماتية ومشروع الغنوشي غامض بين سلفية سلطوية يمثلها الشخص وأفكار تحررية تمثلها كتبه أما المفكرون المستقلون فيحملون مشاريع فكرية مهمة ليس في جزئياتها ولكن في مضامينها التحريرية العامة.
في المغرب انتهى مشروع الجابري الكبيرإلى سلفية غير مبررة، أما مشروع طه عبد الرحمن فهو مشروع قائم على وعي طائفي غير إنساني يقيمه على مفهوم التفضيل المنافي للقيم الإنسانية العالمية. وهناك مشروع مهم لنصر حامد أبوزيد وآخر لعبد الجواد ياسين وشحرور وأركون وفضل الرحمن وكلها مشاريع مهمة وبناءة لمفكرين وبناءة ولكن يبدو ان أوان قطف ثمارها لم يحن بعد.
سؤال: يعاني العالم العربي والإسلامي من مشكلة قلة القراءة، ما هي الحلول التي ترونها ضرورية لرفع أعداد القارئين في المنطقة العربية والإسلامية؟
جواب: الأمة الإسلامية خرجت من الحرف والكلمة ولكنها توقفت عن القراءة حينما اعتقدت أن القراءة ليست فرضا دينيا بله أن تعتقد أنها مطلب إنساني.
الذين يقرأون في العالم العربي أغلبهم يفعلون ذلك لحاجات إيديولوجية أو دينية وليس لحاجة المعرفة.
أما الحلول المقترحة فتتعلق بضرورة الرفع من مستوى فكر الناس وتعليمهم قوة الرمز وفاعليته في صناعة الواقع. أعتقد أن الأمة العربية أمة تجسيمية وليست رمزية وهو ما يصيبني احيانا بنوع من الإحباط.
سؤال: ما هي في نظركم الأمور التي نحتاجها كأمة القرآن لتحقيق نهضة حقيقية تليق بعالمية الكتاب العزيز وتجعله حقا كتابا صالحا لكل زمان ومكان؟
جواب: نحتاج إلى إعادة تفسير القرآن.. إلى قراءته وكأنه ينزل من جديد وأن نفهم واقعنا المعقد لاستقطار دلالات الكتاب العزيز وفق أفقنا المعرفي الذي تجاوز أفق أجدادنا بمراحل كبيرة. لا نريد وساطات تراثية بيننا وبين كتاب الله. فهو ميسر للذكر ومبين وثر وعامر بأسرار المعرفة الرحمانية. أعتقد أننا إذا هتكنا حجاب كتب التفسير التقليدية والتي تقف حاجزا بيننا وبين الكتاب فإننا سنقول شيئا جديدا وسنبرهن على الهداية الأبدية للقرآن الكريم في هذا العصر.