إصفهان..سحر فارس يسطع على الشرق
lotfi Flissi
الداخل إلى مدينة إصفهان ليس كالخارج منها، لأن من يدخل هذه المدينة الساحرة يشعر وكأنه بين أهله وإخوانه، ويتملّكه فضلا عن ذلك شعور بالانتماء إلى هذه البقعة، لأن للمدينة جاذبية خاصة، كل شيء تطأه قدماك له تاريخه، فمن هذه المدينة عبِر الصحابة الكرام، ومهد العديد من الفلاسفة والمحدثين لبزوغ شمس الحضارة الإسلامية، ه
نا كان ابن سنيا، وأبو الفرج الإصفهاني وغيرهما، كما أنها قلعة شامخة للدفاع عن شوكة المسلمين عبر التاريخ.
تعتبر مدينة إصفهان إحدى أشهر المدن في العالم، وتتربع على نحو 106993 كلم2، و
بها 16 الف معلم أثري، وهي بلا منازع متحف مفتوح على ثقافات وحضارات العالم المختلفة. وخلال جولتنا مع مرافقنا الأستاذ ابراهيم، وهو مسؤول العلاقات العامة في جامعة إصفهان،
اطلعنا على أجمل المساجد والجوامع والجسور والحدائق والميادين والأسواق والخانات. أول ما أبهرنا ونحن ندخل مدينة إصفهان، فندق عباسي، وهو فندق ليس كغيره من الفنادق، انه تحفة معمارية نادرة يعود إلى 400 سنة، وبه نقوش وزخارف في تمام الإتقان والإبداع الإنساني، تنوعت من النقش على الخشب إلى النقش على الزجاج والمرايا، أقام فيه الرؤساء والملوك، وفي الفندق جناح خاص بشاه إيران محمد رضا بهلوي، يؤجر بأغلى الإثمان، ويفضل اغلب الزوار النزول فيه، وفضلا عن كونه فندقا سياحيا، فهو متحف مفتوح على العمارة الإسلامية وبه مصحف عريق جدا يعود إلى 250 سنة خلت، كما أن إيرادات الفندق وقف إسلامي على مدرسة قريبة من هذه التحفة المعمارية.
ساحة "نقش جهان" خارطة العالم
تم تشييد هذه الساحة في عهد الملك الصفوي عباس الأول، وسط مدينة إصفهان، ويعتقد أنها نصف العالم، ويسكنها نصف سكانها، ومن يصل إليها يصل إلى نصف العالم، لذلك جاءت هذه التسمية "خارطة العالم" وتعتبر ثاني أكبر ساحة في العالم بعد ساحة "تين ان مان" في الصين، وهي على شكل مستطيل، ولم يتم إحداث تغييرات كبرى على الساحة مذاك اليوم إلى يومنا هذا، وجدنا العائلات تتجول في الحديقة، وتمضي ساعات الراحة، وعربات تجرها الأحصنة، يتنزه السياح من مختلف الجنسيات وسط هذه الساحة العملاقة، كما تأتي العائلات الإيرانية لتقضي يومها هناك ومعها أكلها وشربها، في حين يفضل الشباب لعب مباراة في كرة القدم، وسط هذا الديكور الممتد في التاريخ.
مسجد الشيخ لطف الله
يقع في الضلع الشرقي لساحة "نقش جهان"، وأمام مبنى علي قابو، تم إنشاء هذا المسجد من أجل إقامة الصلاة للعائلة الملكية، وتصميم المسجد بسيط وفي نفس الوقت جميل وفخم، ويتألف المسجد من رواق يقع تحت القبة الرئيسية بالإضافة إلى رواق شتوي ودهليز، ويفتقد هذا المسجد خلافا للمساجد الأخرى إلى الصحن والإيوان والمآذن،
لأنه صمم خصيصا للعائلة الملكية، التي تنتقل للصلاة من خلال دهليز.
مسجد الإمام أو 12 خطأ
وضع المسجد يظهر وكأنه يدين مفتوحتان لتحتضن الوافد إليه، الأمر الذي أضفى طابعا من الفخامة والطمأنينة على المكان، وتعتبر قبة المسجد آية من الجمال بزخارفها الرائعة ذات اللون الأزرق في إشارة إلى لون السماء، وتطغى على جمال الأجزاء الأخرى من المسجد، كما توجد ظاهرة فريدة في هذا المسجد، كما بين لنا مرافقنا، حيث ان أسلوب التصميم جعل صدى الأصوات يتردد داخل صحن المسجد لعدة مرات، وقد قام مرافقنا بتجربة بحيث أخذ ورقة نقدية وحكها وتردد الصوت بشكل عجيب، كما رفع السيد ابراهيم الآذان أمامنا وتردد بشكل عجيب داخل المسجد، واهتزت فرائسنا ونحن نستمع إلى صوته ينتشر بين جنبات المسجد، والتفت كل من كان من الزوار إلى مصدر الصوت، كما أن أسلوب انعكاس أشعة الشمس من خلال النوافذ والمناوير والفتحات بحيث يتم تحديد وقت الظهر الشرعي في أي وقت من أوقات السنة. ومن العجائب التي تضمنها هذا المسجد كذلك، وجود 12خطأ تعمد مصمم البناء ارتكابها، للإشارة إلى ان الكمال لله وحده وليس للبشر، ومن بين هذه الأخطاء المتعمدة، عدم اكتمال المزهرية في مدخل المسجد، والبقية منتشرة بين أرجاء المسجد، وفي المدخل يوجد حوض ماء، في إشارة إلى الطهارة، وكذلك ساعة مائية.
قصر "علي قابو"
يقع هذا القصر في الجانب الغربي من ساحة -نقش جهان- وهو من عجائب الهندسة المعمارية في عصر الصفويين والذي تم تشييده بأمر من الملك عباس الكبير، في الربع الأول من القرن الحادي عشر الهجري، ويشير أحد مرافقينا ان البناية أقدم من الولايات المتحدة الأمريكية، يقول السعيد "أكثر من 150 سنة، قبل ميلاد الولايات المتحدة الأمريكية". كما عرف هذا القصر تعديلات جديدة يقول مرافقنا الأستاذ ابراهيم، أضافت على البناء الأصلي خمسة طوابق أخرى، طابقين في عهد تيمور، ويقال ان اسم علي قابو، يقصد به البوابة الفخمة، أو إشارة إلى الباب العالي في العهد التركي، عندما اشتدت المنافسة بين الصفويين والعثمانيين،
وكان عبارة عن مركز الحكومة أو دار الحاكم، وبالقصر تحف فنية تعود إلى العصر الصفوي.
قصر الأربعين عمودا
وهو من القصور المتبقية من العهد الصفوي، ويقع هذا القصر في وسط حديقة بمساحة 6700م2 ومقابل البناء يوجد حوض ماء يبلغ طوله 116م وعرضه 10م، وعندما تنعكس أعمدة القصر العشرون نجدها في الحوض أربعين عمودا وهي أصل التسمية، وبالمقابل يوجد مبنى يشبه "تاج محل" في الهند يقول مرافقنا ان المعماريين الإيرانيين هم الذين بنوا تاج محل. وبالقصر قاعات وغرف عديدة وأفضل ما في القصر هو القاعة الملكية، حيث ان جدران القاعة مزينة بمرايا كبيرة وزجاج ملون ورسوم جميلة، وهناك نقوش على إطار النوافذ وأعمال يدوية، كما توجد ثماثيل لأربعة أسود يخرج الماء من أفواهها على شكل نافورة ترمز إلى القوة، والسقف مصنوع من الخشب ومنقوش برسوم جميلة يقال إنها من أوراق الرمان ومطلية بالذهب، وبالقصر العديد من لوحات الرسم موجودة على الجدران تشير إلى حقب ماضية موغلة في التاريخ، منها لوحة تعكس حربا بين العثمانيين والصفويين، وتفنن الرسام في استعمال الألوان، وانتهت المعركة بانهزام الفرس أمام الأتراك. في طابق آخر لوحة أخرى تصور "مجنون ليلى"، وللأسف فقد أصاب المنمنمات التلف ومنها نساء يرقصن ويتسامرن، وكان الرسام يعمد إلى تغيير ملامح الوجه، لأن النساء من عائلة الملك، ومن التحف الموجودة كذلك ورأيناها بأم العين، مصحف غير منقط، يقال انه للإمام الحسين رضي الله عنه وبه ختمه الشريف.
سوق إصفهان: 36 كلم كلها أسواق
غادرنا هذه الأجواء الروحية والجمالية العتيقة في مدينة إصفهان نحو سوق إصفهان، ويؤكد مرافقنا الأستاذ إبراهيم أن المعماري المسلم مزج في بنائه للمدينة بين المادة والروح، تجسيدا للصلة بين الخالق تبارك وتعالى والفرد المسلم، لذلك نجد هذه العلاقة الجدلية بين السوق والمسجد والمدرسة والمدينة. يقع سوق إصفهان بين ساحة "نقش جهان" والساحة القديمة، والحقيقة ان في إصفهان العديد من الأسواق على حوالي 36 كلم، وهي جزء من تاريخ المدينة العريق، وتشتهر أسواق المدينة بوجود العديد من الحرفيين والتجار، منها حرفة الرسم على الأقمشة، والذي ازدهر في العصر الصفوي، ويتم الرسم من خلال قوالب خشبية، حيث وقفنا على ذلك في أحد المحلات وعرض أمامنا صاحب المتجر سعيد رسومات مختلفة يتم طلاؤها بأصباغ معينة، ثم يتم ضغط هذه القوالب على الأقمشة بعد اختيار الألوان طبعا، ثم توضع في الماء لتثبيت الألوان، يقول محدثنا انه توارث هذه الحرفة أبا عن جد. وهناك في سوق إصفهان كذلك فن التطريز على الأقمشة، والحفر على الخشب، والحفر على النحاس والتطريز بالذهب. دخلنا محلا لبيع السجاد الإيراني، استقبلنا صاحب المحل، بالشاي، يقول محمد رضا الذي حكى لنا قصة عشق الإيراني للسجاد، لا يخلو أي بيت مهما كان صاحبه فقيرا أو غنيا من سجاد، وحتى الهيئات الحكومية أو الخاصة تفرش السجاد الإيراني، وبخصوص سعرها الذي يصل إلى مستويات خيالية، فإن عوامل عديدة تتدخل في تحديده، منها المادة، ثم المساحة، ثم الحجم، ويقول محمد رضا "تستغرق حياكة سجاد واحد نحو سنة كاملة، مع صرف رواتب العمال، ولوازم الحياكة التي تعرف ارتفاعا في أسعارها". كما تزدهر إصفهان بالعديد من الصناعات الخزفية والحديدية، التي تنتشر في منطقة صناعية تدع "مباركة" وهي بالفعل مباركة، حيث أبدع، وتزامنت زيارتنا للمدينة مع تجريب وزارة الدفاع الإيرانية طائرة مقاتلة جديدة هي الثانية من نوعها في الصناعات الحربية. كما تسعى المدينة إلى استقطاب السياح الأجانب، وهو رجاء محافظ المدينة الذي التقى بالوفد الإعلامي الزائر لإيران، واعترف بمدى تأثير الدعاية الغربية على تدفق السياح إلى هذه المدينة الخلابة، ومع ذلك التقينا ببعض هؤلاء ومن جنسيات مختلفة، واعترفوا هم كذلك بمدى زيف الدعاية الأمريكية.
ليالي إصفهان
للسكان الإصفهانيين عادات وتقاليد، ذلك أن اغلب العائلات الإصفهانية تمضي أوقاتها خارج مساكنها، كما تفضل الجلوس سواء في الساحات العامة، او بين الحدائق والوديان التي تشتهر بها المدينة، يقول محمود وهو من سكان المدينة منذ عقود، انه يفضل ان يجلس مع عائلته خارج البيت لقضاء بعض الوقت، كما تبقى بعض العائلات الى ساعة متأخرة من الليل
تتسامر في الحدائق العامة، وبعضهم يأخذ معه أكله وشرابه. غادرنا إصفهان وآمال حاكمه تتردد في أذاننا، قيام توأمة بين مدينة الجزائر العاصمة وإصفهان.
مبعوث الشروق إلى إصفهان (إيران): مراد أوعباس