انقلاب الميرازي على الهواء في 'العربية' ومعنى اختيار الجزائريين السبت لتظاهراتهم
توفيق رباحي
ـ تابعت الثورتين التونسية والمصرية تلفزيونيا بالتقسيط وعلى ضوء مفاوضات عسيرة بيني وبين مروان لم ينفع فيها دهاء الأب مع براءة وإصرار الولد. أقول 'الجزيرة' يرد بعناد: 'براعم'. أقول: 'سي ان ان' يقول 'سي بي بيس'. عندما يمنحني فرصة لا يلبث أن يعود في الموعد المتفق عليه: Now my turn.
لا يهدأ لي بال إلا بعد أن يخلد الى النوم، لكن نومه في لندن يعني تقريبا منتصف الليل هناك في مواطن الثورات.
وأنا في تلك المعركة المتواصلة، جاء من يروي لي هذه النكتة بعد أن 'عصلج' الرئيس غير المأسوف عليه حسني مبارك في كرسيه وكل العالم يتوسل إليه ويرجوه، بما في ذلك الأطفال. قررت بنت بريئة مراسلته متوسلة: يا عمو مبارك أرجوك روح بسرعة علشان بابا يرجّع لي الكرتون ويريحنا من 'الجزيرة'.
2
ـ سألني صديق لماذا اختار الجزائريون أن يتظاهروا يوم السبت والمغاربة يوم الأحد، بينما جاء الحق وزهق الباطل في تونس والقاهرة أيام الجمعة؟
قلت: حتى لا تبقى 'العربية' و'الجزيرة' في حالة بطالة بعد أن بدأت الأمور تهدأ في القاهرة وتونس ولم تشتعل بعد في غيرهما.
أما الجمعة فقد حذفوها الجماعة إياهم من أيام العباد فأصبح الأسبوع من ستة أيام: الأحد، الاثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس و... السبت.
بقي أن أقترح أن يختار اليمنيون الاثنين والبحرينيون الثلاثاء والأردنيون الأربعاء والليبيون الخميس.
عندما ينتهي هؤلاء ننادي على الدفعة الثانية (ستة آخرون): السودان وسورية (إذا أراد السوريون طبعا ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وموريتانيا وجنوب السودان (دولة سيلفا كير) وجيبوتي والصومال (إذا أذنت القاعدة).
بعد هؤلاء، ينادي المنادي على الدفعة الثالثة وستكون من منطقة الخليج التي لن يكون قد بقي غيرها (ستة): الكويت، السعودية، الامارات، عُمان، قطر + غزة والضفة الغربية.
أترك لهم حرية توزيع الأيام في ما بينهم، مع التذكير بشيئين هامين: الأول أن الجمعة انقرضت.. بح، والثاني أن الشعار يجب أن يظل واحدا: الشعب يريد إسقاط النظام!
3
ـ أجمل صور تلفزيونية هذه الأيام، تبثها قناة 'الجزيرة' في الفواصل والاستراحات: رجل تونسي يقف وحيدا وسط شارع مهجور وقد غطى ظلام الليل المدينة.
يقف الرجل، دون أن تبدو ملامحه كاملة وواضحة، مخاطبا العالم لكن لا أحد من حوله، أي في 'حضرة الغياب'، كما يقول الراحل محمود درويش.. يصرخ منتظرا سماع صدى صوته: تونس حرة (ثم يصمت برهة).. المجد للشهداء (صمت).. بن علي هرب (صمت).. بن علي هرب (صمت).. بن علي هرب.. ثم تختفي الصورة ويبقى صدى صوته يبتعد شيئا فشيئا.
لا أعرف الى الآن هل هي صور مركبة أم حقيقية وطبيعية. أعترف فقط بأنني لن أمل منها حتى لو شاهدتها مئات المرات.
فعلا، بن علي هرب. من كان يصدّق؟
4
ـ أكثر المواقف التلفزيونية شجاعة، في خضم ثورتي تونس ومصر، ما بدر من الزميل حافظ الميرازي عندما تحدى إدارة قناة 'العربية' بأن تسمح له بتخصيص حلقة من برنامج 'ستوديو القاهرة' لمناقشة تأثير الثورة المصرية على السعودية. الرجل جنّ على ما يبدو!
كان تحديا أخرق أقرب الى الابتزاز وضع 'العربية' في ورطة.. رفضه مشكلة والاستجابة له مشكلات.
أخطر ما في هذا التحدي أنه لم يصدر في مكتب مغلق أو اجتماع نقابي، بل على الهواء مباشرة من القناة ذاتها التي يتحدى إرادتها.
هذا يشبه الانقلاب. وهذه مخاطر البث المباشر، فعلى من اختاره أن يتحمل تداعياته.
قال بعضهم إنه قطع الغصن الذي يجلس عليه فقلت إنه غرس اشجارا توفر له عشرات الأغصان كلها تطلب وده.
5
ـ أطرف موقف تلفزيوني شاهدته في قناة 'حنيبعل' التونسية: ضيوف عدة حول طاولة نقاش كبيرة توجههم مذيعة. ينتظر رجل (أعتذر عن عدم حفظ اسمه لأنني لم أشاهد منذ البداية) طويلا ليأتي دوره.
عندما تمنحه المذيعة الكلمة يبدي اعتراضا على شكل البرنامج ويخاطب المذيعة: منهدرش، وش رايح نقول.. الضيوف برشة، مش معقول هكّا.
تحاول المذيعة تهدئته فيرفض، ثم يتدخل ضيف آخر ليقلل من أهمية الضيف الأول. يحتدم النقاش فيقرر الضيف الثاني مغادرة المكان ويثور في وجهه الأول: امشي.. ما يشرفنيش نقعد معاك.. والله لوكان قالولي انك موجود كنت رفضت نحضر.
مثل رجل 'بن علي هرب' الذي يستمع الى صدى صوته: يغادر الثاني ويبقى الأول يكرر 'والله لوكان قالولي انك موجود ما كنت جيت'.
وفي غمرة الصدى العائد والخطوات المتسارعة، تحاول المذيعة، عبثا، ككل المذيعين في مثل هذه المواقف المربكة، انقاذ الموقف قائلة: نمشي توا لتقرير ثم نرجعلكم!
6
ـ أغرب نشرة أخبار الجو أوردها التلفزيون المصري بشريط الأخبار المتحركة أسفل الشاشة. كان ذلك في ذروة الثورة الشعبية وأنقلها كما رواها لي أحد الثقاة: الغردقة 22 نهارا 15 ليلا، أسوان 27 نهارا 13 ليلا، حلايب 24 نهارا 12 ليلا، الاسكندرية 23 نهارا 15 ليلا، القاهرة 20 نهارا بارد جدا ليلا! أي أنكم، أيها المتهورون، ستموتون بردا إن غامرتم بالذهاب الى ميدان التحرير أو التظاهر في الشارع هذه الليلة.
ربما كانت تلك طريقة من طرق التدليس ـ الكثيرة ـ التي لجأ إليها التلفزيون المصري في تلك الأيام بدءا بدجاج الكنتاكي مرورا بمندسّي حزب الله وحماس.
كان يجب على صاحب هذه الصيغة الإخبارية أن يقول: 'بارد جدا ليلا مصحوب بهراوات وعصي الأمن المركزي تخف قليلا في آخر الليل لتحل محلها لعنات عصابات الحزب الحاكم. وقد أعذر من أنذر'.
7
ـ منطقة االشرق الأوسط تعطي هذه الأيام دروسا في الثورة، وأيضا في الانفصام فيتجلى في أبهى صوره عبر الكثير من الشاشات.
لن أفسد نهاركم بالحديث عن الدجالين الذين قالوا بدون حياء إن مبارك هو الرئيس الضرورة لمصر ولا وجود لها بعده، ثم ها هم يمجدون الثورة بعد أن لعنوا سنسفيل الثوار.
ودعكم من التلفزيونات المحلية الكسيحة، تعالوا نأخذ 'العالم' الإيرانية نموذجا باعتبارها الصوت المختلف: قلبت هذه المحطة الدنيا ابتهاجا بسقوط صنم تونس وأكثر بسقوط الصنم الأكبر في مصر، حتى أن شعارها في تغطية مصر ما يزال 'الثورة مستمرة' ربما للإطاحة بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة أو بحركة الشباب الثوار. عادي، كلنا ابتهجنا ورقصنا فرحا.. عند 'العالم' الثورة في كل مكان، من البحرين الى طرابلس غربا، لكن في طهران اششششش، كل تحرك مناوئ للحكومة هو شغب وفتنة وراءه اسرائيل وأمريكا.
الرئيس الإيراني أحمدي نجاد ذاته لم يفوت يوما دون الإشادة بـ'شعوب المنطقة القادرة على الثورة على الظلم'، حسب ما نقلت عنه 'العالم'. والمنطقة هنا هي كل الدنيا إلا إيران باعتبارها تقع في زحل.
حتى تركيا لم تشذ عن القاعدة رغم أن رئيس حكومتها لقّن حسني مبارك درسا في الزهد الدنيوي. لا أحد سينسى كلمة طيب رجب أردوغان الموجهة لمبارك عندما سخنت الثورة في مصر وقوله 'اتركها لهم كلنا فانون'، لكن عندما يتحرك الأكراد ليطالبوا بربع ما أراده المصريون والتونسيون، يحرك لهم السيد أردوغان آلة القمع مثله مثل مبارك والآخرين.
إنه انفصام في أبهى تجلياته. هنيئا لنا جميعا.
كاتب صحافي من أسرة 'القدس العربي'