رسالة من كاتب مصري إلى رئيس وزراء بريطانيا
مهدي بندق
يود كاتب هذه السطور أن يلفتكم يا سيدي رئيس الوزراء إلى حقيقة عبر عنها الرئيس الأمريكي أوباما – وهو يتابع ثورة يناير الشبابية المصرية العظمى – حين قال : إن مصر التي علـّمت البشرية في فجر التاريخ تعود اليوم لتعلمنا من جديد .
فما هو هذا الجديد الذي قصد إليه الرئيس أوباما في المسكوت عنه في تلك العبارة المنصفة ؟
في اعتقادي أن الرجل أراد أن يقول إن ممارسة النقد جنبا إلى جنب النقد الذاتي إنما هو الوسيلة المثلى لتجاوز أخطاء البشرية، تقدما ً إلى مستقبل أرقى وأفضل .
وما من شك في أن النقد الذاتي لصفتيْ الاستعلاء والاستكبار[ الضاربتين بجذورهما في ثقافة الغرب] إنما هو عمل خلاق وضروريّ لكم في هذه المرحلة الفارقة من مراحل التطور التاريخي الإنساني. وآية ذلك أن مثقفين وسياسيين كثرا ً عندكم لا يزالون يعتمدون نظرية " المركزية الأوربية " European Centrism القائلة إن التحديث والتقدم لا سبيل إليهما إلا بإتباع الطريق الذي سارت فيه أوربا والغرب ! وينسى هؤلاء أن الثراء الفاحش الذي كدسه الغرب من خلال نظامكم الرأسمالي العتيد ؛ ما كان له أن يتحقق لولا تبنيكم لحركة الاستعمار التي نزحت المواد الخام رخيصة ً من المستعمرات ، محولة إياها إلى مجرد أسواق تلقي فيها فائضها الإنتاجي Flow Production وإلا اختنقت به ، فكان من جراء هذه العملية الجهنمية المزدوجة أن ُأنزلت الويلات ُ والكوارث ُ ، خارجيا ً وداخليا ً بدول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية عموما ً ، والعالم العربي والإسلامي ومصر على وجه التحديد .
يسأل جاك ليمون ( فيلم المفقود ) السفيرَ الأمريكي في شيلي عام 1973 : لماذا ، ونحن أثرياء جدا ً ندبر انقلابا ً عسكريا ً في هذا البلد الفقير، نغتال به الوطنيين وفي مقدمتهم رئيس الدولة المنتخب سلفادور إلليندي ؟! فيرد السفير بوقاحة صادقة مذهلة : أنت تعيش بمستوى راق في أمريكا ، وهذا لا يتحقق إلا بتدخلنا هنا لضمان شراء المواد الخام ( النحاس ) بالسعر المناسب لصناعاتنا .
ويقينا ً تعلم – سيدي رئيس الوزراء - أن الأمر ذاته حدث قبلا ً في إيران بسبب تأميم البترول عام 1952 حيث رتبت المخابرات الأمريكية انقلاب الجنرال زاهدي ضد الزعيم الوطني محمد مصدق الذي تم إعدامه . وهو بعينه ما حدث بعد ُ عام 2003 غزواً للعراق لضمان السيطرة على النفط .
بالنسبة لمصر فلقد تلقت من الغرب الحديث ضربات مروعة ، لا لشئ سوى محاولتها اللحاق بركب التقدم ، اهتداء " بمنارة " المركز الأوربي ! فكان أن أجهضت انجلترا وفرنسا مشروع الوالي محمد علي بتدمير أسطوله البحري وهزم جيوشه ، وإجباره – بمعاهدة لندن 1840 - على تفكيك مصانعه وإيقاف إصلاحاته في مجالات التعليم والتصنيع وبناء الدولة المدنية الحديثة . وحين قامت الثورة العرابية بغرض استعادة البلاد مسيرة َ الإصلاح السياسي والاقتصادي أسرعتم أنتم ، أيها البريطانيون "الديمقراطيون " باحتلال مصر بحجة لا يسوقها إلا مجرم عريق فاجر " عرابي يرمم طوابي الإسكندرية ، وهذا يعد تهديدا ً لأسطولنا البريطاني ( الوديع )في عرض البحار !! "
كنت في الحادية عشرة يوم ُأحرقت القاهرة بأيدي عملائكم عام 1952
حكا لي جدي : في مثل عمرك من ستة وستين عاما ً رأيت منزلنا في حارة السيالة بحي الأنفوشي بالإسكندرية ، كومة ً من الأحجار والحريق . قال جدي وهو يمسح دمعاته السخينة عن وجهه ذي الغضون : ُقتل أبي وأمي وأخوتي الخمسة في لحظة أمام عينيّ . فيما بعد أبلغوني ( والقول لجدي لا يزال ) إنني مكثت أعوى كذئب مطعون يومين كاملين . وفيما بعد أيضا ً علمت أنني ُحملت كالمتاع ضمن أطفال جيران لنا طيبين .. إلى أين ؟ لا أدري فالمدينة خلت تماما من سكانها بعد أن ُدمرت منازلها ومساجدها وكنائسها ودكاكينها بقنابل الأسطول ، حتى أنه لم يبق بها سوى الكلاب الضالة ، والغربان الجائعة تنهش جثث القتلى وتجهز على الجرحى ، بينما الحرائق لا تتوقف أو يعكر على انتشارها رجل إطفاء أو سقـّاء .
هكذا تكلم جدي قبل أن يموت كفيف البصر .
لأكثر من سبعين عاما ً والمصريون يرزحون تحت نير احتلال جيوشكم. يتجرعون السم في أشربتهم وهم يرون وطنهم يتبختر جنود جيشكم فيه بثقال أحذيتهم ، وكم ظل المصريون يشاقون بمطعمهم ويغصون بمشربهم بينا يعملون في بلدهم لصالحكم دون صالحهم ، وكم قاوموا وكم ثاروا وكم فقدوا من شهداء وضحايا ! وحين نجحوا أخيرا ً بعد مفاوضات أليمة في إجلاء جيوشكم عام 1954 لم تمكث حكومتكم " الحانث " England the liar غير عامين إلا وعادت بصحبة الجيوش الفرنسية والإسرائيلية بذريعة ذئبوية : مصر أممت قناة السويس فحق ضربها واحتلال أراضيها وإسقاط نظامها.
لقد ظلت مصرنا يا سيدي رئيس الوزراء تعاني وحتى الآن من آثار تلك الضربات " التاريخية " اقتصاديا ً وسياسيا ً واجتماعيا ً، وهو ما يفسر ظاهرة التلكؤ المجتمعي الحالي عن توفير شروط الدولة العصرية بما تعنيه من المساواة الكاملة بين المواطنين ، دون النظر إلي أديانهم أو عقائدهم أو جنسهم ( ذكر / أنثى) أو لونهم ، وبما تعنيه ثانيا ً من إزالة كل عقبة أمام التنمية البشرية بما فيها بيروقراطية الدولة ، وبما تعنيه ثالثا ً من إسقاط كل قيد على حريات الأفراد سواء في التفكير أو التعبير أو الاعتقاد أو التنظيم..الخ . ولأن هذه الشروط هي التي تؤسس للديمقراطية ، فإن غيابها لا ريب يضع الديمقراطية في زنزانة القرون الوسطي حيث تعذب بالجلد والرجم والصلب .
السؤال الذي يهمكم في هذا السياق هو : هل أنتم مسئولون عن تغييب تلك الشروط عن مجتمعاتنا ؟ نعم أنتم مسئولون بقدر ما أدت ممارساتكم الوحشية إزاءنا إلي ترسيخ التخلف لدينا . فليس سرا ً أن المجتمعات التي ُتحجب عن سباق التقدم والتنافس النشط مع غيرها من سائر الأمم ، لا مندوحة أمامها من أن تبحث عن أمانها النفسي في ماض ٍ توحي مخايلاته Imaginaries بالثقة ، وعليه يكون شأنها شأن من يضع العصا في دولاب التروس ليمنعها من الدوران ، بحسبان الدوران – فيما يظن – إنما يقود الناس إلي البدع والضلال فالكفر الصريح ! دع أحدا ً يفكر على هذا النحو ثم سل من أين يأتي الإرهاب .
طبعا ً الغرب – وأنتم في مركزه يا رئيس الوزراء البريطاني - مسئول بأنانيته وتوحش رأسمالييه ، وجرائم أجهزة مخابراته، وعدوانية جيوشه عن آلامنا.. بل هو مسئول أيضا ً عن ظاهرة الإرهاب التي يزعم رياء ً أنه يحاربها ، بينما هو يعرف كيف ُتصب مياهها في طاحونة مكاسبه . ويقينا ّ يدرك مثقفوه الشرفاء تلك الحقيقة .
ذلك بعض فاتورة الحساب الذي ينبغي أن ُيصَـفـّي بين المثقفين المصريين و نظائرهم من مثقفي الغرب . فإذا كان بعض المصريين قد أخطأوا في حق الآخر المختلف بإطلاقهم لشعارات أو عبارات تحمل شبهة العنصريةRacism من باب رد الفعل على ما نالهم من أذى لقرون عديدة ؛ فإن النخب المصرية المثقفة (والتي هي بطبيعة الحال متأثرة مثل مواطنيها بذلك الأذى ) سرعان ما تفئ إلى الصواب " المستقبليّ " معلنة ً أنها لا يمكن أن تتبنى العنصرية أو توافق عليها بحال من الأحوال. والبرهان الساطع على ذلك أنه في غياب كامل للشرطة إبان فترة التظاهرات العارمة في يناير لم تقع حادثة واحدة أساء فيها مسلم إلى شقيقه المسيحي أو العكس . وتلك هي الثورة الثقافية الكبرى التي نجح الرئيس أوباما في رصدها . ولسوف نذكر له هذا الصدق في القول منتظرين أن يتبعه صدق العمل .
أما ثورة شبابنا فلقد نجحت – قولا وعملا - في نقل الكرة إلى ملعبكم يا سيدي رئيس الوزراء، حيث صار عليكم أن تمارسوا النقد الذاتي بدوركم مستجيبين لنداءات مثقفيكم الشرفاء كي تعتذروا للشعب المصري اعتذارا ً واضحا ً لا لبس فيه ولا غموض عما أنزلتموه به من كوارث ، وما سببتموه له من آلام ، ولتكن بداية هذا الاعتذار أن تعملوا على إعادة المليارات التي نهبها لصوصه الطغاة من قوت فقرائه . وليكن هذا عملكم اليوم وليس الغد ، في التو واللحظة قبل وصول عقرب الدقائق إلى تمام الساعة .
عضو المجلس الاعلى للثقافة
ورئيس تحرير مجلة تحديات ثقافية