في ضيافة أقدم مفككي القنابل
lotfi Flissi
لا توجد إحصائيات رسمية عن عدد القنابل والسيارات المفخخة التي تم تفكيكها في إطار مكافحة الإرهاب، مصادر تتحدث عن تفكيك أكثر من 1000 ألف قنبلة خلال عشر سنوات، رقم مرعب لكن كم روحا تم إنقاذها مقابل ذلك؟ كثير جدا على خلفية أن الجماعات الإرهابية تلجأ إلى اعتماد القنابل التقليدية باعتبارها وسيلة سهلة تحقق لها أهدافها الإجرامية، وتخلف أكبر عدد من الضحايا، التقيت هؤلاء الذين تبقى حياتنا بين أيديهم، ويذهبون باتجاه الموت في سبيل إنقاذ الكثير منا، لا يختلفون عنا، ليسوا "سوبرمان"، لكنهم رغبوا في هذه المهنة، ومؤمنين بالواجب الذي يؤدونه.
هم موظفو شرطة اختاروا التخصص في تفكيك القنابل، مهمة لا تبدو سهلة أو مسلية وقد تكون من أصعب المهام على الإطلاق لأنها تتعلق بإحباط مشروع قتل واغتيال وسلب الحياة. قال لنا مختصون في تفكيك القنابل، إن الصعوبة تكمن في تفكيك القنبلة وإبطال مفعولها، لأنه من السهل صنع قنبلة في الوقت الراهن في ظل تطور وسائل الاتصال وأصبح متاحا زيارة مواقع الأنترنيت والإطلاع على مراحل صنع قنبلة، مهمة مفككي القنابل لا تقتصر على التفكيك، وعملهم دوري ودائم غير منقطع، يقومون بتفتيش الطائرات، الملاعب ويرافقون الرئيس في تنقلاته، ويتحركون مؤخرا بشكل مكثف بمناسبة الحملة الانتخابية للتشريعيات، المديرية العامة للأمن الوطني تحصي أكثر من 15 ضحية واجب وطني في صفوف مفككي القنابل، وعشرات الجرحى والمعطوبين الذين لا يزال بعضهم يتابع هذا التخصص، عددهم اليوم وصل إلى 257 على المستوى الوطني من بينهم نساء، لا يؤمنون بالخطأ أو التسرع لأن القنبلة قد تكون قارورة غاز، حقنة، علبة طماطم، ساعة،
مساسيك ملابس... أي شىء يؤدي إلى الانفجار ويقتل....
كان اللقاء بفرقة مفككي القنابل بمقر وحدات الأمن الجمهوري بالحميز بباب الزوار، وكنا محظوظين بلقاء أقدم المختصين في هذا المجال، يتصدرهم عميد شرطة الطيب طالحي رئيس الفرقة ومعاونه الضابط زهير، في المدخل، تم حفظ بقايا المتفجرات التي استرجعتها مصالح الشرطة، في قاعة أشبه بمتحف خاص بـ "أرشيف" التنظيمات الإرهابية خاصة "الجيا"، التي ارتبطت عملياتها خاصة بـ "الهبهاب"، وتمت الإشارة إلى كل قطعة باللغتين العربية والإنجليزية، أشياء تبدو تافهة وبقايا قطع، لكن وراءها مأساة وطنية...
3 مفككي قنابل في مواجهة "الجيا"
أنشئت هذه المصلحة عام 1982، وانطلقت بتقنيين اثنين خضعا للتكوين في الولايات المتحدة الأمريكية، كمساعدي مفككي قنابل، قبل أن يحصلوا على صفة مفككي قنابل خلال دورة تكوينية ثانية بفرنسا، ويشير عميد شرطة طالحي إلى أن "عددنا لم يكن يتجاوز الثلاثة عامي 91،1992" وهو تاريخ اندلاع أعمال العنف في الجزائر. عام 1994، تقرر المديرية العامة للأمن الوطني إنشاء المصلحة التقنية الخاصة بالمتفجرات والأسلحة، مقرها بثكنة الحميز، ويتم كأول دفعة تكوين 17 مساعد مفكك قنابل على مستوى أمن الولايات بناء على الحاجيات آنذاك، لتصل إلى تحقيق 50 فرقة مجهزة حاليا تضم 250 موظف شرطة متخصص في تفكيك القنابل، يخضعون لتكوين مستمر ورسكلة. ويشير ضابط الشرطة زهير بصفته المشرف على التكوين، إلى المراحل التي يمر بها المتربص، وشدد على أنه يتم توظيف موظفي الشرطة الراغبين في التخصص في هذا المجال، يودعون طلبات، حيث تدرس ملفاتهم، ويشترط فيهم أن يكونوا يملكون 5 سنوات على الأقل خبرة في سلك الشرطة، وتتراوح أعمارهم بين 25 و35 عاما، ومستواه الدراسي نهائي شعبة تقنية وعلمية ولا يكون يعاني من أي مرض مزمن، ويخضع إجباريا لفحص بسيكولوجي لتحديد قدراته العقلية ومدى تركيزه وثباثه، وتصل مدة التربص إلى 45 يوما، حيث يتلقى المتربص دروسا نظرية لكن يطغى عليها التطبيقي للتخرج بدرجة تقني مفكك قنابل، وأضاف أنه يتم تلقينهم دروسا حول طبيعة المتفجرات، وخصائصها وآلية استعمالها، ووسائل تفكيكها، طبيعة المواد المتفجرة والآلية التي استعملها الإرهابيون. وقال ضابط الشرطة زهير "نركز في التكوين على إطلاعهم على الإمكانيات المتوفرة والإجراءات الأمنية لأننا نحرص على أمن وحماية التقني، خاصة وأن الوسائل اليوم متوفرة". وتدخل رئيس المصلحة التقنية ليطلعنا على اللباس الواقي الذي تدعمت به المصلحة ويبلغ وزنه أكثر من 65 كغ، وهو مجهز بنظام تهوية وتبريد، واللباس يشبه لباس رواد الفضاء، أخضر اللون، يغطي الجسم من الرأس إلى القدمين ويعرف بـ "7 ب من الجيل الثالث"، وأشار الضابط مجيد إلى أنها بدلة إجبارية على الموظف لأمنه وسلامته. وتدعمت المصلحة مؤخرا بجهاز آلي "روبو" مجهز بنظام الكشف بأشعة إكس بإمكانه تحديد موقع المتفجرات عن بعد. وقال العميد طالحي، إن مدير الوحدات عميد أول شرطة، مراد حديدان، يحرص على توفير كل وسائل العمل "لكنه يولي اهتماما بسلامة الموظفين وأمنهم من خلال التكوين والإمكانيات"، وذلك جزء من البرنامج المتبع في التكوين، من خلال تلقين دروس حول كيفية التدخل في المناطق الحضرية والريفية، من خلال فتح ممرات في الجبال خلال عمليات التمشيط، السير دون خطورة الوطء على لغم مغروس، وأيضا كيفية التعامل مع جثة مفخخة بعد لجوء "الجيا" إلى تفخيخ جثث الضحايا، إضافة إلى كيفية التعامل مع إنذار بوجود قنبلة ومراحل التفتيش، خاصة السيارات المشبوهة، ويتم تكوين هؤلاء أيضا في مجال تفتيش طائرة. وأوضح الضابط زهير "إننا نجري تفجيرات حقيقية في الدروس التطبيقية، كما نطلعهم على أشرطة فيديو خاصة بوقائع سابقة، من خلال دراسة حالة بحالة ويتم بعدها تقييم الطلبة لقبولهم"، ويتم إيفاد تقنيين للتكوين في الخارج، وإضافة إلى التكوين الأساسي، تكون هناك رسكلة لمواكبة المعطيات الجديدة المتعلقة بالتقنيات الجديدة التي يستعملها الإرهابيون، موضحا في هذا الإطار، أن مفككي القنابل يتنقلون مباشرة بعد الانفجار إلى الموقع، وهم الأوائل الذين يتدخلون في البلاغات المتعلقة بوجود قنابل أو سيارات مفخخة أو مشبوهة. المهمة تبدو شائكة لأن التقني يتجه مباشرة إلى الموت "برجليه"، وقد تنفجر القنبلة بين يديه، يلح الضابط زهير في هذا الإطار، إلى أن اتباع مراحل التفكيك قد يحول دون ذلك، وعادة لوسائل الوقاية والأمن المتوفرة.
14 ضحية واجب وطني خلال 10 سنوات
الضابط زهير، يقول من باب تجربته: "مثلا لا يجب أبدا فتح باب سيارة مشبوهة أو لمس"، تم بتر ساقه في انفجار قنبلة تقليدية عام 1996، نعود به إلى الحادثة ليفاجئنا "أنه ارتكب خطأ" نعم، لأنه كان في مهمة تفتيش فيلا كان يقيم بها إرهابيون بضواحي بوينان بالبليدة، رفقة قوات الجيش، صعد إلى الطابق الثالث، دخل المطبخ، فتح الخزانة، كانت هناك قارورة غاز صغيرة لفت انتباهه وجود مساك ملابس، لمسه وأدرك بُعد الانفجار الذي أدى لبتر قدمه، أنها كانت مفخخة ومعبأة بـ15 كغ من المتفجرات، ولذلك يلح على أن السلطة التقديرية تعود للتقني في تفكيك قنبلة. الشرطة فقدت 14 تقنيا مختصا في تفكيك القنابل وسط، غرب وشرق البلاد، أسوء فترة كانت عامي 1995 و1997، خلفت 10 ضحايا. سنوات صعبة، لكن أصعب الأوقات التي لا تزال عالقة بذاكرة الضابط زهير ورفقائه "عندما نأتي كل صباح، ويتم إبلاغي بسقوط زميل..." هنا يتدخل عميد شرطة طالحي ليقول "إن هناك ذكرى جميلة لاتزال "هنا في رأسي عندما تم تفجير مطار هواري بومدين عنده تنقلنا إلى ساحة أودان لتفكيك قنبلة كانت أمام مقر هيئة حساسة، ونجحنا في ذلك ليواجهنا المواطنون بالتصفيق والزغاريد، كان ذلك وعيا منهم بطبيعة مهمتنا وأثر فينا ذلك كثيرا". والمهمة لا تتعلق فقط بتفكيك القنابل والسيارات المشبوهة، بل يقوم عناصر الفرقة بعمل يومي ودوري من خلال تفتيش الملاعب، خاصة بعد تفكيك قنبلة تقليدية بملعب دلس، وتبحث اليوم الجماعات الإرهابية عن عمليات تحقق حصيلة ثقيلة، وتزامن حضورنا مع إشراف قائد فرقة المداومة العاملة ذلك اليوم، على تفتيش 12 ملعبا بالعاصمة، إضافة إلى تفتيش كل القاعات التي تحتضن تجمعات المترشحين للتشريعيات، ومرافقة رئيس الجمهورية خلال تنقلاته، وتفتيش المطارات والطائرات. وعرج رئيس المصلحة في هذا السياق، للحديث عن إدراج العنصر النسوي في الفرقة "وصلتنا العديد من الطلبات، وحاليا تم إدماج 5 تقنيات متخصصات في تفكيك القنابل والمتفجرات، 3 منهم يشتغلن بالمطار الدولي هواري بومدين،1 بميناء سكيكدة، وخامسة بميناء وهران"، عملهن وقائي، يقمن بتفتيش الأمتعة المهملة قبل إقلاع الطائرة وحظيرة السيارات ومحيط المطار أو الميناء. وتكشف النماذج المعروضة عن الوسائل المستعملة في صنع قنبلة، أغلبها تعود لعهد التنظيم الإرهابي "الجيا"، قارورات غاز بوتان، ساعة، يتم ربطها بأسلاك كهربائية، الهبهاب الذي يشبه صاروخ الفضاء، أطلعنا عميد شرطة طالحي، على علبة طماطم مصبرة، تمت تعبئتها بمتفجرات، وغرس أعلاها مسمار يكفي أن يطأ عليه قدم إنسان لينفجر وهو غير لافت للانتباه، حيث توجد العديد من علب الطماطم مهملة في الشوارع والمزابل. اكتشفنا أيضا حقنة بلاستيكية من الحجم الصغير، عبارة عن قنبلة تقليدية، كانت مغروسة في أحد المسالك الغابية، استرجعتها مصالح الشرطة، يكفي كذلك أن تضع قدمك عند السير لتنفجر، وأدركت حينها لماذا أغتيل العديد من الرعاة والفلاحين والجنود خلال عملية تمشيط المسالك الملغمة بأشياء بسيطة، لكن عميد شرطة طالحي لا يوافقني التعليق على أن الإرهابيين الذين يصنعون هذه القنابل "موهوبين أو أذكياء"، ويؤكد أن صنع قنبلة تقليدية لا يستغرق أحيانا 48 ساعة، وبمواد متاحة ومتوفرة "قد يحصل على هذه المواد من السوق بخلطها، اليوم كل شىء متاح في مواقع الأنترنيت، وممكن صناعة قنبلة بالحصول فقط على تقنيات ذلك ومراحلها"، يتدخل الضابط زهير مؤكدا أنه "من السهل صناعة قنبلة تقليدية، الصعوبة تكمن في تفكيكها، يجب أن نملك آلية إبطال مفعولها وهذا هو أساس مهمتتنا". وعن تقنية التفجير باستعمال الهاتف النقال التي يستعملها نشطاء تنظيم الجماعة السلفية للدعوة والقتال، أكد العميد طالحي، أنها التقنية المعتمدة مؤخرا، وقد توصلت مصالحه من خلال التحقيق في هذا النوع من التفجيرات إلى تحديد التقنية التي يستعملها الإرهابيون "ممكن أن يقع الانفجار باتصال هاتفي بين خطين أو عن طريق رسالة أو حتى رنة"، وأضاف أن مصالحه تتسلم تقرير مخبر المتفجرات حول تفجير ما، ويتم استنادا عليه، تحديد هوية التنظيم الإرهابي من خلال مقاربة العمليات ودراسة طبيعة المتفجرات وآلية التفجير، "نحن لدينا 257 تقني متخصص في تفكيك المتفجرات، على إطلاع بإجراءات تفجير قنابل عن طريق الهاتف النقال"، وشدد على أن المصلحة
تتطور، ليبقى الهدف إبطال مشروع إجرامي.
"الشروق" تعيش على المباشر عمليات تفكيك قنابل
كنا محظوظين أنا وجعفر المصور، لأن أفراد الفرقة قاموا بعمليتين استعراضيتين، وارتدى العون البدلة الواقية، واطّلعنا على مراحل تفكيك كيس مشبوه، وأشار هنا عميد شرطة إلى تدخلات أفراد فرقة مفككي القنابل، عند وجود بلاغ بوجود قنبلة "لا يهم إن كان بلاغا كاذبا، نحن نتلقى الاتصال من قاعة العمليات، نتحرك ونتكفل بالإنذار"، أسأله: ماذا تفعلون عند التأكد من عدم وجود قنبلة؟، "نحن في جميع الحالات، نقوم بتفجير الكيس، من خلال استعمال شحنة، وكثيرا ما يعتقد المواطنون أنه تم تفكيك قنبلة، لا. هي عبارة عن إجراءات أمنية وقائية، عندما نواجه سيارة مشبوهة، يكون كل شىء متوقع، لا نفتح الباب، وعليه نقوم بتفجير الشحنة، وليس ذلك بالضرورة أن تكون سيارة مفخخة"، وكثفت فرقة مفككي القنابل من تدخلاتها بعد تفجيرات 11 أفريل بالعاصمة، حيث تصل التدخلات إلى أكثر من 20 تدخلا في اليوم الواحد، ولم يسجل تفكيك قنبلة تقليدية أو سيارة مفخخة منذ تلك العمليات، وكانت أغلبها بناء على إنذارات كاذبة، لا يدرك أصحابها
خطورة الوضع وأهمية تدخل فرقة مفككي القنابل.
نائلة. ب