تلفزيون الريادة... دولة الدعاية التي سقطت مع الرئيس المخلوع
حكام ماسبيرو في قبضة شباب الفيس بوك
القاهرة ـ 'القدس العربي' ـ من كمال القاضي: ثمانية عشر يوما قضتها مصر والعالم كله في انتظار ما يمكن أن تسفر عنه الثورة الشبابية الناهضة ـ الساطعة، التي داهمت النظام على غرة فوضعته في مصيدة الفئران، بعد أن عجزت سياسة الحديد والنار عن حمايته وضاقت عليه دائرة الغضب، وفر الحماة والرماة ومن كان يظن أنهم جنوده المجندة، لم تفلح حينئذ استجداءات الرئيس وتوسلاته.
ولم ينطل على الثوار ألاعيبه السياسية في محاولات الاحتواء والاستعطاف، ونبرة الخطاب الهادئ، الذي ينم عن أمل كان يساوره حتى اللحظات الأخيرة متمنياً البقاء على كرسي الحكم ولو لشهور معدودة، ليصبح هو من اختار وقرر وتنازل وترك السلطة طواعية.
أيام صعبة ولحظات حرجة عاشها أنس الفقي وزير الإعلام السابق ومن معه، قبل أن يصدر القرار التاريخي بالتنحي ويتخلى مبارك عن مقعده مجبرا، فيصير بين عشية وضحاها مجردا من كل سلطاته، حاصلا بكل جدارة على لقب الرئيس المخلوع، فتتداعى الهزيمة وتسقط دولة الإعلام الرائد سقوطها المدوي، وتذهب تصريحات الفقي الواثقة بعدم تنحي رئيسه أدراج الرياح، وتتحدد إقامة وزير 'الفيديو كليب' في منزله ونعود لنجتر أحاديثه الممجوجة عن الثورة الإعلامية والانجازات الوهمية، وتتراءى لنا صور التخاذل والضعف والتضليل بقنوات التلفزيون المصري، الذي ظل يدافع عن النظام البائد حتى الرمق الأخير، ففي وقت كانت تتلاحق فيه الأحداث وتحتشد الملايين بميدان التحرير وسط القاهرة مطالبة بإسقاط نظام الحكم وتغيير وجه الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في مصر، وبينما يضرب الثوار الأرض فتتزلزل من تحت أقدامهم، وقف الإعلام الرسمي عاجزا بليدا غير قادر على التعامل مع الواقع الجديد، بعد أن ظل لعقود طويلة مبرمجاً على المداهنة والنفاق والتبعية، فلم يستوعب قادته ورجاله أن سقف الحرية قد ارتفع عاليا.
فلازالت عقدة السلطة قابعة في أعماق هؤلاء الذين تربوا على الخوف والخنوع والضعف، واستكانوا للذل والهوان، فانعقدت ألسنتهم عن قول الحقيقة، فسقطت بامتياز شعارات السيادة والريادة وتراجع دورهم آلاف الكيلومترات إلى الوراء، فيما احتلت القنوات الخاصة الصدارة وباتت هي النافذة الواسعة التي يرى من خلالها العالم نهارات مصر الصبوحة ومستقبلها، الذي يشرق مع طلوع شمس كل يوم من أيام الثورة الشبابية المجيدة، حيث لا محل للكذب من الإعراب ولا بقاء لغير الصدق في المنظومة الإعلامية، فما تسعى القنوات الحكومية لإخفائه يتجلى بوضوح في جميع وسائل الاعلام المنافسة، ومن ثم تخيب كل محاولات التدليس والتستر من جانب الحكوميين وأنصار الهزيمة، وقد فطن المراقبون السياسيون التابعون لتحول أنظار الملايين للقنوات الأجنبية والعربية، فعمدوا إلى قطع إرسال قناة الجزيرة وإغلاق مكتبها بالقاهرة وطرد مراسليها قبل أن تأتيهم التعليمات الأمريكية محذرة من خطورة ما صنعوه، فرضخوا وعادت الدماء الى شرايين الجزيرة مجددا، وتحولت وجهات العالم صوب الحقيقة مرة أخرى، فقناة الجزيرة لاتزال هي الأمير حتى الآن في متابعتها وتغطيتها، تنافسها قناة بي بي سي البريطانية وتأتي في المرتبة الثالثة والرابعة والخامسة قنوات مثل روسيا اليوم والعربية والمنار، وأخيرا قناة الرأي التي تنقل مباشرة وقائع ما يجرى في ميدان التحرير، من طرائف ومواقف قنوات الحكومة قبل السقوط، تركيزها على حالة الشارع المصري في ساعات حظر التجوال للتأكيد على التزام الجماهير بالانضباط وعدم وجود أي حراك في اتجاه التمرد والتغيير، فضلا عن تشغيل ماكينة السفسطة واللغو الفارغ لكتاب النظام ومستشاريه ومن أوردوه موارد التهلكة.
فهؤلاء يتحدثون بيقين عن الإصلاحات في الفترة المقبلة، وما ينويه الحزب الوطني من إقامة دولة العدالة وحماية حقوق الفقراء، وتوفير فرص العمل، وغيرها من عبارات الاستجداء والتملق للشعب، حيث هم مدربون على النفاق والانسحاق ولديهم قواميس ولوحات ومفردات كل مرحلة، وكل ظرف، ومنهم من حاول امتطاء صهوة جواد الثورة بعد أن استشعروا فيها القوة وأدركوا أن النظام بات قاب قوسين أو أدنى من السقوط، إن آجلا أو عاجلا، وسواء رحل مبارك أو بقي في السلطة للشهور المتبقية على انتخابات الرئاسة، بيد أن الغرائب والمفارقات لم تقتصر فقط على السياسيين المرتزقة الآكلين على كل الموائد، بل انها شملت أيضا بعض الفنانين من الممثلين والمطربين والراقصين، فهناك من انبروا في الأيام الأولى للثورة وأعلنوا انحيازهم لنظام مبارك وخرجوا في المظاهرات الداعية لتأييد الرئيس، وحين شعروا بانكسار مواليهم حولوا قبلتهم، ولكن الشباب الثائر كان لهم بالمرصاد فقد أعدوا قائمة باسمائهم وعلقوها في ميدان التحرير، تحت عنوان 'هؤلاء من هاجموا ثورتنا' وأوردوا الأسماء والصور من دون لبس أو مواربة، ومن بين من جاءت أسماؤهم، عادل إمام ـ غادة عبدالرازق ـ أحمد السقا ـ محمد فؤاد ـ سمية الخشاب ـ محمد هنيدي ـ هاني رمزي ـ تامر حسني، والأخير على وجه التحديد كان له النصيب الأكبر من الرفض والإهانة، فقد تم الاعتداء عليه اثناء محاولته اختراق صفوف المتظاهرين لإعلان تضامنه معهم بعد فوات الأوان، عمرو دياب ايضا ورد اسمه بالقائمة السوداء، لكنه لم يرتكب حماقة الذهاب الى ميدان التحرير كغريمه ومنافسه الطائش الشاب تامر، نعود إلى الفضائيات وأدائها خلال الأسبوعين الماضيين، إذ لوحظ أن برنامج '90 دقيقة' الذي يقدمه معتز الدمرداش بقناة المحور كان الأكثر مشاهدة بالتساوي والتوازي مع برنامج 'العاشرة مساء'، الذي تقدمه منى الشاذلي بقناة دريم لكونهما متزامنان في التوقيت ومتشابهان في شكل ونوعية التغطية.
وقد لفت نظرنا أن ما أخذناه في السابق على 'العاشرة مساء' من بعض الحيادية لم يعد له أثر الآن في ظل الزخم الثوري وتواتر الأحداث وسخونتها، ونستطيع أن نقطع بأن الحلقة التي استضافت فيها الشاذلي الفتى مشعل الثورة 'وائل غنيم' قد ساهمت الى حد كبير في اكتمال النصاب المليوني بمظاهرة يوم الأحد الذي تلا الحوار مع وائل مباشرة، فقد كان لكلامه وقع التحريض غير المباشر والمباشر على الثورة، فخرجت الآلاف من مختلف الشرائح والأعمار، ولا نستطيع ان نستثني برنامج 'بالمصري الفصيح' ولا مقدمته ريم ماجد من التميز، فأشد ما تتسم به هذه المذيعة النابهة حماسها المتقد وإخلاصها الواضح وصدقها الذي لا ريب فيه، فهي الجسورة الشجاعة التي لا تعير اهتماما للمخاطر ولا تلتزم بقواعد الدبلوماسية في ما تقول إذا تعارضت مع الصراحة، أما جابر القرموطي في برنامج 'مانشيت' فقد ظل ينتهج سياسة الصوت العالي والمضمون الحيادي، وإن كان تخفف قليلا بعد أن علا صوت الثوار فوق صوته.
لقد افتقد جمهور القناة الثانية وبالتحديد برنامج 'مصر النهاردة' الإعلامي محمود سعد الذي دفع ثمن موقفه الشجاع منذ اندلاع الثورة برفضه مهاجمة المتظاهرين، فأحيل الى التقاعد مبكرا وترك الساحة الإعلامية خالية لابن الوز تامر أمين والمخضرم في الأداء المتوازن خيري رمضان وبقي عزاؤه الوحيد في ما تركه من رصيد الاحترام الوفير عند الجمهور العريض ـ جمهوره هو وليس جمهور 'مصر النهاردة' أو القناة الثانية.
أهم ما في الثورات انها تفرز أجمل ما فيها وتكشف عن المعادن الاصيلة للبشر، فالأصيل يبقى أصيلا والمغشوش يظل مغشوشا.