أحمد التوفيق : مؤرخ تحت ظلال المآذن
ظاهريا، تمتزج في شخص أحمد التوفيق عدة شخصيات، فهو اليوم رجل دولة، بالمعنى الذي نطلقه تاريخيا على خدام المخزن ورجاله، ورجل أدب، ومؤرخ.
ولأن التاريخ هو الأصل، فإن الأدب يصير تجليا مستمرا لهذا "التاريخ" الذي يرسم ملامح سيرة الذات والمجتمع. لكن من الصعب تقبله كفقيه رغم أنه يدير وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ويقدم دروسا في رمضان. ولأنه أحيانا يقدم "فتاوى" من طبيعة دينية سياسية فإنه من الصعب أيضا تقبله كرجل سياسة من الصنف المألوف، إلا إذا كانت السياسة تعني تدبير حقل عام محكوم بشروطه الخاصة ويفترض الخطأ والصواب وفرض "اختيارات" سياسية معينة. لكن التوفيق، في النهاية، ليس إلا انعكاسا لوضع تاريخي، فهويته اليوم تقع في سلطة بين إمارة المؤمنين، بكل مقتضياتها القانونية وأبعادها التاريخية والمذهبية، وبين وضع الرجل الذي يقوم بالتدبير اليومي للجزء المتعلق بالعقيدة بكل تجلياتها المادية والروحية. ويصير بذلك طرفا، وأحيانا داعية، يختبر باستمرار سياسات في المجال الديني ومع الفاعلين فيه، وفي هذه الحالة يصح أن نقول إنه أحد مستعملي "الإسلام السياسي" بمعنى مغاير، ولغرض أساسي هو تجديد الشرعية، وترسيخ الوحدة المذهبية، متوسلا في ذلك بالأسئلة المقلقة للتاريخ.
لكن من يعرف أحمد التوفيق عن قرب، سيكتشف أن الرجل هو نتاج تلك التربية المستمرة التي انطلقت من أطراف هامش جغرافي وثقافي نحو هوامش أخرى تحولت مع الزمن إلى مركز قوة وإلى مناطق نفوذ، إلى أن وصل مسار حياته أخيرا إلى قمة السفح، حيث تجري في العمق مياه تتدفق قوية يمتزج فيها الأصل واللغة والطبع والتصرف وقراءة نوبات التاريخ.
"سمفونية" التاريخ
من يقرأ رواية "غريبة الحسين" سيجد معرفة بالموسيقى تتعدى المألوف، يلتقي في ذلك أحمد التوفيق مع مؤرخ وأديب آخر هو المرحوم محمد زنيبر الذي كان يعزف ويدندن ويعجب بموروث موسيقى يهود الأندلس، لكن أحمد التوفيق يتفلسف في الموسيقى ويمنحها قرابة وربما تطابقا مع علم التاريخ، وأحيانا يفضل أن يستحضر مقولات الفيلسوف فلاديمير جون كندش حين برى أن الموسيقى في حد ذاتها لا تعني شيئا لأن فيها كل شيء، "فبإمكاننا أن نقول النوتات الموسيقية ما نشاء، وأن نعزو لها قدرات دلالية خفية نريدها نحن، ولذلك فهي ستستقبل تأويلاتنا ولن تحتج عليها قط". وكذلك التاريخ، فيه كل شيء ولا نأخذ منه إلا وقائع وأحداث معينة لمنحها المعنى المطلوب. هكذا يلج أحمد التوفيق باب التاريخ من بوابة الموسيقى، ويضفي على الأحداث المدروسة قيمة تبدو واضحة المعنى في ارتباط بالقيم التي نؤمن بها، ومن هنا وهو يرسم لوحاته، أو يعزف سوناتاته، عن الحقب المختلفة لتاريخ المغرب، يصل في النهاية إلى مفهوم للدولة وقد تعززت على امتداد القرون بمشروعية متعددة الأبعاد. وهذا قوله: "مشروعية دينية متمثلة في جانب رمزي هو النسب الشريف، وجانب تأسيسي هو البيعة، ثم مشروعية تاريخية متمثلة في رصيد الامتزاج مع مختلف المكونات الاجتماعية", وطالما جرى مثل هذا الحديث وحول مثل هذه الخلاصات العامة حين يأتي إلى مكتبه زوار من الديوان الملكي أو أساتذة من المؤسسات الجامعية وهو على رأس الخزانة العامة، وقد بهر زواره دوما بغزارة معارفه، لا سيما معرفته الجيدة لسير الرجال ومتونهم في العصور السابقة، وذلك إلى اليوم الذي أنهى مخطوطة روايته الأولى "جارات أبي موسى" وقدمها إلى الأستاذ أحمد اليابوري لإبداء الرأي قبل دفعها للنشر. وفهم المحيطون به، خصوصا من قرأ منهم الرواية، أن الرجل كان دوما بئرا بلا قرار. فقد كشف على قدرة تبليغ فنية أحاطت جانبه الروحاني بكثير من الغموض، وأعيد التذكير بانتسابه السابق إلى الزاوية البودشيشية مع أن الأمر ليس بهذه السطحية، خصوصا أن الرواية قرئت كنص يمتح من التصوف والكرامات وعوالم الجذب والخارق. لكن أحمد التوفيق كان في منأى عن أي احتكاك عابر لدرجة يبدو فيها كأنه لا يتابع ردود الفعل ولا يقرأ الصحف، لكن من المؤكد أن دماءه الداخلية تجددت واكتسب بذلك ثقة كبيرة في النفس بعد أن تفتق فيه الروائي من صلب المؤرخ.
كان التوفيق، منذ خروجه من معهد الدراسات الإفريقية، ينزوي منذ ساعات الفجر الأولى بمكتبه الصغير المتخم بالكتب في شقته العائلية ب"حي الانطلاق" بالرباط ويكتب في كراريسه بخط صقيل لا تشطيب فيه، أما حين يلتحق بمكتبه في الخزانة العامة فكان ينشغل بالأعمال المكتبية وبأشياء أخرى، فهو يحضر ويراجع مراد "المعلمة" التي كان يشرف عليها المرحوم محمد حجي، ويشرف ويساهم في برامج لقنوات أجنبية عن ثقافة المغرب، ويهيئ محاضراته العديدة كأستاذ زائر في جامعات أجنبية، وينشغل أحيانا بإدارة مكتبة الملك فهد بالدار البيضاء...، وذلك إلى اللحظة التي أصبح فيها لديه زوار من صنف مختلف.
تحت ظلال المآذن
في السنة التي نودي عليه فيها لتقلد منصب وزير للأوقاف والشؤون الإسلامية، كان لدى أحمد التوفيق جوع كبير لتقلد منصب سامي، وقد نسج لأجل ذلك علاقات وارتقى عتبات دون أن يفصح بالضبط عن مكنونه، إلى أن جاءت لحظة التغيير وبدأ التقصي حول نشاطه وأهوائه، كانوا يأتون إليه فيخرجهم من مكتبه في الخزانة العامة الذي لا تكييف فيها نحو الحديقة الخلفية لقاعة المطالعة، وبين الشجيرات غير المقصوصة توضع طاولة شاي وكرسيان وتبدأ أحاديثه العميقة مع الضيف الخاص التي تمتزج فيها المعارف بأخبار وتشخيصات لسياسة الدولة. إلا أنه بعد تسلم ظهير التعيين لم يغير عاداته ولم يلتحق كالملهوف مباشرة بمكتبه في "المشور"، لكنه من حين لآخر كان يستقبل أحد المديرين النافذين بالأوقاف ليستمع إليه بانتباه وهو يصوغ المشهد في ذهنه ويرسم أولى الخطوط العريضة لأفكاره الإصلاحية في "الحقل" الديني، وبعد بضعة أسابيع من المشاورات كان مشروعه الإصلاحي شبه جاهز وينتظر ترسيمه والإعلان عنه. آنذاك التحق بمكتبه وغير عاداته وانقطع نهائيا عن صلاته القديمة.
وهو اليوم يبشر بأهمية دور المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف، ورب ضارة نافعة. وقبل ذلك كان قد تعاقد مع أجنبي لا علم له بالأصول ولا بتقاليد المغرب كي يقوم بتشخيصات لمناهج دار الحديث الحسنية من أجل إدخال إصلاحات، ولم يسكت أحمد الخمليشي مدير الدار ولا أساتذة مؤثرون ولهم موقع كأحمد الريسوني ومحمد يسف الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى، ولم يكن بجانبه سوى العبادي الذي كان مدعوما منه وهو يقدم "نصائح دينية" في التلفزيون قبل أن يرأس هيئة العلماء بعد أن أصبحت بدورها "تابعة"، وفقدت استقلالها القديم أيام كانت تحمل اسم "جمعية علماء المغرب" ويرأسها أعلام من حجم عبد الله كنون. وأخيرا "طاحت" صومعة جامع في مكناس وفقدت أرواح مصلين رحمهم الله، واستفاق التوفيق أخيرا من تلك الطمأنينة المخدرة وأعاد النظر في الخريطة الوطنية للمساجد التي تحولت جميعها إلى مؤسسات دينية تابعة للدولة ولمرشديها وأئمتها وهم اليوم مجرد "موظفين".
لكن مع كل المؤاخذات التي يمكن أن توجه إلى التوفيق، وهي مطلوبة وضرورية، وعلى رأسها ما يحدث باسمه وبالوكالة عنه في القناة السادسة، فإن منتقديه الكبار يوجدون في مكان آخر: أولئك الذين يقرؤون الشيفرة المبثوثة عبر الدرس الرمضاني الافتتاحي ويخالفونه التوجه العام. أرباب الزوايا والطرقيون الذين لم يأخذوا حصتهم من الاعتبار، الغائبون عن التجمعات الصوفية في سيدي شاكر، الشيوخ والعلماء والأئمة ذوو الرأي المبعدون عن الإفتاء والتنوير، "العدل والإحسان" وجمعيات الدعوة، الشيعة والبهائيون، وأصناف من المجموعات العاملة في الظلام، وأخيرا تقارير الخارجية الأمريكية عن الحرية الدينية في المغرب، والأسئلة المتعلقة بمآل اتفاق المغرب مع الفاتيكان على عهد البابا يوحنا بولس الثاني في أوائل الثمانينات.
إن التاريخ يستطيع أن يعزف موسيقاه بألف لسان، لكن هل يستطيع المؤرخ الجالس تحت ظلال المآذن أن يعزف سوناتة تمنح المغاربة قليلا من الإيمان بهويتهم التاريخية وبتماسكهم العقائدي؟ أم أنه لا يستطيع أن يستوعب كل وقائع الحال، ومتطلبات المآل؟