[center][b]النزوع العقلي في منهج الصحابة[/b]
[b]
أسامة شحادة
من أسباب قوة وتميز الإنتاج الحضاري للصحابة الكرام هو قوة الجانب العقلي في منهجهم القائم بشكل أساسي على التسليم المطلق للوحي قرآناً وسنة، هذه القوة التي مكنتهم من الإبداع والاجتهاد وتقديم الحلول والمقترحات للمتغيرات التي واجهتهم.
من أبرز مظاهر قوة الجانب العقلي في منهج الصحابة ما يلي:
1 - أن الله عز وجل جعل مناط التكليف مرهونا بتوفر العقل لدى الإنسان، لأن من فقد العقل فلا تكليف عليه شرعاً، فالدين والوحي الرباني جعلا المحاسبة والمسؤولية مرتبطة بوجود العقل الذي يمكنه التحقق من صدق ما وصله من الوحي الرباني الذي تعهد الله عز وجل بحفظه "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"(الحجر 9)، ومرتبطة أيضاً بقدرة العقل على فهم مقصود وغاية هذا الوحي الذي أنزله الله عز وجل القرآن على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم "بلسان عربي مبين"(الشعراء 135)، وفي قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه نلاحظ بوضوح قضية التحقق من صدق النبي صلى الله عليه وسلم، حين قارن واقع النبي صلى الله عليه وسلم بما لديه من علامات النبي الموعود التي تعلمها من الرهبان.
2 - أن الوحي أكثر من الأمر بالتدبر والتفكر والتعقل للوحي في عشرات الآيات والمواطن، وفي هذا تربية عملية ودائمة للمؤمنين على التفكير والتأمل، وقد أفرزت هذه التربية القرآنية الدائمة العقلية الإسلامية المبدعة، التي استطاعت أن تنشر الإسلام في أرجاء العالم ومن ثم أن تدير العالم نفسه بكل تعقيداته ومتغيراته، كما أنها أبدعت آلاف الحلول من أجل ذلك على الصعيد الإداري والاقتصادي والسياسي والتقني والمعيشي، فازدهرت العلوم وكثرت الاختراعات والاكتشافات، مما أدخل السعادة على البشرية ونشر فيها الراحة والطمأنينة.
وقد فصّلنا بعض هذه الجوانب في مقالات سابقة، وأما الاختراعات والاكتشافات التي قدمتها الحضارة الإسلامية فقد كثرت اليوم الكتب والأبحاث الصادرة في ذلك، مثل كتاب (العلوم عند العرب) لقدري طوقان، وكتاب (دور العرب والمسلمين في العلوم العصبية) لأشرف الكردي وهما من منشورات مشروع مكتبة الأسرة التابع لوزارة الثقافة، وكتاب (دور الحضارة العربية الإسلامية في تكوين الحضارة الغربية) لمحمد أبو حسان من منشورات الوزارة أيضا.
3 - ولعل من أهم المظاهر على مكانة العقل في منهج السلف، هو أن كثيراً من آيات القرآن وأحاديث السنة النبوية ليست مجرد نصوص دينية مقدسة، بل هي نفسها ذات دلالة عقلية، فليست النصوص الدينية الإسلامية مقتصرة فقط على دلالة النقل والنص عن الله التي يسلم بها المؤمن، بل هي تتضمن دلالات عقلية تخاطب المؤمن وغير المؤمن، مثل قوله تعالى: " أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون* أم خلقوا السماوات والأرض" (الطور36،35). فهنا نجد أن القرآن يطرح أسئلة تخاطب العقل بخصوص قضية الخلق ويناقش الاحتمالات فيها، ويلاحظ على آيات القرآن أنها تناقش جزئيات محددة حتى تكون موضع قبول وتسليم، ثم تنطلق منها لإقرار الكليات، لأن التسليم بالكليات هو ثمرة للتسليم بالجزئيات التي تشكل الكليات.
ومن أمثلة الدلالات العقلية في آيات القرآن الأمثال التي أخبر بها القرآن الكريم "ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل" (الروم 58)، وهذه الأمثلة القرآنية هي أقيسة عقلية واقعية برهانية يقينية قد جربها الناس ولمسوا واقعها بأنفسهم، مما ينتج عنها معرفة يقينية.
ومن هذه الأمثلة القرآنية قوله تعالى: "وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم" (يس 79،78)، وهنا نجد أن القرآن يرشدنا أن الإنسان خلق أصلاً من تراب ولذلك فإن إعادة خلقه من تراب ليست بأمر صعب، كما أننا نشاهد خلق الإنسان من قطرة مني ثم نموها وتكون هذه الأجهزة المعقدة فيه، فكما خلق من قطرة ماء، يمكن أن يعاد من رميم!! وهذا منطق عقلي في غاية القوة والروعة.
والمهم هنا بيان أن من الخطأ الجسيم التعامل مع النصوص الشرعية على أنها خالية من الدلالات العقلية، أو أنها تتضمن أمورا لا يقبلها العقل كما في الديانات الأخرى، بل النصوص الشرعية مليئة بالدلالات العقلية الصحيحة، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما أئمة أهل السنة كالصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن سلك سبيلهم من أئمة المسلمين، فهؤلاء أتوا بخلاصة المعقول والمنقول؛ إذ كانوا عالمين بأن كلاً من الأدلة السمعية والعقلية حق، وأنها متلازمة).
4 - ارشاد القرآن لضرورة استخدام الحواس بشكل صحيح للوصول للمعرفة، وذلك باستخدام الحواس فيما يمكن لها أن تتعامل معه، فحين ادعى الكفار أن الملائكة هم إناث أبطل الله عز وجل دعواهم بقوله تعالى: "أشهدوا خلقهم" (الزخرف 19)، فأمر لم يحضروه ويشاهدوه وليس لديهم خبر صادق عنه، فكيف يطلقون دعواهم؟ وفي هذا دلالة على أن الحواس من وسائل المعرفة الصحيحة إذا استخدمت بشكل سليم.
5 - أن القرآن الكريم لم يربط العقل بأي جارحة أو عضو من أعضاء جسد الإنسان، في دلالة على أن العقل هو وظيفة وملكة وليس جارحة أو أداة، بعكس الثقافة الفلسفية اليونانية السائدة في زمانهم، والتي كانت تعتبر العقل جوهرا قائما بنفسه، واخترعوا لذلك نظرية العقول العشرة ليفسروا بها خلق العالم ووجوده! وهي النظرية التي أبطلها القرآن الكريم، كما أبطلها العلم.
ومن هنا نشأت خرافة رفض الصحابة والتابعين للعقل! فرفض الصحابة والتابعين ليس للعقل، بل هو رفض لخرافة العقل في التصور اليوناني والذي تبناه المتكلمون والفلاسفة المسلمون! ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والعقل في كتاب الله وسنة رسوله وكلام الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين هو أمر يقوم بالعاقل سواء سمي عرضاً أو صفة. فليس هو عيناً قائمة بنفسها سواء سمي جوهراً او جسماً).
وبسبب قوة الجانب العقلي المستقي من القرآن والسنة في منهج الصحابة، ازدهر عندهم الاجتهاد في ما يحتاجه المسلمون من قضايا وتحديات، فحققوا مقاصد الشريعة وشهدت البشرية عصوراً زاهية، ولما تنكب المسلمون عن منهج الصحابة قل الاجتهاد حتى نادى بعضهم بغلقه بسبب ضعف التفكير نتيجة سيادة عقل اليونان على المسلمين، وساد المجون عن السادة والخرافة عند العامة، فانحطت الأمة الإسلامية عن سدة الحضارة والسيادة والعزة والرفعة.[/b]
[/center]