يعتقد "المؤلف"ان قدرتنا على التعلم تصبح متلكئة واستيعابنا ضحل ونتحول إلى سطحيين
الرسائل النصية والفورية تطمس الإبداع البشري وتجعلنا لا نفكر ونتحول إلى اتكاليين
الإنسان قادر على أن يخلص نفسه من الانهيار والإدمان لو عرف حجم مخاطر النت
ما هو الحل للسيطرة على الانترنت ذلك السلاح المدمر لأدمغتنا وقاتل أفكارنا العميقة
ترجمة – كريم المالكي:
كتاب مثير صدر حديثا في الولايات المتحدة يزعم أن الوقت الذي ننفقه على الانترنت يقوم بتغيير حقيقي لتركيبة أدمغتنا ويلحق الضرر بقدرتنا على التفكير والتعلم على حد سواء. وفي الحقيقة ذهب صاحب كتاب (The shallows) :كيف يغير الانترنت تركيبة أدمغتنا؟ الأمريكي نيكولاس كار إلى القول ان الناس الذين يجلسون كثيرا على الانترنت يتحولون إلى أشخاص تفكيرهم سطحي، في حين ان قراءة أي كتاب اعتيادي تتيح لك فسحة كاملة من التفكير العميق. وفي الوقت الحالي اصبح هذا الكتاب محور نقاش حاد بسبب النتائج التي طرحها المؤلف والتي توصل اليها بسبب الآثار المترتبة من جراء الساعات الطويلة التي ينفقها الشباب على الأون لاين.
ان كل هذا النشاط المحموم على الانترنت والأجهزة الالكترونية الحديثة يخلق حالة مستمرة من القلق، بل انه أصبح ادمانا لا يختلف عن أي ادمان آخر. لذا بعد قراءة ما نُشرَ حول هذا الكتاب المثير للجدل عن تأثير وسائل الإعلام الرقمية على العقل البشري، يرى الكثيرون ان هناك أكثر من سبب للشعور بالخوف. ان أطروحة هذا الكتاب الذي سيصدر خلال الشهر القادم في المملكة المتحدة بسيطة للغاية تتمحور في ان العبء المعلوماتي غير المحدود للعالم الحديث يشل قدرتنا على التفكير والتأمل، والصبر وأشياء أخرى وليس هذا فحسب بل أنه يؤكد على ان عاداتنا على الانترنت تغيير تركيبة أدمغتنا.
كيف يغير الانترنت ادمغتنا؟
مثل كل محتويات صحيفة الغارديان التي تريد ان تقرأها –وهذا ليس بجديد-، لقد تمت كتابة هذا الموضوع باستخدام جهاز كمبيوتر المتصل بشبكة الإنترنت. ومن الواضح أن لذلك منافع لا تنتهي، تتعلق في معظمها بالسهولة النسبية للقيام بالبحث وبساطة للاتصال بالناس الذين انت على وشك أن تقرأ أفكارهم وآراءهم. ان تكنولوجيا الاتصالات الحديثة الآن مألوفة بحيث تبدو عادية تماما، ولكن مازال هناك شيء من السحر فيها، فمثلا، باستطاعتك إرسال بريد إلكتروني إلى عالم ما في جنوب كاليفورنيا، وبعدها في غضون ساعة يمكن الحديث إليه ومناقشة أي موضوع يخطر في بالك.ومع ذلك فهناك جانب سلبي. ان الأداة التي يمكنني استخدامها للكتابة، هي ليس فقط معالج النصوص وصندوق البريد الخاص بي، ولكن يمكن أيضا ان تكون أشياء أخرى كجهاز راديو أو تلفزيون، ونافذة للأخبار ومتجر. وبالإمكان تعداد مئات الأشياء التي يؤمنها هذا الجهاز العجيب ووسيلته الرئيسية.
في ساعات الفجر، أو منتصف الليل تقريبا أتفحص بريدي الإلكتروني سواء من هاتفي أو من كمبيوتري. وبطبيعة الحال، صندوق رسائلي عادة ما يكون إما بالضبط كما تركته، أو هناك من انضم حديثا. ومن الواضح، أنا لست وحدي في هذا البلاء. لقد ركزت العشرات من العناوين على تقرير جديد وجد أن البريطانيين ينفقون أكثر من سبع ساعات يوميا في مشاهدة التلفزيون، والذهاب على الانترنت، وإرسال الرسائل النصية وقراءة الصحف إضافة إلى الهواتف الذكية على شبكة الإنترنت التي هي الآن تثبت جزءا من حياة ملايين الناس. ومن الناحية الظاهرية، كل هذا لا يبدو إلهاميا - ولكن على الطرف الأدنى من الفئة العمرية يؤشَرْ بالدليل على ما مقبل عليه العالم. ان الأشخاص الذي تتراوح أعمارهم ما بين السادسة عشر والأربعة والعشرين، لم يكن جهاز التلفزيون هو الذي يهيمن عليهم حيث وجد ان نصف وقتهم الاعلامي مخصص للهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر - وبالتالي، فإن ثلثي الوقت الذي يتم انفاقه يكون على فعل شيئين رقميين في وقت واحد. وعلى ما يبدو كلما كنت أصغر سنا، فهناك المزيد من الاستهلاك في وسائل الإعلام المتعددة، ومع ان عمري في الأربعينيات، لكن عاداتي متشابهة تقريبا مع هؤلاء الشباب.
في كثير من الأحيان، تشعر أن كل هذا النشاط المحموم يخلق حالة مستمرة من القلق، مثل ما يفعل أي إدمان عادة. وعلاوة على ذلك، وبعد قراءة ما نُشرَ حديثا حول كتاب مثير للجدل عن تأثير وسائل الإعلام الرقمية على العقل البشري اعتقد ان لدي سببا وجيها جدا لأشعر بالتوجس من ذلك. ان أطروحة هذا الكتاب بسيطة للغاية: ليس فقط ان العبء المعلوماتي غير المحدود للعالم الحديث يقتل قدرتنا على التفكير والتأمل، والصبر ولكن عاداتنا على الانترنت أيضا تغيير تركيبة أدمغتنا.
هل جوجل يجعلنا أغبياء؟
يتكون كتاب (The shallows) من 250 صفحة للكاتب الأمريكي نيكولاس كار، وقد نشر للتو في الولايات المتحدة، وعلى وشك أن يوزع في المملكة المتحدة، وحاليا هو محور نقاش حاد. لكن لابد من الإشارة إلى أنه قبل عامين، كتب "كار" مقالا في مجلة "اتلانتك" تحت عنوان "هل جوجل يجعلنا أغبياء؟" ويبدو ان هذا الكتاب هو النسخة الكاملة: التي هي صرخة مكتوبة بشكل رائع عن القلق حول ما وصفه احد المعجبين بـ"حكمة الإنسان غير المتعلم" وهو عملية اعادة تركيب للممرات العصبية والشبكات التي ما زالت تحرم الجنس البشري من المواهب التي - ومن المفارقات - تقود رحلتنا من الكهوف إلى محطات أجهزة الكمبيوتر.
في الكتاب، يعود "كار" إلى الوراء لينظر في اختراعات الإنسان، مثل الخريطة، والساعة والآلة الكاتبة، ومقدار تأثيرها في الأساليب الأساسية لتفكيرنا (من بين الأشخاص الذين تغيرت كتابتهم بفعل الحداثة فريدريك نيتشه وتي اس إليوت). وللسبب نفسه، يقول إن "نشاز محفزات الإنترنت " و"الحشو المجنون" للمعلومات أدت إلى زيادة في "القراءة الخاطفة وتشتت وسرعة التفكير والتعلم السطحي" - على النقيض من الكتاب الكلاسيكي الذي كان يشجع البشر الأذكياء ليكونوا متأملين ومتخيلين. ولكن هنا يكمن الشيء المهم حقا حيث يدعي "كار" أن فهمنا المتنامي للكيفية التي تعيد فيها التجربة تركيب دوائر الدماغ خلال حياتنا – التي تعرف باسم "المرونة العصبية" - تبدو إلى حد ما في اتجاه واحد ومقلق للغاية. ومن بين أكثر الأجزاء المثيرة في هذا الكتاب هو التالي: "إذاعرفنا ما نعرفه اليوم عن مرونة الدماغ، حينها نبتكر وسيلة من شأنها أن تعيد تركيب دوائرنا العقلية في أسرع وقت وأكمل وجه ممكن، والأرجح في نهاية المطاف نصمم شيئا يبدو ويعمل في الكثير منه مثل الانترنت".
الآثار كبيرة والمثير للدهشة ان البحوث التفتت إلى آثار الإنترنت على الدماغ، ولكن العمل الذي شكل الجزء المهم من بحث "كار" أجري في عام 2008، من قبل ثلاثة من الأطباء النفسيين في جامعة كاليفورنيا بقيادة الدكتور غاري سمول، الذي شارك في تأليف كتاب بعنوان iBrain. وتحت إشرافهم، تم مسح أدمغة 12 من مستخدمي الانترنت من ذوي الخبرة و12 من المستخدمين الجدد الرقميين. وقد نشرت النتائج تحت عنوان "دماغك على جوجل"، وأشارت إلى فوارق أساسية بين المجموعتين: في منطقة الدماغ التي تسمى قشرة الفص الجبهي الظهري الجانبي، والتي تتعامل مع الذاكرة على المدى القصير وصنع القرار، لم يظهر الناشئون أي نشاط، في حين أن قدامى مستخدمي الإنترنت كانوا في الواقع جذوة من النشاط.
وبعد ستة أيام، ابلغ المبتدئون بقضاء ساعة على الانترنت يوميا، لتفحص أدمغة المجموعتين مرة أخرى، وهذه المرة كانت أكثر إثارة للاهتمام: في صور كل من عقول المجموعتين كان نمط النقط التي تمثل النشاط العقلي متطابقا تقريبا. وكما يقول "سمول": "بعد خمسة أيام فقط من التطبيق، أصبحت الدوائر العصبية الدقيقة الموجودة نفسها في الجزء الأمامي من الدماغ نشطة في مواضيع الانترنت الساذجة. وقد اعادت خمس ساعات على الانترنت، والموضوعات الساذجة بالفعل تركيب أدمغتهم. "ان العالم "سمول" مدير مركز أبحاث الذاكرة والشيخوخة في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، وهو متخصص في الآثار على الدماغ بسبب الشيخوخة، شارك في اختراع أول تكنولوجيا مسح الدماغ للكشف عن الأدلة المادية من مرض الزهايمر. يقول"سمول" "حتى مع الأشخاص المتقدمين في السن يكون الدماغ مرنا جدا، ويستجيب إلى ما يحدث مع التكنولوجيا". ويضيف: "هناك مبدأ أساسي أن الدماغ حساس جدا لأي نوع من التحفيز، ومن لحظة إلى أخرى، هناك سلسلة معقدة جدا من النتائج الألكترو كيميائية لأي شكل من أشكال التحفيز. وإذا ما كررت المحفزات، فسوف تستثار الدوائر العصبية، ولكن إذا أهملت محفزات أخرى، سوف تضعف الدوائر العصبية الأخرى. " هذا هو جوهر الجدل الذي يبحث فيه "كار" وهو أن عالم الانترنت يفرض ضريبة على أجزاء من الدماغ التي تتعامل مع أشياء عابرة ومؤقتة حيث إن التفكير العميق يصبح وعلى نحو متزايد أمرا غير ممكن. ويعتقد بالتالي: "ان قدرتنا على التعلم تصبح تعاني، واستيعابنا يبقى ضحلا".
الابداع البشري في خطرو"سمول" فقط على دراية تامة بما يمكن ان يعني قضاء الكثير من الوقت على الانترنت للعمليات العقلية الأخرى. وفي وسط الشباب الذي يسميهم الفطريون الرقميين (وهو مصطلح كان أول من أطلقه الكاتب الأمريكي والعالم التربوي مارك بيرنسكي)، لاحظ مرارا وتكرارا افتقارهم لمهارات الاتصال البشري كالمحافظة على الاتصال بالعين، أو ملاحظة الإشارات غير اللفظية في المحادثة". وعندما يريد ان يفعل ذلك فإنه يبذل كل ما لديه ليعيد تدريب هذه المهارات ويقول: "عندما أذهب إلى الكليات وأتحدث مع الطلاب، اطلب منهم ان ينفذوا تمارين الاتصال البشري وجها لوجه كأن أقول لهم :' التفت إلى شخص بجانبك، يفضل أن يكون شخصا لا تعرفه، أغلق جوالك". شخص واحد يتحدث والآخر يستمع، وحافظ على الاتصال بالعين، وهذا أسلوب مؤثر جدا. وهكذا بدأ اثنان من الشباب بالتفاهم بعد ان فعلا ذلك ". كما يخشى أيضا من أن الرسائل النصية والرسائل الفورية قد تكون بالفعل تطمس الإبداع البشري، لأننا لا نفكر خارج الصندوق بأنفسنا -- نحن باستمرار نتفحص جميع أفكارنا الجديدة مع أصدقائنا". ويحذر من أن تعدد المهام – التي بالتأكيد أنها طريقة التشغيل الأساسية للانترنت – ليست وسيلة فعالة للقيام بالأشياء: نحن نرتكب أخطاء أكثر بكثير، وهناك ميل للقيام بالأشياء بسرعة، لكن على نحو أكثر إهمالا.و في الآونة الأخيرة، عمل كار مع شركة بوينغ الأمريكية الكبرى بخصوص الكيفية التي يتم التأقلم بها مع آثار التشبع على الانترنت مع الموظفين الأصغر سنا، وتأهيلهم على عالم بدون نت.عندما كنت أسأله كيف يمكن لي وقف آثار الإنترنت الأكثر إيذاء على عقلي، يقول كار: لدينا القدرة على سحب أنفسنا من الانهيار فيما لو كنا نعرف ما هي المخاطر، الدماغ يمكن أن يوجه نفسه إذا أدركنا هذه القضايا، وعلينا اتخاذ قرارات بشأن ما يمكننا القيام به حيال ذلك. ولابد أن نحاول تحقيق التوازن في الوقت الذي نقضيه على الانترنت والذي نكون بعيدين عنه ويقول كار: "ما يحدث هو أننا نفقد الإيقاع اليومي الذي اعتدنا عليه، الذهاب للعمل، والعودة إلى المنزل، وان تقضي بعض الوقت في الحديث مع أطفالك".
دور الألعاب عبر الإنترنت.. وماذا عن فكرة التهدئة عندما تكون على الانترنت؟ اشعر فعلا بأني على ما يرام عندما ابتعد عن النت ولكن سرعان ما أعود إلى مكتبي حيث يصبح أمامي كل شيء اليوتيوب وتفحص بريدي الإلكتروني. ويقول "من الصعب الانسحاب". الانترنت يسحرنا وقد أصبحت أدمغتنا مدمنة عليه، وعلينا أن نكون على علم بذلك، وان لا نسمح له بالسيطرة علينا".
البروفيسور أندرو بيرن من معهد التعليم في جامعة لندن الذي تخصص منذ زمن طويل في أساليب الأطفال والشباب في استخدام ما يسمى بـ"وسائل الإعلام الجديدة" يتساءل هل هناك أي شيء في كتاب البروفيسور"كار عن دور الألعاب التي تلعب عبر الإنترنت؟" في الحقيقة ليس هناك الكثير. ان مناقشات "كار" تمتد إلى أنشطة من نوع التصفح والعرض، ولكن إذا نظرتم إلى البحث عن الأطفال والقيام بالألعاب عبر الإنترنت، أو استكشاف العوالم الافتراضية، كالحياة الثانية، فإن النقاش يتعلق بالانغماس والمشاركة – وهما من الاهتمامات التي تصنف بأنها إدمان. ان النقطة تكمن في ان اللعب بنجاح في لعب الإنترنت، يلزم درجة من الانتباه لا تصدق إلى ما يقوم به زملاؤه في الفريق، وكذلك إلى آليات اللعبة. لذا بالإمكان إعداد أطروحة عن "تفكير الاعماق"، وبالمقدار نفسه عن "التفكير السطحي "وماذا عن كل هذه المخاوف بشأن التحول في دماغ الإنسان؟ يقول البروفيسور أندرو بيرن "ان اعادة تركيب الأعصاب المؤقت يحدث عند تعلم أي شيء". "أنا أتعلم العزف على آلة موسيقية في هذه اللحظة، ويمكن أن أشعر ان نقاط الاشتباك العصبي تعيد تركيب نفسها، ولكنها مجرد آلية بيولوجية، ويبدو لي أن القول إن بعض الممرات العصبية جيدة وبعضها سيئة – أمر ممكن، ولكن كيف يمكننا أن نقول ذلك؟ يمكن أن يكون شيئا جيدا: يصبح الشخص متكيفا، وأكثر مرونة في سعيه للحصول على المعلومات ". ويعتقد البروفيسور أندرو بيرن ان "كار" قد، يكون مذنبا بسبب انزلاقه في نقاش تحولي تقريبا"، وانه لا يملك ناصيته على الإطلاق.كما انه غير معجب أيضا بالطريقة التي يضع فيها " كار" التناقض بالنسبة للغباء التراكمي لعصر الانترنت سوية مع المرحلة السيبرية للتقدم البشري في حين اننا جميعا نقوم بقراءة الكتب. ويقول"ماذا لو كان هذا الكتاب "كفاحي"؟ وما ذا لو كان جيفري آرتشر، أم باربرا كارتلاند؟.
في الحقيقة لا أعرف لماذا ينبغي أن تبرز الكتب على اساس كونها جديرة بالاهتمام لما تحمله من أفكار، في حين ان الأمر نفسه ينطبق على ما موجود في الانترنت ".ان كل هذه الأصوات على حد سواء مريحة ومقنعة، حتى نعود إلى كتاب (The shallows )، ونصل إلى حكم واقعي لاسيما بعد قراءة متعمقة (على عكس توقعات "كار" الأكثر قتامة، والتي توصلت اليها في النهاية بسهولة).
(The shallows ): كيف يغير الانترنت تركيبة أدمغتنا، اقرأ وتذكر - مؤلفه نيكولاس كار
عن الغارديان .