في روسيا حاليا 700 ألف يتيم وهو عدد يفوق ما أفرزته الحرب العالمية الثانية عندما قتل 25 مليون سوفيتي.
يرى بعض الروس ان البلد الذي يتناقص عدد سكانه لا ينبغي مطلقا أن يرسل أطفاله إلى الخارج
ترجمة وإعداد- كريم المالكي:
ان الدار كما قيل هي الوطن، ويقصد بالدار الأسرة زائدا البيت الذي يحتوي هذه الأسرة. وعندما لا يكون للإنسان دار ولا أهل يصبح إسقاط صفة بأنه بلا وطن واقع حال، وبالنسبة لأطفال دور الأيتام في روسيا الذين عادة ما يأتون من أسر مختلفة، فمنهم من فقد ذويه ومنهم من كان يعيش في كنف أسرة مفككة .وهنا تصبح دار الايتام المكان المثالي الذي يؤويهم ضمن مراحل سنية مختلفة الى ان يحين الوقت الذي تأتي فيه عائلة قد تكون روسية أو أجنبية وتبدي الاستعداد لتبنيه .ومن المؤكد ان رحلة التبني محفوفة بالمخاطر فهناك من تسير أموره على ما يرام وهناك من تتعثر رحلته ويعود إلى المربع الأول.
ومؤخرا أعيد طفل تم تبنيه من عائلة أمريكية الى روسيا بمفرده، وقد شكلت هذه الحادثة منعطفا جديدا في مأساة أطفال التبني في روسيا التي من جانبها هددت بوقف التعامل مع الأمريكان. وبعد حادثة إعادة هذا الطفل اعترف كبار المسؤولين الروس بفوضى نظام التبني في بلدهم، لاسيما انه في روسيا يوجد حاليا حوالي 700 ألف يتيم وهي نسبة تفوق تلك التي كانت في نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما قتل ما يقدر ب 25 مليون مواطن سوفيتي. والسؤال الذي طرحته صحيفة الهيرالد تريبيون هو لماذا يوجد في روسيا كل هذا العدد الكبير من الأيتام؟
ليس هناك ما هو كئيب في "دار الأيتام رقم 11". فهو يحوي غرفا مليئة بكميات كبيرة من الدمى وقطارات وحيوانات محنطة لجعل أي طفل يشعر بالراحة والارتياح اثناء وجوده فيه. وبالدار أيضا المعالجون الذين يعلمون الطفل كيفية النطق والممرضات اللواتي يتابعن الاطفال على مدار الساعة، وكذلك تم تأمين الطعام الذي من شأنه ان يدخل الفرحة إلى تلك القلوب الصغيرة. و يوحي المكان بأن الحب لا يعرف الحدود ولا يقف عند الجدران. لكن ما يفتقر إليه المكان هو تعدد الزيارات من قبل الآباء المحتملين.
ان بضعة من أطفال هذه الدار سيتم تبنيهم إما من قبل آباء روس أو أجانب. وعندما يبلغون سن السابعة وهو السن الذي لا يؤهلهم للبقاء في هذه المؤسسة سيتم احتواؤهم في مكان اخر ما يعكس ذلك النظام الراسخ الذي هو أفضل بكثير من مستودعات الاطفال - والاستفادة منهم - بدلا من العثور لهم على أسر.
آخر حادثة
وكان نبأ رفض امرأة أمريكية لابنها المتبنى الذي أعادته الى روسيا بمفرده مجرد منعطف جديد في مأساة اطفال التبني في روسيا التي هددت بوقف التعامل مع الامريكان .ومع ذلك فإن الرفض مسألة مألوفة في عالم التبني وكذلك الحال بالنسبة لسفيتلانا شاشينا "الأم بالتبني" فقد رأت هذا يحدث من قبل.وحين كانت شاشينا وزوجها بصدد تبني ابنتهما ناديا في ملجأ للايتام بموسكو أعادت امرأة روسية أخرى طفلا الى المؤسسة. وقالت شاشينا (35 عاما) فيما كانت ناديا وعمرها عامان ونصف العام تلعب حولها "عدم تحمل المسؤولية لا يعرف جنسيات. مهما كانت الطريقة التي يعاد بها الطفل فانها صدمة هائلة."وتأمل شاشينا ولها ثلاثة اطفال اكبر هي التي أنجبتهم في الا تكون اعادة توري هانسين الممرضة في تينيسي الطفل ارتيوم سافيلييف الذي يبلغ من العمر ثمانية أعوام سببا في تعطيل دائم لتبني الامريكيين لاطفال روس.
ويذكر ان تبنى أجانب معظمهم من الامريكيين اكثر من 60 الف طفل روسي منذ انهيار الشيوعية عام 1991 ادى الى انفتاح روسيا على الغرب عموما. ان حالة الصبي الروسي الذي عاد الى موسكو ركزت الاهتمام على مطبات التبني على الصعيد الدولي. ولكن سورة الغضب طمستها أسئلة جوهرية تتعلق بسببية وجود الكثير من الأيتام ودور الأيتام في روسيا في المقام الأول.
في الأيام الأخيرة، بدأ كبار المسؤولين الروس بالاعتراف بالحالة المضطربة لنظامهم. لقد سلطت رئيسة اللجنة البرلمانية للأسرة والطفل ييلينا ميزولينا الضوء على ما وصفته بأن هناك إحصائية صادمة: روسيا لديها الآن اكثر من 700،000 يتيم، وهي نسبة تفوق من تلك التي كانت في نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما قتل ما يقدر ب 25 مليون مواطن سوفيتي.
وأشارت السيدة ييلينا ميزولينا الى كل الشكاوى المتعلقة بالصبي، أرتيوم سافيليف،الذي أعادته والدته بالتبني في ولاية تينيسي، حيث قالت ان روسيا نفسها لديها الكثير من الخبرة مع تجارب الفشل. وأضافت ان هناك حوالي 30،000 طفل من داخل روسيا تمت إعادتهم في السنوات الثلاث الأخيرة ومن ثم إرسالهم الى المؤسسات من قبل الأسر التي تبنتهم. و قالت: وبالمقابل يسمي المتخصصون مثل هذه الطفرة بـ "كارثة إنسانية" . ومن ثم أشارت إلى أرقام أخرى. ان النسبة المئوية للأطفال الذين يشار إليهم أنهم أيتام هو 4-5 اضعاف في روسيا مما عليه في أوروبا أو الولايات المتحدة. ومن بين هؤلاء، 30 في المائة يعيشون في دور الأيتام. ومعظمهم من الأطفال الذين تم التخلي عنهم من قبل والديهم أو أخذوا من قبل السلطات من منازل لأسر مفككة. وتقدم تعليقاتها شعورا بالإحباط إزاء حالة نظام الأيتام في روسيا، الذي طالما كانت مقاوما لمحاولات الإصلاح.
تجديد النظام يصدم بمعرقلات
وعلى مر السنين، كانت المقترحات للحد من حجم النظام – من خلال إلغاء الوصف المؤسسي الذي حصل قبل عقود في الولايات المتحدة وأماكن أخرى -- قد ذهبت ادراج الرياح. وعلى الرغم من قصص الرعب التي رويت عن دور الأيتام الروسية، يقول خبراء الرعاية الاجتماعية إن الأوضاع في العديد منها ليست مروعة، بل يذهب البعض الى القول بأن اوضاع بعض هذه الدور ممتازة. ان المسألة الأكثر إلحاحا هو تخزين الأطفال الصغار في مرافق واسعة، التي يقول الخبراء عنها يمكن ان تكبح تنميتهم الاجتماعية والفكرية. لكن المدافعين عن هذه النظم يقولون انه، ليس هناك من بديل، الى ان تشخص الحكومة كيفية خفض المشاكل الاجتماعية مثل تعاطي المخدرات والكحول من أجل تحسين حياة الأسرة.
وتقول مدير دار الايتام رقم 11، ليديا سولريفا "سيكون أفضل كثيرا لو لم يكن هناك دور للأيتام، ويكون كل طفل سعيد في أسرته، ولكن اذا كانت هناك أسر سيئة، فمن الأفضل أن يكون الأطفال هنا" .إن التدقيق في النظام الروسي جاء بعد ان استخلص دبلوماسيون روس وأمريكيون قواعد جديدة لعمليات التبني. لقد طالب المسؤولون الروس، الذين غالبا ما يبدو عليهم الحرج لأن بلادهم لا يمكن أن ترعى جميع أبنائها، وإن عليها ان تتخلى عن البعض منهم إلى الأجانب، بإيجاد نظام جديد بعد أن أعيد الطفل أرتيوم.
وقد هددت روسيا بوقف كل التبني من قبل اباء أمريكيين ما لم توافق الولايات المتحدة على معاهدة تقول موسكو انها ستضيف نظاما للعملية وتساعد في حماية الاطفال المولودين في روسيا من التعرض للاساءة على أيدي الاباء الامريكيين الذين يتبنونهم.ومن غير المؤكد ما اذا سيتم تجميد نظام التبني فعلا ام ان الامر لا يعدو كونه كلاما فقط.
لمصلحة من يستمر التبني
في السنوات الأخيرة، تعهدت الحكومة الروسية مرارا وتكرارا بتعزيز الجهود الرامية إلى مساعدة الأسر للبقاء معا، من أجل زيادة عدد الأطفال الذين يتم تبنيهم وكذلك من اجل توسيع العناية للمتبنين. ولكنها لم تحقق نجاحا ملحوظا. في الواقع، في الوقت الذي لدى روسيا نصيبها من المشكلات الاجتماعية، فإن العدد الكبير من الأيتام ينبع في قسم منه من السياسة التي لا تضع قيمة عالية لحفظ العائلات مع بعضها البعض.
ويقول خبراء رعاية الطفل، ان الحكومة الروسية تنفق ما يقرب من 3 مليارات دولار سنويا على دور الأيتام وتقدم تسهيلات مماثلة اخرى، لخلق نظام يشكل مصدرا هاما لفرص العمل والمال على المستوى الإقليمي، وكذلك هدفا للفساد. ونتيجة لذلك، فمن مصلحة المسؤولين الإقليميين ان يتواصل تدفق الأطفال إلى دور الأيتام ومن ثم لا يسمح لهم بالرحيل. وعندما يسمح بالتبني، فإن الأسر، ولاسيما الأسر الأجنبية منها، تضطر لدفع رسوم كبيرة والتنقل عبر بيروقراطية معقدة.
ويقول ل بوريس ألتشولر، رئيس جماعة حقوق الطفل، وهي جماعة مناصرة مقرها موسكو، ويشغل منصب عضو في مجموعة الكرملين الاستشارية: للنظام هدف واحد، هو الحفاظ على نفسه، ويضيف لهذا السبب نجد أن عملية التبني في روسيا مثل الذهاب من خلال دوائر مهلكة، كما إن النظام يريد أن يظل هؤلاء الأطفال أيتام" . وقال انه في عام 2008، تم توصيف 115،000 طفلا في روسيا كمحرومين من الرعاية الأبوية، وعادة ما يتم ترحيلهم من ديارهم من قبل الموظفين الاجتماعيين. ولم يتم اعادة سوى 9000 طفل إلى آبائهم في ذلك العام. وقال: فى الولايات المتحدة، حيث يكون جمع شمل العائلات هو الهدف الأساسي، نجد إن النسبة أعلى من ذلك بكثير.
وذكر مسؤولون أن 13000 طفل قد تم تبنيهم في عام 2008 وكانت حصة الأطفال المتبنين من قبل الروس 9000،اما الأجانب فكانوا 4000 طفل . ويمكن ملاحظة نظام الركود في دار الايتام رقم 11، الذي تضم من 45-50 طفلا. ومعظم الأطفال يعانون من الصعوبات الصحية أو السلوكية، ولكن الموظفين ينتزعون اعجابهم بوسائل اخرى . وفي قاعة للمحاضرات، كانت هناك مجموعة تتمرن على الرقص ارتدوا ازياء تعود الى القرن الثامن عشر، ثم عادوا الى غرفة خلع الملابس ليرتدوا ملابس الفلاحين الروس من اجل أداء رقصة تقليدية. وكان من الصعب ألا يكون هذا الأداء ساحرا, امام من شاهده. وحتى مع ذلك، فإن طفلا واحدا سيتم تبنيه من دار الأيتام هذا العام.
أن حالة الطفل أرتيوم تسببت في البداية في رد فعل قوي، حيث قال بعض الروس ان البلد الذي يتقلص عدد سكانه لا ينبغي مطلقا أن يرسل أطفاله إلى الخارج. ولكن السيدة سولسريفا لا توافق على ذلك. وتقول ان الهدف الأساسي ينبغي أن يكون لتحديد منازل جيدة لهؤلاء الأطفال ويفضل أن تكون في روسيا، ولكن إذا لم يتوفر في روسيا، فليكن في مكان آخر. وتقول:"إن أصعب شيء هو عندما يسأل الطفل:متى تأتي والدتي؟ لذا فإن أفضل لحظة بالنسبة لي هو عندما يغادر الطفل دار الأيتام وهو بصحبة عائلة".
التبني تجارة مربحة!
مع وجود ثغرات في قوانين التبني ووجود أكثر من 700 ألف طفل من اليتامى وممن تخلى عنهم أهلهم يتطلعون إلى منازل تؤويهم باتت روسيا الان أكبر سوق للوسطاء القائمين على إبرام الصفقات المشبوهة أو الاجرامية في مجال تجارة الاطفال مع زبائن أجانب. وقالت رئيسة لجنة الشؤون الاسرية في البرلمان الروسي (الدوما) "يمكننا القول بأن تجارة الاطفال موجودة في روسيا".
وأشارت النائبة إلى أن "انتشار ظاهرة تبني الاجانب (للاطفال) وانتشار الانتهاكات المصاحبة لهذه الظاهرة يزيد من المخاوف" مشيرة إلى أنه بات من السهل التحايل على قوانين التبني بحيث يصعب إيجاد مسؤول عن هذه الخروقات. وتنطوي الظاهرة على دفع كميات طائلة من الاموال بما في ذلك رشاوى قد تزيد على 50 ألف دولار يدفعها الوسطاء للمسؤولين لتسهيل إجراءات التبني. وتقدر السلطات عدد الاطفال الروس الذين تم تبنيهم خلال العقد الماضي بنحو 45 ألف طفل ويذهب الان أكثر من نصف الاطفال الذين يتبناهم أجانب غالبا إلى الولايات المتحدة. وقالت مصادر بالبرلمان ووزارة الداخلية إن المنظمات (العاملة في هذا المجال) تتجه إلى تسهيل إجراءات التبني التي يمكن أن تتكلف عشرات الالاف من الدولارات حتى لو نفذت بصورة مشروعة عبر المحاكم. وقالت رئيسة لجنة الشؤون الاسرية هناك نحو 90 منظمة مسجلة بصفة رسمية في روسيا وأكثر من مئة منظمة أخرى تعمل بصورة غير مشروعة فيما يتحدث مسؤولو الشرطة عن أكثر من 200 شركة أجنبية تقدم خدماتها على الانترنت والمسجل منها 86 فقط. وتقول رئيسة قسم الرعاية الاجتماعية للاطفال بوزارة التربية والعلوم إن 15 ألف طفل فقط من 170 ألف تنطبق عليهم شروط التبني هم الذين يلحقون بأسر. وقد سجلت معدلات التبني داخل روسيا تراجعا إلى نصف ما كانت عليه عام 1994 بسبب الازمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد والنظرة الاجتماعية إلى الايتام في الوقت الذي تزايد فيه بسرعة الطلب الاجنبي على تبني الاطفال الروس. وفي تعليق انفعالي تقليدي على الموضوع انتقد نائب رئيس قسم الامن الاجتماعي بوزارة الداخلية الروسية الاجراءات السريعة للتبني "والتي عن طريقها يؤخذ جنسنا القومي للخارج". وقال مدير فرع مؤسسة كيدسيف الدولية الامريكية الخيرية في موسكو التي عملت سبع سنوات في روسيا للعثور على اسر تتبنى الايتام إنه "سمع كثيرا بمثل هذه الامور". وأشار إلى أن الحديث يكثر في روسيا عن مناهضة التبني الدولي "إلا أنني لم أسمع كثيرا بشأن كيف يمكن زيادة نسبة التبني داخل البلاد". وتتزايد المخاوف التي يفصح المسؤولون الروس عنها بشأن نقص الاحصائيات الرسمية الدقيقة حول الرعاية الاجتماعية للاطفال بمجرد استقرارهم في منازلهم الجديدة في الخارج. وقد أدت حالات إساءة المعاملة بل وحتى موت عدد من الاطفال بعد تعرضهم للايذاء البدني إلى تنامي الدعوات لفرض مزيد من القيود على إجراءات التبني. في الوقت ذاته لا تزال الظروف القاسية مستمرة في عدد من الملاجئ الروسية. وتشير التقديرات على المستوى البعيد إلى ظروف كئيبة تواجه من ينشأون في مؤسسات الدولة ويخرجون للعالم الخارجي في سن 17 عام دون أن يكونوا مؤهلين بصورة كافية لحياة الكبار.
* عن الهيرالد تريبيون