مصر فى مواجهة الفاشية..
علاء الأسواني
ما رأيك فى سعد زغلول ومصطفى النحاس وجمال عبدالناصر؟..أليس هؤلاء زعماءنا العظام الذين ناضلوا طويلا من أجل استقلال مصر وحريتها؟.. لماذا طالبوا جميعا بدولة مدنية ولم يفكروا فى دولة دينية؟.. هل كانوا كفارا أو معادين للإسلام؟!.. بالعكس كانوا مسلمين ملتزمين، حتى إن مصطفى النحاس كان يُضرب به المثل فى التدين. سؤال آخر: هل كان المصريون قبل عقد الثمانينيات أقل إسلاما منهم اليوم؟!.. بالعكس كانوا مسلمين يحافظ معظمهم على الفروض ويتقون الله بقدر استطاعتهم فى كل تصرفاتهم.. المصريون إذن كانوا مسلمين قبل أن تصل الدعوة الوهابية إلى مصر.. ما الفرق بين إسلام المصريين المعتدل وإسلام مشايخ الوهابية؟!.. الفرق أن المصريين جميعا كانوا يرون جوهر الإسلام فى القيم الإنسانية العظيمة التى يدعو إليها: العدل والحرية والمساواة.. لكنهم لم يفكروا قط فى استعمال الإسلام كبرنامج سياسى من أجل الوصول للحكم. يُحكى أن الزعيم أحمد حسين ذهب ليعرض برنامج حزبه «مصر الفتاة» على مصطفى النحاس وما إن قرأ النحاس كلمة الله فى البرنامج حتى غضب، وقال: «لفظ الجلالة أكبر وأعظم من أن يكتب فى برنامج سياسى.. إذا تحدثت عن الله فى برنامج سياسى ستكون دجالاً».
كانت رؤية زعيم الوفد واضحة فى عدم خلط الدين بالسياسة.. المصريون جميعا (باستثناء الإخوان المسلمين) كانوا يتعاملون مع الإسلام باعتباره دينا عظيما وليس برنامجا سياسيا.. منذ نهاية السبعينيات انتشر الإسلام السياسى فى مصر بدعم من أموال النفط الخليجى الذى تضاعف سعره بعد حرب 1973. الإسلام السياسى يستهدف الوصول إلى السلطة بواسطة ثلاث أفكار رئيسية:
أولا: أن هناك مؤامرة غربية استعمارية ضد الإسلام تحتم علينا إعلان الجهاد ضد الغربيين الصليبيين.
وأنا أختلف مع هذه الفكرة، فالأنظمة الغربية استعمارية لكن الشعوب الغربية ليست بالضرورة كذلك، وقد رأينا كيف نظم ملايين الغربيين المظاهرات ضد الحرب على العراق ورأينا كيف ساندوا الثورات العربية. معظم الغربيين كأفراد ليسوا أعداء للإسلام، كما أن النظام الغربى الرسمى لا يعادى الإسلام ذاته لكنه يعادى كل ما يعطل مصالحه. فاذا اتفقت حكومات إسلامية مع مصالح الغرب الاستعمارية فسوف يدعمها بكل قوته مثلما فعل مع الحكومة السعودية والجنرال ضياء الحق فى باكستان وحركة طالبان قبل أن ينقلب الغرب عليها.. الاستعمار الغربى سيعاديك فقط إذا جعلك الإسلام تثور وتطالب بحقوقك التى نهبها، أما إذا كنت متعاونا مع الاستعمار وتحقق مصالحه فسوف يحبك ويدعمك بالرغم من لحيتك وجلبابك وتشددك الدينى.
الفكرة الثانية: أن شرع الله معطل وعلينا أن نقيمه، وإلا فإننا نكون كفارا.. أختلف مع هذه الفكرة لأنه أينما يتحقق العدل والحق فقد تحقق شرع الله ويجب ألا نخلط هنا بين الشريعة والفقه. الشريعة إلهية ثابتة والفقه بشرى متغير. واجب الفقهاء أن يجتهدوا ليجعلوا الدين ملائما للعصر ليساعد الناس فى حياتهم ولا يزيدها صعوبة وتعقيدا.. مثال على ذلك: إذا كانت عقوبة السرقة قطع اليد وإذا وجد الحاكم أن تنفيذ هذه العقوبة سيتسبب فى مشكلات كبرى (كما حدث فى السودان وأدى إلى تقسيمه) أليس من حق الحاكم أن يعتبر قطع اليد الحد الأقصى للعقوبة ويستعمل الحبس كعقوبة أقل؟!.. ألم يبطل سيدنا عمر بن الخطاب عقوبة قطع اليد فى عام المجاعة؟!.. إذا كان هناك قانون لا يخالف الشرع ويحقق العدل ألا يكون مطابقا للشريعة؟!.. أليس كل ما يحقق الخير والعدل للناس يحقق شرع الله؟
الفكرة الثالثة أن الإسلام قد فرض علينا نظاما محددا للحكم ويجب علينا أن نتبعه.. هنا أيضا نختلف، فالإسلام قد حدد مبادئ للحكم ولم يحدد نظاما للحكم.. لنقرأ معاً الخطبة التى ألقاها أبوبكر، رضى الله عنه، عندما تولى الخلافة:
«أما بعد أيها الناس فإنى قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى، الصدق أمانة، والكذب خيانة، الضعيف فيكم قوى عندى حتى أرجع اليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد فى سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة فى قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم».
هذه الخطبة تحتوى على مبادئ الحكم الإسلامى، فالحاكم ليس أفضل من الرعية وهو لا يحكم بالحق الإلهى، وإنما بإرادة الشعب الذى يكون من حقه محاسبة الحاكم وخلعه إذا أراد. هذه مبادئ الحكم فى الإسلام وهى ذاتها مبادئ الديمقراطية: الحرية والمساواة وتداول السلطة وسيادة الشعب.. هذه المبادئ العظيمة لم تتحقق فى التاريخ الإسلامى إلا لفترة قصيرة جدا.. فترة الخلفاء الراشدين الأربعة (منذ عام 11 وحتى عام 40 هجريا) ثم عامين (من 99 وحتى 101 هجريا) حكم خلالهما الخليفة الأموى عمر بن عبدالعزيز.. بعد ذلك تحولت الخلافة الإسلامية إلى ملك عضوض.. اختفت المبادئ العظيمة التى أقرها أبوبكر، رضى الله عنه، وبدأ صراع شرس دموى على السلطة.
هذه حقيقة تاريخية لكنها لا تقلل أبدا من إنجاز الدولة الإسلامية، أولا لأن الحكم الاستبدادى كان السمة الغالبة على كل الدول فى تلك الحقبة، وثانيا لأن الدولة الإسلامية بالرغم من استبدادها المطلق قد صنعت إنجازا حضاريا عظيما وكانت رائدة فى العلوم والفنون جميعا، بينما كانت أوروبا تتخبط فى ظلام الجهل.. لكن اعتزازنا بإنجاز المسلمين القدماء يجب ألا يدفعنا إلى إعادة إنتاج النظام الاستبدادى الذى كان يحكمهم.
هنا يخلط أصحاب الإسلام السياسى بين التاريخ والدين، ويعتبرون الخلافة الإسلامية (وهى اختراع بشرى لم يأمر به الدين) فرضا دينيا.. وقد تكرر هذا الخلط الخطير فى كل البلاد التى استولى فيها الإسلام السياسى على السلطة، حيث نشأ حكم استبدادى راح يعصف بالحريات والحقوق جميعا باسم الدين. إن الديمقراطية هى التطبيق الصحيح لمبادئ الإسلام، لكننا لو حاولنا أن نعيد إنتاج الشكل السياسى للدولة الأموية أو العباسية فسوف نقع فى الاستبداد حتما مهما حسنت نوايانا.
سؤال: حتى لو كنا مختلفين فكريا مع جماعات الإسلام السياسى أليس من حقهم، أن يسعوا إلى الحكم عن طريق الديمقراطية؟!.. الإجابة طبعا من حقهم لكننا هنا يجب أن نميز بين جماعات الإسلام السياسى الديمقراطية وجماعات الفاشية الدينية.. مصطلح الفاشية مشتق من كلمة إيطالية تعنى مجموعة من الصولجانات كان الإمبراطور الرومانى يحملها للتدليل على سلطته. الفاشية الآن تستعمل لوصف أى مذهب سياسى أو دينى يعتقد أتباعه أنهم وحدهم يملكون الحقيقة المطلقة ويسعون لفرض معتقداتهم على الآخرين بالقوة.. للأسف هذا المفهوم للفاشية ينطبق على كثيرين من أنصار الإسلام السياسى، فهم يؤمنون بأنهم وحدهم الذين يمثلون الإسلام ويعتبرون كل من لا يوافقهم رأيهم معاديا للإسلام، وهم على استعداد كامل لأن يفرضوا أفكارهم بالقوة على الآخرين. بل إن تاريخ بعضهم حافل بجرائم الاعتداء على الكنائس والأضرحة وإحراق محال الفيديو ونهب محال الأقباط بل وجرائم قتل راح ضحيتها الرئيس أنور السادات وسياح أجانب ومواطنون مصريون أبرياء.. يكفى أن ترى كيف يتعامل هؤلاء الفاشيون مع الأقباط ومع الوطنيين الليبراليين،
كيف يكرهونهم ويحتقرونهم ويكيلون لهم الشتائم والاتهامات.. كيف يتحدث هؤلاء الفاشيون عما سيفعلونه بمصر إذا وصلوا إلى الحكم: لن تكون هناك موسيقى ولا مسرح ولا سينما ولا أحزاب للمختلفين معهم.. لن تكون هناك سياحة وستتم تغطية الآثار المصرية العظيمة بالشمع.. لن يكون هناك أدب عظيم لأن أحد رموز الفاشية الدينية قال إن نجيب محفوظ (أحد أهم الروائيين فى العالم) مسؤول عن انحلال المصريين الأخلاقى بسبب رواياته الإباحية!!.. الفاشية الدينية تهدد مصر بالإظلام التام وهى تستغل مشاعر المصريين الدينية للوصول إلى الحكم. إذا كنت مرشحا عاديا فسوف تجتهد لإقناع ناخبيك ببرنامجك الانتخابى، أما الفاشية الدينية فهى لا تقدم برنامجا، وإنما تقول للناس إذا كنتم مسلمين فنحن الإسلام وإذا لم تنتخبونا فأنتم علمانيون كافرون...
المشكلة هنا أن الفاشية الدينية ليست صناعة مصرية خالصة وإنما تتدفق عليها أموال النفط الوفيرة.. هناك مقال مهم للسيد كورتين وينزر، وهو دبلوماسى أمريكى كان مبعوثا فى الشرق الأوسط، نشره فى مجلة ميدل إيست مونيتور (عدد يونيو 2007).. ذكر السيد وينزر أنه فى عام 2003 أثناء جلسة استماع فى مجلس الشيوخ تبين أنه «خلال عشرين عاما فقط أنفقت السعودية مبلغ 87 مليار دولار من أجل نشر الوهابية فى العالم».. علينا أن نضيف إلى هذا الرقم ملايين الدولارات المتدفقة من جماعات وهابية غير حكومية تنتشر فى الخليج.. إن الجماعات السلفية الوهابية تنفق الآن ببذخ خيالى من أجل الوصول إلى الحكم، حتى إنها توزع مئات الأطنان من الأغذية بأسعار رمزية، بل إن أحد الأحزاب الوهابية افتتح أكثر من 30 مقرا فى مدينة الإسكندرية وحدها خلال بضعة أشهر.. أليس من حقنا كمصريين أن نعرف من يمول هذه الأحزاب؟.. الغريب أن المجلس العسكرى الذى يتابع بدقة تمويل منظمات المجتمع المدنى لم يفكر مرة واحدة فى فحص تمويل الأحزاب السلفية.. هل يتمتع السلفيون بمنزلة خاصة لدى المجلس العسكرى تجعله يتحرج من فحص مصادر تمويلهم ؟!..
إن الثورة العظيمة التى صنعها المصريون بدمائهم تواجه خطرين.. أولا: مؤامرات فلول النظام السابق من أجل إحداث الفوضى وعرقلة التغيير بأى ثمن حتى تتحول الثورة إلى مجرد انقلاب يكتفى بتغيير رأس السلطة مع الإبقاء على النظام القديم.. الخطر الثانى هو أن يصل الفاشيون إلى الحكم عن طريق الانتخابات.. فإذا كان رأى مشايخ السلفيين المعلن أن الديمقراطية حرام وكفر، وإذا كانوا وقفوا ضد الثورة وحرموا الخروج على الحاكم، فلنا أن نتوقع أنهم يستعملون النظام الديمقراطى باعتباره مجرد سلم إلى السلطة، يصعدون عليه ثم يركلونه حتى لا يستعمله أحد بعدهم. إن مبادئ الإسلام العظيمة لن تتحقق إلا بدولة مدنية حقيقية تتسع لكل المواطنين بغض النظر عن أفكارهم وأديانهم.
الديمقراطية هى الحل
نقلاً عن جريدة المصري اليوم[b]