القنيطرة... مدينة لا يحبها الملك

بقلم : عمر قرطاح

هي حتما مدينة ليست ككل المدن المغربية ، وعلاقتها بسكانها وزوّارها على السواء هي علاقة مرتبكة و إلى حد ما غامضة .. وهي بالأحرى علاقة متناقضة يختلط فيها الحب والتعصب الشديد بالكره المستحكم .. حب له أسبابه الاجتماعية والنفسية وكره له كذلك أسبابه.. وهي على كل حال مدينة يكرهها الملك، كما يظن ذلك أهلها ، ولا يزورها إلا نادرا في زيارات قصيرة ولأغراض محدودة وضيقة ومستعجلة وربما اضطرارية.. كرهها ، كما يقولون ، الحسن الثاني من قبل ، وكانت علاقته بها علاقة عداوة سرية.. وهم يفسرون ذلك الكره الملكي (الشريف) بكونها المدينة التي انطلقت منها حركات التمرد العسكري المتمثل في محاولتي الانقلاب 1971 – 1972 ..ومن قاعدتها الجوية انطلقت الطائرة التي قصفت الملك في الجو وفي أحياءها تجول الجنرال أفقير وهو سكران ينتظر خبر نهاية الملك على أحر من الجمر.. وحتى عندما أراد القدر أن يصلح العلاقة بين المدينة المغضوب عليها وبين ملكها الغاضب في ذكرى عيد الشباب لسنة 1996 عندما قرر الملك الراحل الاحتفال الرسمي بالعيد في المدينة ، و في الوقت الذي سرى بين الناس ارتياح كبير بالزيارة الملكية وانتواءه – كما أشيع وقتها – تسميت المدينة ب "الحسنية" مع ما استتبع ذلك من إشاعات ، صدّقها الناس، تحكي عن تجوال الملك وهو متنكر في أحياء المدينة وسؤاله عن أحوال الناس ومشاكلهم حتى أن بعضهم حكا أن الملك يظهر في أماكن متعددة في نفس اللحظة لما خصه الله به من كرامات ستحل بالمدينة وتنقذها من مصيرها السيئ.. لكن في تلك الأثناء حدثت وقائع ، رغم بساطتها وعفويتها، قطعت حبل الود من جديد بين المدينة وملكها وأنستهم أحلامهم وتوقعاتهم، فقد تداول الناس في ما بينهم أن منظمي مراسيم الاحتفال أجلسوا الملك قبالة أشعة الشمس وقيل أنه تضايق من ذلك بشدة وقيل كذلك أنه خاف من حمامة حطت بالقرب منه وهو يشاهد الاستعراض الذي أقيم في حضرته وبدل من أن يتفاءل بها ويظن أنها حمامة للسلام تسعى في الصلح بينه وبين شعبه القنيطري اغتاظ منها لأنه - ربما- ظن أنها تحمل له تحت أجنحتها مفاجئة غير سارة ، وفي نهاية الاحتفالات بعيد الشباب وصل إلى مسامع أهل المدينة خبر أزعجهم وهو خبر وفاة تلك الفتاة الجميلة الرشيقة التي قامت بالاستعراضات الراقصة أمام الملك والتي أحبها كل من شاهدها في ذلك اليوم وقد أُرجعت أسباب موتها إلى الإرهاق الذي تعرضت له أثناء قيامها بالتداريب مما فجر غضب القنيطريين واستهجانهم من الاستهتار بصحة فنانة وإجهادها حتى الموت إرضاء للملك وأرسل لهم الحدث رسالة مشئومة مفادها أن زيارة الملك تلك لم تنجح ولم تقدم لهم شيء سوى إشاعات وأحلام كاذبة.. وبدافع من كل تلك الوساوس التي شغلت الرأي العام القنيطري حول شعور الملك تجاه مدينتهم جعلهم يفسرون أي إهمال يطال المدينة بأنه إهمال مقصود يراد منه إقصاء المدينة وتركيعها بل ومعاقبتها على ذنب لم ترتكبه .. فيقولون أنه يتم منع أي استثمار من دخول المدينة بما في ذلك إقبار "ميناء القنيطرة" الذي لم يعرف أحد أسباب إهماله وتجميد حركته وهو الذي كان من المنتظر أن يساهم في تنمية المدينة وتنشيط عجلة الاقتصاد فيها.. ويقولون أنه تم جعل المدينة مزبلة للعاصمة الرباط ويعطون أدلة على ذلك كون أن السلطات تقوم باستقدام المختلين عقليا من العاصمة عبر شاحنات كبيرة وتتخلص منهم عند الفجر في المدينة حتى أصبح في كل حي تقريبا من أحياءها مختل أو أكثر يقلقون راحته.. بالإضافة إلى الإهمال الأمني الشيء الذي جعل من المدينة وكرا للمجرمين وقاطعي الطرق.. و يقولون كذلك أن الدولة قتلت أو كادت.. أي تراث أو ثقافة محلية ومنعها من الظهور على الصعيد الوطني بل أكثر من ذلك تم تجفيف المدينة من كل مظهر ثقافي أو حضاري أو علمي أو فني أو رياضي أو سياحي بالتدريج وبدون مبرر مقبول حتى أصبح القنيطري عندما يغادر المدينة إلى وجهة أخرى يخجل أن يقول بأنه قنيطري لنقص يحسه داخله ولم يتم استدراك ذلك النقص إلا مؤخرا.. بمجيء الجيل الجديد من جمهور النادي الرياضي القنيطري الذي أحيى الروح المحلية واتخذ من نبتة "حلالة" التي كانت في وقت من الأوقات تعتبر سبة لسكان المدينة.. فجعل منها رمزا للرجولة والشخصية القنيطرية ..
وهم يقولون فيما بينهم أن الملك الراحل أورث كره المدينة لولي عهده وخليفته من بعده محمد السادس، فكره هو الآخر المدينة وكره زيارتها.. فمنذ توليه العرش وسكان المدينة ينتظرون منه زيارة ملكية تعيد لهم اعتبارهم.. لكنها زيارة أجلت مرارا.. وعندما تمت لم تكن بالشكل الذي أراده أهل المدينة ولا بالقوة التي انتظروها منها..حيث زار الخيرية الإسلامية وقدم بعض المعونات الغذائية في غياب تام لأي احتفال شعبي .. ثم في زيارة أخرى دشن جلالته دار الشباب رحال المسكيني التي كانت قد شهدت انهيارا جزئيا أودى بحياة مجموعة من مرتاديها.. و حتى عندما أراد تدشين المنطقة الصناعية الحرة والدفع بعجلة التنمية المتوقفة منذ أعوام طويلة حتى في هذه المناسبة الكبيرة بكل المقاييس حل بطائرته الخاصة فوق المشروع مباشرة بولاد بورحمة ضواحي القنيطرة ثم غادر دون أن يدخل المدينة و لقاء سكانها..وفسر البعض كل ذلك بأن للملك محمد السادس هو الآخر أسبابه الخاصة به في كره المدينة ، فيرجعون ذلك إلى أن الملك لا يجد في نفسه أي رغبة لزيارة المدينة لأن أهلها أصلا لا يبدون أي حماس لاستقباله ولا يسارعون في الاحتشاد عند طريق مواكبه أثناء زياراته النادرة للمدينة.. بينما يجزم البعض الآخر أن الملك لا يزور المدينة لأن المدينة نفسها تفتقد إلى من يتكلم باسمها ويوصل انتظاراتها إلى السلطة العليا في البلاد ويجدون العذر للملك في الإحجام عن زيارة المدينة لكون أهلها لا يبدلون أي جهد يذكر في تحريك مياهها الراكضة و التسويق لها ولأهميتها الإستراتيجية ثقافيا واقتصاديا وسياحيا..ثم أنهم يقولون أن الملك لا يزور المدينة لأنه غاضب من بعض مسؤوليها ومنتخبيها..أما السبب الأكثر طرافة في موضوع العلاقة الغامضة بين المدينة والملك فهو كما يظن قطاع واسع من مواطنيها أن المدينة في حد ذاتها "منحوسة" وأنها جاذبة للأرواح الشريرة .. لما لا وفي أرضها يتواجد "السجن المركزي" الذي يستقبل أخطر ما عرف المغرب من مجرمين وصناع الشر والرذيلة..لما لا وهي تضم في أحشاءها شهداء سنوات الرصاص وكل ضحايا القمع والتنكيل في عهود الاستعمال وما بعدها..من أجل ذلك هي مدينة – يظن أهلها - طاردة لأي نوع من التعاطف معها أو حتى حبها ولا يتوحد الناس فيها على رأي ولا موقف ولا مشروع جامع..
قد تكون كلها مجرد وساوس لا أساس منطقي لها لكن على كل حال هي أفكار وظنون تروج داخل المدينة ولعل في رواجها وتمكنها من الشعور المحلي سبب يساعد في تصديقها والتعامل على أساسها ..
وكيفما كان الحال فإن هناك خللا ما في علاقة المدينة بالدولة، خاصة وأنها سادس أكبر مدينة مغربية وتمتلك موقعا مهما جدا ولها خصوصية ثقافية جديرة بالاهتمام وقابلة لأن تصبح مركز إشعاع مهم داخل المغرب وخارجه ينافس الم نقل يسبق مدن أخرى كمدينة فاس ومراكش وأكادير... وهو خلل لا يكمن فقط في أن هناك تقصير واضح في الاهتمام بالمدينة وتعزيز مكانتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياحية محليا ووطنيا ، ولا في ذلك النقص المبكي المضحك لوسائل النقل ووسائل الترفيه .. بل يكمن بالأساس في غياب أي إستراتيجية مستقبلية ، لا من طرف السلطة المحلية ولا من المنتخبين ، لتغيير واقع المدينة إلى الأفضل اللهم إلا في الإكثار من مساحاتها المبنية وتبليط متكرر لشوارعها وأزقتها ..وتناحر حزبي في قاعاتها العمومية..
ولعل أهل المدينة صادقون في الاعتقاد كغيرهم من المغاربة أن الزيارات الملكية المتكررة لأي مدينة من المدن والإقامة فيها لبعض الأيام وإطلاق المشاريع فيها وتخصيصه لها بأي مناسبة من المناسبات الوطنية و إقباله على مواطنيها لتحيتهم والسلام عليهم يعتبرون أن ذلك حب من طرف جلالته للمدينة وأهلها وتجديد لروح المودة القائمة بين الملك وشعبه وانطلاقة لتنمية حقيقية لها وأن الإعراض عنها وعن زيارتها وكذا الإقامة في أحضانها هو كره لها وتنقيص من شأنها .