«حبيس» المصعد
العم محمد يقضي يومه داخل سنتيمترات قليلة ولا يخرج إلا للضرورة
القاهرة: محمد فتحي يونس
مثل راهب اقتطع صومعة بين السماء والأرض ليبتهل ويعمل، يقضي العم محمد حسان، ذو الاثنين والسبعين ربيعا، يومه في مصعد برج المهندسين الإداري بشارع جامعة الدول العربية بمنطقة المهندسين. يستيقظ في الخامسة فجرا وبعد صلاة الصبح وتناول لقيمات تسند القلب، يقطع مترجلا ما يقرب من كيلومترين، المسافة بين بيته البسيط بضاحية بولاق الدكرور بالجيزة ومملكته الصغيرة.
في السابعة صباحا يرتدي زي العمل، ثم ينهمك في نوبة تنظيف وتطهير للمصعد، يعقبها رش لبعض العطور والروائح الذكية، أو بعض البخور. ثم تتوالى أمواج تحيات الصباح متلاحقة على ألسنة الموظفين ورواد البرج.. حيث يتدفق الموظفون وأصحاب المصالح على الطوابق الاثنين والعشرين للمبنى حتى الرابعة عصرا موعد انصرافه.
في مصعده تكتسب الحياة أبجدية خاصة، فهو يرى وجوها متكررة لعشر سنوات على الأقل، هي مدة التحاقه بالعمل، ورغم طول العشرة فإن لقاءه برفاقه، لا تتعدى 5 دقائق يوميا، فترة الصعود والهبوط على أقصى تقدير. ومن هنا تُختزل اللغة في دوامة من الابتسامات، يبادر بتوجيهها للداخل إليه، وينال عبرها ثقة الرفاق، وهي ثقة تراكمت عبر سنوات لتمنحه مكانة خازن الأسرار. فهذا موظف ناقم على قرار لرئيسه يزفر غاضبا داخل المصعد، ويفرغ ما في جعبته سريعا ليعاجله حسان بدعوة لإصلاح الحال أو لمسة حانية على كتفيه تخفف من غضبه، وذاك عامل يحمل هموم الدنيا على كاهله لمرض والدته، فيحث حسان زملاءه على تحمل عصبيته وتقصيره.
يقول حسان وهو يشير إلى داخل المصعد: «هذه السنتيمترات القليلة أعتبرها بيتي الأول.. فهي أهم من بيتي الحقيقي لأنها أكل عيشي.. ولولاها ما استمرت الحياة». التحق حسان بالعمل منذ سنوات طويلة، كان في الأصل جزارا بإحدى شركات القطاع العام المصري، وهي شركة «الأهرام للمجمعات الاستهلاكية»، وُسرِّح مع آلاف العمال وفق نظام المعاش المبكر، وهو رقم يقترب من 400 ألف عامل وفق بيانات وزارة التأمينات الاجتماعية في مصر. بعد فقدانه وظيفته رفض الرجل الاعتماد على أولاده، وله اثنان يعملان بوزارات سيادية والآخر أتم شهادته الفنية التجارية، بينما تزوجت بناته الثلاث. ورغم أن مسؤولياته قلّت، فقد رأى أنه قادر على العمل. وهكذا التحق أولا بإحدى شركات الأمن الخاصة، ثم انتقل إلى عمله الحالي منذ عشر سنوات.
لا يخرج حسان من مصعده إلا نادرا، وفي المسافة بين السماء والأرض، يتسم مجتمعه الصغير بملامح مميزة. يحكمه حسان بتعليماته الصارمة حول ضرورة الالتزام بالثقل المتاح وهو خمسة أفراد، وبنظراته الثاقبة التي تلمح بطرف عينه خطرا بالغا كإغلاق الباب على ملابس شخص خرج أغلب جسمه للخارج، فتنطلق يده على الزر لتفتح الباب مرة أخرى لإنقاذ حياته.
على جدران المصعد زحفت ملامح العصر.. فذاك ملصق يحث على الحجاب، سارع بنزعه تنفيذا للتعليمات، وآخر تركه صاحبه في غفلة للإعلان عن شركة لتداول الأوراق المالية فنال مصير سابقه. وهو يفضل مصعده صامتا وليس كبعض المصاعد الجديدة التي تتلو دعاء السفر بمجرد التحرك، أو تلك التي تنادي على الأدوار وأرقامها إلكترونيا.
يقول حسان: «تعلمت في هذا المكان الصبر والصمت.. لا أخرج إلا لقضاء الحاجة، تعودت على «خنقة» الصيف.. ودفء الشتاء داخل الفولاذ.. من الممكن أن تحدث كوارث في الشارع ولا أسمع عنها لو كان الوقت متأخرا نسبيا بعد أن تخف الرجل.. لكن في الصباح تأتيني الأخبار أولا بأول مع كل صاعد.. لا أحاول الإنصات كثيرا. وانشغال بالي بأحوال الخارج لن يفيدني، كما أن تبادل الحديث مع 3 آلاف فرد يوميا أمر تهرب معه راحة البال».
وفي طريق رحلة راحة البال، لا يعير حسان اهتمامه كثيرا لاحتفالات الفوز في مباريات كرة القدم التي يعج بها شارع جامعة الدول، ومرت أحداث كبرى دون أن يتفاعل معها.. ضربت أميركا في 11 سبتمبر (أيلول).. واغتيل الحريري.. واشتبكت مصر كرويا مع الجزائر.. يسمع صياحا سريعا.. وقبل أن يتنبه عقله لما جرى يهرول الصائحون إلى الخارج ولا يغريه الأمر بتتبعه.. يقول: «الفاضي يعمل قاضي، هؤلاء ناس فاضيين، المظاهرات دايما مش تعبير عن الرأي، هي تنفيس عن الغضب، حتى في لحظات الفرح.. كي يكون لك رأي يجب أن تفكر بهدوء وأن تراجع نفسك مرات ومرات».
علّم المصعد حسان الفلسفة نفسها، ومن دون أن يدري أصبح قابعا في وعيه المفردة الشهيرة للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في أحد ديوانه «هذا الزحام لا أحد». فبرغم أن الرضا والتصالح مع النفس صفة مفطورة في شخصية العم حسان، فإنه كل يوم يمارس نوعا من التصالح مع نفسه، ومع البشر، حتى أصبح يرى المصعد وكأنه صندوق الدنيا، «وجود الناس فيه مؤقت وقصير، من الممكن أن يتقابل في محيطه الأعداء والأصدقاء والغرباء، ولذلك يحرص من يتحلى بالطيبة والذكاء على أن يترك أثرا طيبا داخله. يدخل مبتسما، ولا يتكلم إلا بالخير أو بعبارات المجاملة أو يردد الأدعية، أو يفضل الصمت، فيمر خفيفا خفيفا. أما الإنسان السيئ فهو ذاك الشخص الذي يصبح مروره العابر خلال دقائق معدودة وكأنه دهر.. يفتعل مشكلة مع جاره أو يعبث بقلمه على الجدران أو يؤذي الآخرين بتجهمه أو عبوسه أو لسانه السليط».
ومثلما ينتقل المصعد بين أدوار البناية بصبر ودأب، يشدد حسان على أن عمله الحالي هو محطته الأخيرة، لا يفكر في تركها أبدا إلا لو أقعده المرض أو الموت، فيقول: «أشعر أنني موجود ولي دور في الحياة طالما أنا أتنفس داخل تلك الحجرة الضيقة، جربت الراحة بعد سنوات تعاملت فيها مع السكين والدماء، دخلي تحسن كثيرا، ووضعي ثابت، وقانع والحمد لله».
حسان واحد من بين عشرات في طريقهم للانقراض.. فلم تعد البنايات تخصص عمالا لخدمة المصعد، بل يعتمد الآن السكان والزائرون على أنفسهم، في الصعود والهبوط، في ظل تخفيض النفقات وازدياد الوعي ودرجة التعليم، واقتصرت تلك الوظيفة على البنايات التي تضم مستشفيات أو مصالح حكومية أو شركات خاصة. أما العمارات الخاصة فيقوم البواب أو موظف الأمن بالمهمة لو تم الاحتياج لتدخله.
يضحك حسان كثيرا وأنا أذكره برائعة المخرج صلاح أبو سيف السينمائية «بين السما والأرض» التي كتبها السيد بدير وأنتجت عام 1959، وجسدت مأساة مجموعة من الأشخاص ظلوا معلقين داخل المصعد لساعات بعد انقطاع التيار الكهربائي، ثم أنقذتهم الشرطة، وتم إنزالهم عبر سلالم المطافئ المتحركة الطويلة بعد ثقب جداران العمارة. وخلال مدة الاحتجاز تتغير النفوس وتتعرى من تزاويقها، فيقول: «كان أولادي خائفين للغاية من الصورة السائدة للمصعد، وأعطاله ومخاطره.. لكنني كنت سعيدا للغاية فأنا إنسان قدري.. وأؤمن بالمكتوب.. كما أنه في ظل التقدم تقل الخطورة.. وكثيرا ما انقطع التيار الكهربائي وأنا داخل المصعد لكن المولدات الحديثة تدور فورا، ويتحرك كما كان.. وما زلت أضحك كلما شاهدت هذا الفيلم، فهو تحفة وفيه حشد من نجوم الزمن الجميل».
لكن رغم اطمئنان حسان لعدم غدر المصاعد، وإلمامه بأسرار ترويضها فإن أخبار حوادثها المؤلمة والمتناثرة على أوراق صحف الصباح بشكل شبه دوري كفيلة بإثارة الهلع.. ففي مدينة المنصورة بشمال مصر وبالتحديد منطقة توريل الراقية، لقي فتى توصيل يعمل في صيدلية كبرى مصرعه هاويا في بئر المصعد بعد انفتاح الباب على الفراغ.. وبالطريقة نفسها وفي مبنى لا يبعد أمتارا على الحادثة الأولى، لقي طفل صغير مصرعه. وفي منطقة ميت غمر بالدقهلية لقيت خادمة مصرعها بعد سقوطها من الدور الخامس عند فتحها لباب المصعد. وفي بورسعيد شمال قناة السويس، توفي موظف بمصلحة السجون في سبتمبر (أيلول) الماضي متأثرا بنزيف وكسور جراء سقوطه من أعلى في بئر المصعد أيضا.
وثارت قبل سنوات ضجة كبرى عند فقدان مصر لعالم وطبيب متخصص في أمراض الكبد هو الدكتور فؤاد ثاقب بعد سقوطه من الدور الثاني والعشرين في بيته بضاحية المعادي بجنوب القاهرة لخطأ شبيه بما سبق.
ومن بين فصول المصعد تسببه في إلغاء مؤتمر صحافي على هامش مباراة لكرة القدم بين فريقي الزمالك والجونة بالدوري العام المصري، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لتعطله، ورفْض مدربي الفريقين استخدام السلالم للوصول إلى المركز الصحافي باستاد القاهرة الدولي. يطل المصعد بقوة بين مفردات الحياة الحديثة كمسرح لأحداث غريبة.. فهو مكان لاقتطاع بعض لحظات الغرام المتفاوتة بين الهمس واللمس.. مثلما كشف فيلم حمل عنوان «الأسانسير» وأنتجته شركة «سمات» بنظام الديجيتال أواخر عام 2005.. وثارت ضجة كبيرة في مصر اتهمت أصحاب الفيلم بالإساءة للإسلام لأن بطلة الفيلم خلعت الحجاب خلال الأحداث مع تلقيها مكالمة من شاب أثناء عزلتها داخل المصعد.. وحملت بعض الاتهامات تلميحات طائفية لأن مخرجة العمل وبطلته هديل نظمي وشريف سامي اتهمتهما بعض الأقلام المتعصبة أنهما مسيحيان يسيئان للإسلام.
بنبرة ثقة ينفي حسان حدوث أي تجاوز في مصعده، ويقول: «المكان يحتوي على إدارة أمن قوية.. تفحص الداخل والخارج.. وأنا لا أخرج من مكاني.. ولا توجد فرصة للخطأ.. أعرف رواد المصعد أغلبهم بحكم العشرة.. كما أعرف كيف أحافظ على بيتي».
كوّن محمد حسان صداقات وطيدة داخل المؤسسة.. يجمع الكل على حبه بحسب علي، زميله في أمن البرج.. فهم لا يرون إلا ابتساماته، كما يقترن ظهوره براحتهم، بحسب إبراهيم، وهو موظف بشركة عقارات في منتصف الخمسينات من عمره. يقول إبراهيم: «هناك علاقة كبيرة بين المهنة وصلة الإنسان بها.. وينعكس ذلك على من يعمل بها.. فموظف الخزينة على سبيل المثال محل راحة نفسية للجميع لأن ظهوره أمامهم، مقترن في الأغلب بحصد الأموال آخر الشهر، فيريح الجميع نفسيا.. وكذلك حسان ظهوره مقرون بالراحة، فمن بين آلاف الركاب من هو مصاب بالقلب، وبأمراض أخرى، لا تسمح حالتهم الصحية بصعود الدرج».
عاصر حسان تغير أبجديات الحياة وصبغها بحداثته الخاصة.. حتى أصبح من الصعب عليه الآن أن يستمع لأغنية تتغزل في امرأة تخطو الدرج بدلال تقول كلماتها: طالعة السلالم يا ماشا الله عليها.. ست العرايس والعريس في إيديها».. كما غنت شريفة فاضل، وتوارت أغاني السلم فاختفت نغمات الثلاثي المرح وهم يصدحون بأغنيتهم الشهيرة «العتبة جزاز والسلم نايلو في نايلو». واللافت أنه مع تراجع أغاني السلم والتي راجت في عقود كثيرة من القرن الماضي، لم تظهر بعد أغان للمصعد.. يعلق حسان على ذلك مشبها المصعد بأغنية جماعية، تستعصي على أن تكون لمؤلف واحد، فجميع البشر، بروائحهم، بأفراحهم وأتراحهم، يعزفون هذه الأغنية عشرات المرات يوميا، كلٌ على وتره الخاص، وبحسب رأيه «الودن حنَّانة، وبتعشق الأصيل». لا تفارق عينا حسان لوحة المصعد وبابه.. ومن هنا اكتسب مهارة التعرف على رفاقه بالشم قبل أن يحوِّل عينيه إليهم.. وعبر استشعاره يقدر شريحتهم الاجتماعية حسب الرائحة.. وهي ليست على الدوام ذكية كما قال، وقد اعترف وهو يخفي خجله أن «الحكاية كلها دقائق معدودة.. وسترحل كل الروائح بحلوها ومرها سريعا بمجرد النزول».
طبق حسان الطائر لا يخلو من الضحك.. فهو وقوده لاستكمال صعوده وهبوطه.. يداعبه أصدقاؤه صباحا بلمعان صلعته «التي لمعها مع أركان المصعد»، بحسب قفشاتهم، كما يزوده المقربون منه بالجديد من نكت المصاعد، فيقول له أحدهم إن مسطولا سأل زميله عن سر بطء المصعد فرد الآخر «يظهر طالع على السلم»!