سجناء الجن بالمغرب: محامون يترافعون أما محاكم غيبية لإنقاذ الإنس من "بطش" الجن
المشهد
محامون يترافعون أما محاكم غيبية لإنقاذ الإنس من "بطش" الجن وآخرون محكومون بأزيد من 20 سنة في "بويا عمر"
لكل سجين حكاية، تفاصيلها قد تكون مرتبطة بالمال، أو المرأة، أو التهور، إلا أن السطور الأخيرة منها تكتب خلف القضبان. لكن ماذا لو كان هناك سجناء لم يرتكبوا أية جناية أو مخالفة في قاموس القانون الوضعي، إلا أنهم يجدون أنفسهم محبوسين لأزيد من 20 أو 30 سنة، دون أن تكون هناك ضحية أو حتى دون خضوعهم للمحاكمة في أيه هيئة قضائية على وجه الأرض.
فهل خان الذكاء حتى شهرزاد لتنسى رواية هذه القصص، بعد أن سردت كل الحكايات، أم أنها لم تنهل من خزانة المعتقدات في المغرب، حيث سلط سيف "العقاب" على رقاب لا تعرف حتى ما هو الذنب الذي ارتكبته، سوى أنها استيقظت على حكايات سكتت فيها شهرزاد عن الكلام.
منطقة غارقة في البؤس
"بويا عمر"، أشهر الأولياء الصالحين بالمغرب، يقع ضريحه على بعد 30 كيلومترا من قلعة السراغنة، وعلى مسافة 11 كيلومترا من مركز العطاوية.
يوجد الضريح على ضفة نهر تساوت، وهو قبلة للعلاج شهيرة، وأيضا رحم خصبة لتناسل الأساطير.
قبل أن أخوض تجربة إنجاز روبورطاج عن أكبر مشفى عقلي شعبي في المغرب، قررت أن أضع عقلي جانبا للبحث في علاقة الإنس بالجن، وكيف تفض النزاعات بينهما وأين؟!
قادني بحثي في عالم الأساطير، الذي تقول إحدى حكاياته أنه اجتمع في زمن غابر "ديوان الصالحين"، المؤلف من 44 وليا من كبار أولياء المملكة، لكي يوزعوا بينهم التخصصات والكرامات، فاستقر قرارهم بإجماع "الديوان"، على أن يمنحوا لواحد منهم، هو الولي "بويا عمر" مطلق السلطات على قبائل الجان، وفوضوا إليه المهام الشاقة المرتبطة بالفصل في النزاعات والصدامات التي تحدث بين عالمي الإنس والجان منذ بدء الخليقة وإلى أن يشاء الله، فكان اجتماع ديوان الصالحين ذاك، إعلام نشأة محكمة الجان الكبرى، التي تعقد في صحن الضريح.
بعد أن ارتسمت لي هذه الصورة الخيالية في ذهني، توجهت رأسا إلى ضريح بويا عمر، حيث تعلو قبة بيضاء المكان، وتتوسط المباني الطينية والقصديرية.
وما إن وضعت قدمي بالمكان حتى لاحت أما عيني علامات تدل على أن المنطقة غارقة في البؤس، إذ البنية التحتية تبدو منعدمة، والأزقة في حالة يرثى لها، لكن كل هذا ليس مهما، لأن الأسوأ هو الذي سنراه عندما نقترب من الضريح.
أنا محكوم ولا يمكنني المغادرة
شباب ونساء مسنات يجوبون أزقة "الدوار" بأجساد هزيلة، وثياب رثة تغطي ما تيسر من أجسادهم. يستجدون كل زائر، بعد أن أوصلتهم الحاجة إلى عتبات الجنون.
"راه حنا دايزة فينا الصدقة... شري لينا غير خبزة، أو حوتة.. أو غير مانطا راه قتلنا البرد". كانت هذه جملة من العبارات، التي كان يرددها هؤلاء النزلاء، الذين تحلق بعضهم حولي، دون أن تستقر نظراتهم تجاهين أو في أي مكان محدد، وكأنهم تائهون، ويبحثون عم مخرج لمأساتهم.
سمحمد (ر)، واحد من هؤلاء الشباب الذين أتت بهم عائلاتهم إلى الضريح، بعد أن كان يدخل معهم في صراع دائم.
فقبل 20 سنة، أحضره أخوه من أبي الجعد (مسقط رأسه) إلى الضريح، بدعوى أنه مسكون بالجن، وتركه هناك دون أن يعود للسؤال عنه، أو أن يعرف ما حل به.
منذ ذلك التاريخ، وسمحمد يعيش على ما يجود به زوار الضريح، بعد أن "حذف" من قاموس العائلة، التي يبدو أنها نسيت أية رابطة دم تجمعها به.
رغم كل هذا لم تفارق الابتسامة فاه سمحمد، الذي لم يكن يريد أي شيء سوى أن يحصل على "صندالة" من النوع الرخيث، ليتخلى عن أخريتين لا تحميان سوى جزء من قدميه، إذ لا يربط بينهما أي وجه شبه.
هذه الوضعية المزرية، وسنوات الغياب الطريلة، لم تكن كلها حافزا في جعل سمحمد يغادر الضريح، إذ ما إن سألته عن سبب عدم ذهابه إلى مدينته لرؤية العائلة، حتى رد يعفوية "منقدرش... راني محكوم... هاذ لبلاصة ميمكنش ليا نفوتها. راني 20 عام وأنا هنا... ميمكنش ليا ميمكنش".
وليست هذه أطول مدة قضاها سجين في محاكم الجن، إذ يحكي أحد سكان المنطقة أن شخصا قضى حوالي 50 سنة في الضريح، ما جعله يعمل في حقول الزيتون، ويتزوج في المنطقة، ويقضي بقية حياته هناك.
قبل أن يكسر "مسجون" الحديث، وهو يردد "أمي لاحتني هنا ومشات، باش تتبرع مع راسها مع زوجها الجديد... ثم أطلق العنان لضحكة مدوية، وغادر المكان".
لم يكن المشهد داخل الضريح أحسن حالا مما رأيته في الخارج، إذ أن أول ما يصادفك عندما تطأ قدماك المكان أشخاص مربوطون بسلاسل وأغلال يصعب تكسيرها، إلى جاني آخرين يدورون بأقدام حافية حول ضريح السيد، ويطلقون أصواتا غريبة يصعب فهمها.
كما يوجد بداخل وبجوار الضريح غرف ينزل فيها مجموعة من المرضى، ال1ين وضعتهم عائلاتهم هناك، وترسل في كل شهر المبلغ المالي، الذي يجري تحديده لاستضافتهم، حتى تنتهي فترة علاجهم.
وهناك صنفان من المقيمين في ضيافة "الوالي بويا عمر"، الأول ينتظر أن تبث المحكمة الكبرى في "ملفه" مع الجني الذي "يلبسه"، وقد تطول فترة الانتظار أو تقصر، والصنف الثاني هم أولئك الذين صدر في حقهم حكم يقضي ببقائهم في جوار الضريح، لأشهر عديدة أو لسنوات.
محامون في محاكم الجن
عندما وضعت عقلي جانبا، قبل أن أتوجه إلى "بويا عمر" لم أكن الوحيد الذي قام بذلك، إذ أن كبيبات، ومسؤولين في أجهزة أمنية، وهندسات، معلمات وغيرهم، قاموا بالشيء نفسه، قبل أن يدخلوا عالم "محاكم الجن"، في محاولة للحصول على حقهم، وإنهاء "العلاقة السيئة"، التي تربطهم بالمعتدي عليهم من العالم الآخر، حسب تعبيرهم.
فهؤلاء اختاروا الطريقة "السليمة"، بحسب اعتقادهم، للتخلص من الجن دون التعرض للأذى أو دون أن ينضاف إلى قائمة "سجناء الجن" في بويا عمر. وهذه حكاية أخرى.
وتتمثل هذه الطريقة في البحث عن محام كفؤ للترافع عن ملفهم في المحاكم الغيبية للجن، التي يوجد فيها قضاة بدورهم قضاة وحرس!. وتعمل الأسر على البحث عن فقيه يكون ملما بهذا العالم، حتى يتجنب المريض الأسر.
يقول فقيه، رفض الكشف عن اسنه أو حتى المكان الذي التقيناه فيه، "يتردد علي شخصيات من مختلف الفئات، بعضها وصل درجات عالية في العلم، وآخرون يتقلدون مناصب مهمة، في محاولة لأخذ حقهم من الجن".
وتبدأ عملية العلاج، يضيف الفقيه، "بالقيام بعمليات غيبية، باعتماد طريقة خاصة، في محاولة لإبطال السحر وفك الرصد، قبل انطلاق أولى جلسات المحاكمة، التي يمكن أن تستمر لشهور طويلة"، مشيرا إلى أن "هذه العملية الغرض منها تدمير الوثيقة، التي على إثرها ملك الجني ذلك الإنسي".
وفيما كان الفقيه يشرح لنا طريقة عمله، كانت موظفة في إحدى أجهزة الدولة تجلس القرفصاء أمامه، وتخضع لإحدى جلسات العلاج، وعقلها يعجز عن تصديق ما تعيشه.
لكن الأمر الذي كان أكثر غرابة بالنسبة لها، هو أنه جرى تعيين جلسة لها في ضريح "الولي الصالح مولاي بوشعيب" في أزمور، لانتظار صدور الحكم في حق الجن الذي يلبسها.
إلا أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، يؤكد الفقيه، فقد تكون هذه الجلسة أول حلقة في سلسلة من الجلسات، التي قد تعقد مستقبلا في أضرحة عدد من الأولياء الصالحين.
ويشرح الفقيه أن "نوع الحالات التي تكون محكومة في بويا عملا، قد تكون تعرضت للسحر، الذي هو عبارة عن اسم (أي روح)، التي ترصد على ذلك الإنسان، فيملكه الجن، وعندما يذهب المريض إلى الضريح، حيث توجد محكمة بها قضاة يفصلون بين الجن والإنس، يجري سجن الجن في هذه المحكمة، وبالتالي يسجن معه المريض، لأن الجن هو أيضا، يطالب بحقه، لهذا لا يتمكن المريض من المغادرة... ف"الرصد" هو الذي يسجن الشخص".
وأضاف أن "المحكوم يمكن أن يغادر الضريح، بعد أن يفصل في الملف، وفي حالة عدم حدوث ذلك يمكن أن يحصل على الإذن بالجلوس قرب الولي، وبعدها يتضرع إلى الله حتى يحصل على رخصة لمدة ثلاثة أيام ليرى فيها الأسرة، ثم يعود. وإذا لم يعد في الوقت المحدد فسيمرض"."
"بويا عمر" أمي حتى الأربعين
تشير الروايات إلى أن "بويا عمر" قد يكون ولد، خلال العقدين الأخيرين من القرن 16 الميلادي.
وبقي "بويا عمر" أميا إلى حدود سن الأربعين، ثم شد الرحال إلى زاوية تامكروت الناصرية على ضفاف نهر درعة، وهناك تتلمذ على يد مؤسسها سيدي محمد بن ابراهيم الأنصاري، وراكم من الكرامات، ما جعل شيخه يورثه "دربالته" (أي لباسه الزاهد المرقع) المحملة ببركته.
وأظهر هذا الزلي الصالح في طلب العلم نبوغا غير مسبوق، بحيث استوعب من علوم الباطن والظاهر وأصول الدين، خلال شهر واحد، ما يكتسبه غيره من طلاب العلم بالزاوية الناصرية في أربعين عاما من الكد والجد.
وبعد وفاة سيدي محمد بن ابراهيم، تولى من بعده خلفه سيدي امحمد بن ناصر أمور الزاوية، ومنها مهمة تدريس بويا عمر، فانبهر الشيخ الجديد مثل والده المتوفى بتفوق "الطالب" القادم من ضفاف تساوت، على باقي زملائه البالغ عددهم 1400 فمنحه "إجازة" تخول له أن يقيم زاوية يعلم فيها القرآن للجن والإنس.
عبد الباري الزمزمي
الشفاء من المس وهم
هذا الأمر شائع في المغرب، وهي من مظاهر الجاهلية الأولى. وفي التاريخ القديم، هذه المظاهر كانت عند المغاربة حتى قبل الإسلام.
وهي تسربت إلى المملكة، بعد الإسلام، خاصة في صفوف المغاربة الذين يجهلون حقيقة الدين، إذ أنهم يلجؤون إلى هذه المظاهر الجاهلية، طلبا للشفاء، وهي ليست فيها لا شفاء ولا غيره، بل هي مجرد خرافة وشعوذة.
والشفاء من مس الجن بهذه الطريقة ليس سوى مجرد وهم، فهذه الأمراض لها علاجها الطبيعي، إما بالأدوية إذا كان مرضا نفسيا، وإما بالرقية الشرعية وبالقرآن والدعاء، إذا كان الأمر يتعلق بالمس.
وأن تعذب الإنسان، وتربطه بسلاسل، فهذا أعتبره عقوبة دون جريمة. وهذه الأساليب كانت حتى عند المسيحيين في أوروبا، إذ أنهم كانوا يرجعون جميع الأمراض إلى الجن، ويعالجون المرضى بالتقيد وغيرها من الأساليب المعتمدة في الجاهلية.
سعد الدين العثماني
يجب توعية أسر المرضى النفسيين
يجب على المغرب أن يواجه ظاهرة الأمراض النفسية بأحدث ما تملكه البشرية، وأحدث ما أبدعه العلم.
اليوم، لدينا إمكانيات واسعة لم تكن متوفرة منذ 60سنة في معالجة الأمراض النفسية. وهذه الإمكانيات تتطور. زمن غير المعقول أن نستمر في التعامل مع المرض النفسي بأساليب، من وجهة غير علمية، ومن وجهة ثانية، في بعض الأحيان تكون مهين لكرامة الإنسان.
وهذا يحتاج، أولا، إلى توعية أسر المرضى النفسيين، والمرضى أنفسهم، بالإمكانات المتاحة لعلاجهم. إلى جانب توعية المجتمع بطريقة التعامل مع المرض النفسي، عموما، ثم تغيير البنيات الصحية في مجال الطب النفسي، لأن البنيات الموجودة اليوم، لا تستوعب حاجيات المجتمع المتزايدة.
فالدار البيضاء، مثلا، التي يفوق عدد سكانها 4 ملايين نسمة، لا تتوفر إلا على أقل من 200 سرير للتكفل بالمرضى النفسيين، أي أقل بكثير من الحاجيات الحقيقية.
كما أن عدد الأطباء النفسيين في المغرب قليل، وهو بعيد عن المعايير الدولية، إلى جانب أن بعض التخصصات النفسية غير موجودة بالشكل المطلوب، وتكوين المعالجين النفسيين محدود، وعددهم هزيل جدا.