في ظل عجز ترسانة الرقابة وهيمنة البارونات
كامل
الشيرازي من الجزائر
|
تجدد مواجهات انتفاضة الغذاء في الجزائر |
ترتفع الأصوات في الجزائر مطالبة بتوخي
حلول اقتصادية ناجعة لأزمة الأسعار الناشبة في البلاد، بعد الارتفاعات القياسية
التي دفعت المستهلكين إلى التظاهر ردًا على ما يرونه عجزًا في ترسانة الرقابة
وهيمنة من يسمونهم "البارونات". يذهب خبراء تحدثوا لـ"إيلاف" إلى حتمية معالجة
المشكلة من جذورها، عبر تحييد مجموعة من "المتحكمين داخليا" لضمان منظومة تجارية
تحافظ على هوامش الربح المعقولة وتسقف أسعار المواد الأساسية ذات الاستهلاك
الواسع.
الجزائر: يرى الخبير الاقتصادي عبد الرحمن مبتول أنّ أفضل طريقة
لمنع تكرار سيناريو الزيادات المثيرة يكون بتحصين السوق ضدّ ما تنسجه أطراف خفية
تعمل على خلق أسباب معينة لإبقائه في اضطراب كبير بمعزل عن أي رقابة. يتقاطع تصريح
مبتول مع أكثرية الجزائريين الذين لا يفهمون كيف تعيش بلادهم السيناريوهات نفسها
منذ سنوات عديدة، رغم كل ما تتغنى به السلطات والإعلام الحكومي من مخططات ومنجزات،
والتباهي الذي يحرص مسؤولون حكوميون على اجتراره بمناسبة أو بغيرها.
وبينما يصرّ خبراء على وجود تلاعب بأسعار
المنتجات من طرف من ينعتونهم بـ"السماسرة" وفئة "الوسطاء"، يسجل مبتول أنّ إعادة
بورصة العرض إلى مستواها العادي، والحيلولة دون تكرار زيادة أسعار المنتجات
الزراعية الطازجة والمواد نصف المصنّعة وغيرها، يكون بإقرار تغييرات اقتصادية
جذرية، وتنظيم السوق المحلية عبر توضيح أطر العلاقة بين المنتج والمستهلك، ما يضمن
دعم قاطرة الانفتاح الاقتصادي الذي تشهده الجزائر حاليًا.
بدوره يشدد سليم لعجايلية على ضرورة ضبط سيرورة
الأسواق، وضمان توازن بين العرض والطلب، وإيقاف الممارسات التجارية غير السليمة
والمضرّة بالقدرة الشرائية لمواطنيه، إلى جانب وقف الاتساع النقدي المبالغ فيه، ما
يمثل بمنظاره خطرًا أكيدًا على استقرار الاقتصاد الكلي.
من جهته، يربط محمد فرحات ارتفاع أسعار المواد
الأساسية بعدم صرامة بلاده في تطبيق الرقابة وتنفيذ القوانين، وينفي فرحات تبريرات
الحكومة وحديثها عن خضوع الأسواق المحلية لحركة الأسعار الدولية، موجهًا أصابع
الاتهام إلى "مجموعة من المتحكمين داخليًا".
ويدرك الجميع أنّ الاختلالات يتسبب فيها كبار
التجار، وكذا من يُطلق عليهم محليا مسمى "البارونات"، وهم مجموعة من المورّدين
الذين يحتكرون غالبية ما تسوقه البلاد من المواد الواسعة الاستهلاك، ويشدّد قاسم
قوادري على أنّه ما لم يتعاط أهل الحلّ والعقد مع هؤلاء بحزم، فإنّ الأمور ستبقى
على حالها، طالما أنهم يتموقعون كمسقفين حقيقيين للأسعار.
وهو ما يؤيده فيه نبيل مصطفاوي بقوله إنّ
العبرة بتشخيص حقيقي للمرض المزمن الذي يعانيه القطاع التجاري المحلي، وذلك يقتضي
استئصال الأورام، على حد تعبيره، وإلاّ فإنّ الانحراف ماض، وآلته الميدانية هم
المضاربون، وما يُعرف بفئة "الوسطاء".
ويستدل متابعون بتأكيدات الديوان المهني للحبوب
على أنّ ندرة القمح اللين لا مبرر لها، بما أن كميات القمح اللين المسحوبة ارتفعت
بشكل كبير، وهي مرتبطة بتصرفات بعض المحولين الذين باعوا قمحهم للمربين لتغذية
مواشيهم. ويقترح فرحات وجوب التعاطي بحزم مع قضية جودة السلع الاستهلاكية ومنطقية
أسعارها ومساعدة المستهلكين على اختيار ما يناسبهم، إلى جانب تمكينهم من حقهم في
التغذية وسائر الخدمات اللازمة، لا سيما بعد الكشف عن معاناة 85 % من الجزائريين من
سوء التغذية نتيجة تدهور قدرتهم الشرائية بنسبة تفوق 55 % خلال الـ20 سنة
الماضية.
في أعقاب الارتفاع المتسارع في أسعار المواد
الغذائية وما أفرزه ذلك من وضع استثنائي كانت له تبعات محسوسة على مواطنيه، أقرّ
مصطفى بن بادة وزير التجارة الجزائري، بأنّ الآليات القانونية وحدها لا تكفي، وهو
ما يتطلب استكمالها بوسائل أخرى كتنظيم شبكة التوزيع وتعزيز شبكة أسواق الجملة،
وإنشاء مؤسسة مركزية تعنى بتسيير الفضاءات التجارية الكبرى.
وعليه، كشف المسؤول الأول عن قطاع التجارة في
الجزائر عن انعقاد مجلس وزاري هذا السبت لدراسة وسائل التحكم في الارتفاع الكبير
لأسعار بعض المنتجات ذات الاستهلاك الواسع، ودراسة النصوص التطبيقية للقوانين
المتعلقة بالمنافسة والممارسات التجارية، لا سيما الشق المتعلق بهوامش الربح لمواد
أساسية، كالسكر والزيت والقمح بنوعيه والحبوب.
وفيما طمأن بن بادة جمهور المستهلكين إلى أنّ
مصالحه بدأت التحكم في الأزمة، متوقعًا بوادر انفراجها ابتداء من الأسبوع المقبل،
تتراوح ارتفاعات الأسعار حاليًا بين 20 و30 %، وسط شائعات عن رفع متجدد للأسعار
وندرة في بعض المواد، في وقت التزم ناشطو فروع الصناعة الغذائية خلال لقاء مع
مسؤولي وزارة التجارة بتصفية الوضع بسرعة وضمان تموين السوق الوطنية مع الحفاظ على
القدرة الشرائية للمستهلك.
وتشدد مراجع وزارة التجارة على أنّ إشكال
ارتفاع الأسعار غير مفصول عن شروط التموين بالمنتجات ذات الاستهلاك الواسع التي تم
فرضها على تجار الجملة والتجزئة في الجزائر، كإلزام البائعين بالتجزئة بدفع وثائق
حول نشاطاتهم لا سيما السجلات التجارية والشراء بالفواتير وحصيلة الحسابات وكذا
استعمال الصكوك لدفع مستحقات البضائع، بيد أنّ الوزير طلب من المنتجين والمورّدين
لمادتي الزيت والسكر إلغاء كل هذه الشروط.
وتضيف المراجع عينها أنّ الزيادات القياسية
أتت في إطار وضع دولي تميز بارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية في الأسواق
الدولية، على منوال ما أعلنته منظمة التغذية العالمية، حيث ارتفع مؤشر 55 منتجًا
غذائيًا أساسياً في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي للشهر السادس على التوالي، وشمل
كلا من السكر والحبوب والزيوت ومشتقاتها.
وجاء في مذكرة لوزارة التجارة أنّ المواد ذات
الاستهلاك الواسع ستبقى مدعومة من طرف الدولة في إطار سياستها لدعم الطبقات
الاجتماعية المعوزة، ولمواجهة ارتفاع الأسعار، ستعمل الوزارة على الإصدار السريع
للنصوص التطبيقية المتعلقة بقانون المنافسة والممارسات التجارية من خلال تسقيف
الأسعار وتحديد هوامش الربح للمواد ذات الاستهلاك الواسع.
كما تمّ الإعلان عن إنشاء مؤسسة مكلفة بإنجاز
وتسيير أسواق الجملة من أجل توخي قدر أكبر من التنظيم ومراقبة شبكات التوزيع ضمن
جملة تدابير تهدف إلى تأطير النشاطات التجارية ومحاربة الغش والمضاربة.
ويتوجّس الجزائريون من تجدد معايشتهم "حرب
أعصاب يومية" كتلك التي أربكتهم رمضان الماضي والفترة التي أعقبته، طالما أنّ
المضاربة بألوانها اشتدت في أسواق الجزائر، ومعها احتدمت فوضى الأسعار، ما دفع
مراقبين للتحذير من تبعات محسوسة تلقي بظلالها على اقتصاد البلد المنهك بالتقلبات
منذ النصف الثاني من العام الماضي.
وتحذر قوى المعارضة من اتجاه الجبهة الاجتماعية
نحو الانفجار، وتخشى احتمال حدوث "غليان شعبي" في ظلّ هزال القدرة الشرائية والأزمة
المعيشية المستفحلة، خصوصًا مع تصدّي بارونات السوق وتجار السوق الموازية لكل
إجراءات الحكومة، ما معناه مواصلة الارتفاع الفاحش إرهاق ميزانيات الجزائريين إلى
غاية وضع حد للسمسرة وتوابعها.