الجغرافيا المتقلصة للسودان
محمد سيد رصاص *
شكَّل الخارجُ السودان بحدوده الجغرافية التي كانت يوم استقلاله في 1 كانون الثاني (يناير) 1956: أولاً محمد علي باشا بين عامي 1821 و1822، ثم الإنكليز (في فترة الحكم الثنائي الإنكليزي - المصري للسودان منذ عام 1899) في 1916 حين استولوا على سلطنة دارفور بعد أن أعلن سلطانها استجابته، متأثراً بسنوسيي ليبيا، لدعوة «الجهاد» التي أطلقها العثمانيون الذين كانوا في الطرف الآخر المضاد للندن في الحرب العالمية الأولى.
خلقت هذه الآلية الخارجية للتأسيس الجغرافي استجابات متباينة من عناصر الداخل السوداني، ليس فقط تجاه الخارج الذي كان بالنسبة إليهم متعدداً وتباينت مواقفهم تجاه عناصره، وإنما كذلك في نظرة عناصر الداخل السوداني بعضها إلى بعض.
حكمت هذه الحالة تاريخ السودان طوال 190 عاماً، منذ غزو محمد علي باشا للحوض الجنوبي للنيل المصري وحتى يومنا هذا: ظهرت هذه الحالة، أولاً، في الثورة المهدية ضد الحكم المصري - التركي في آب (اغسطس) 1881-1882، ثم بعد احتلال الإنكليز لمصر إثر هزيمة أحمد عرابي في معركة التل الكبير يوم 13 أيلول (سبتمبر) 1882 ضد لندن وخديوي مصر. لم تشمل الحركة المهدية كل السودان، وإنما كانت طرفية، بدأت في 1881 من جزيرة (آبا) عند النيل الأزرق ثم تركزت قواعدها في الغرب عند كردفان وأطراف دارفور قبل أن تستولي على الخرطوم في الشهر الأول من عام 1885. ظل سكان منطقة ما بين النيلين، الأبيض والأزرق وسكان الوسط وشمال النيل السوداني على ولائهم للعثمانيين ومصر وغلبت عليهم الطريقة الصوفية (الختمية) التي تزعمها آل الميرغني، الذين أتوا من الحجاز في عام 1835، ولم يشمل هذا فقط العرب وإنما أيضاً قبائل (البجا) المتناثرة في الشريط الممتد بين مدينة كسلا وحتى مرفأ سواكن على ساحل البحر الأحمر.
في فترة الحكم الثنائي، حصلت فترة انتقالية استمرت حتى نشوب الحرب العالمية في 1914: في بداية تلك الفترة نظر الجنوبيون إلى لندن والقاهرة نظرة واحدة، وقامت في 1901 ثورة من قبل قبيلتي (النوير) و(أزاندي) قتل فيها الحاكم البريطاني لمنطقة بحر الغزال. في العام التالي بدأت سياسة بريطانية جديدة من قبل الحاكم العام للسودان ريجينالد ونجيت (1899-1916) تم من خلالها اعتبار ثلاث أقاليم جنوبية كمناطق مغلقة عن باقي السودان. بالتوازي، وعندما كان المهديون و (أنصارهم) يضمدون جراح الهزيمة، إثر انهيار دولتهم أمام الغزو البريطاني - المصري المشترك في صيف 1898، حاول السيد علي الميرغني التقرب من البريطانيين إلى حدود إقامة صداقة شخصية قوية مع ونجيت. كانت الذروة في تموز (يوليو) 1919 لما ذهب الميرغني وابن مؤسس المهدية، أي السيد عبدالرحمن المهدي، إلى قصر باكنغهام لتهنئة الملك البريطاني جورج الخامس بالنصر على الألمان والعثمانيين، وقام المهدي بإهداء الملك «سيف نصر» والده لما هزم الإنكليز والمصريين في خرطوم 1885. كان الملفت تبرؤ الميرغني (والمهدي) من ثورة «الوفد» المصرية في القاهرة.
قبيل نهاية ولايتـــه فــــي الخرطوم، كتب ونجيــــت إلى لندن الكلمات التالية: «ما دمنا نحتفظ بالسودان فإننا نحتفظ بمفتاح مصر، لأننا نسيطر علـى منابع مياهها» (مدثر عبد الرحيم: «الإمبريالية والقومية في السودان»، دار النهار، بيروت 1971، ص 56-57). ساهمت ثورة 1919 المصرية في محاولة نقض لندن لشراكتها مع القاهرة في الحكم الثنائي (الكوندومينيوم) للسودان. أعطى وقوداً لتلك السياسة ما أبداه الزعيمان الكبيران للسودان، أي الميرغني والمهدي، تجاه لندن مع إدارة الظهر من الميرغني للقاهرة، ثم لينضاف إلى هذا ما بدأت تثمره «السياسة الجنوبية» التي بدأها وينجيت مع تشجيع البعثات التبشيرية، ثم تابعها أسلافه في 1918 مع اعتبار يوم الأحد عطلة للجنوب، من نظرة جنوبية أصبحت فيها لندن «حامية» للجنوبيين بالترافق مع عدائية عندهم لـ «الشماليين» وللمصريين، ويلاحظ هنا أن اتجاه البريطانيين إلى الفصل الإداري للجنوب في 1922 عن الشمال السوداني قد سبقته ثلاث سنوات من بدء لندن في سياسة سودنة الوظائف ثم أتت بعده بسنتين وثمانية أشهر في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 1924 أوامر الجنرال اللنبي للوحدات العسكرية المصرية، وللموظفين المدنيين، بالانسحاب من السودان.
خلال النصف الأول من العشرينات، وضعت لندن في صفها كلاًّ من الختمية والمهدية والجنوبيين. قامت بتفضيل المهدي في تسهيلات اقتصادية، ثم شجعته على أن يظهر كمرشح «محتمل» للملكية في السودان، ما أثار حنق الميرغني، الذي شعر أن ابتعاده عن القاهرة قد أصابه بالخسارة، بخلاف الجنوبيين الذي لمسوا أن اقترابهم من لندن يمكن أن يقود إلى إلحاقهم بإدارة شرق أفريقيا البريطانية بعيداً عن عالم ما بعد 1821.
أمام هذه العناصر الداخلية السودانية الثلاث، بدأ يظهر عنصر داخلي مضاد لهم وللندن: ظهرت في أوائل 1920 (جمعية الاتحاد السوداني) من متعلمين وموظفين سودانيين دعت إلى «وحدة وادي النيل» مع مصر، ثم تبعتها بعد أربع سنوات (جمعية اللواء الأبيض) التي قامت بثورة عسكرية بعد أربعة أيام من أوامر اللنبي بانسحاب الوحدات المصرية قبل أن يهزم البريطانيون الوحدات العسكرية السودانية التي عانت من خذلان المصريين لها. هذا الاتجاه نحو القاهرة، ضد لندن والمهدية والجنوبيين، تابعته منظمة جديدة، أسَست لـ «الاتجاه الاتحادي» ضمت متعلمي وخريجي السودان الجامعيين، تحت اسم (مؤتمر الخريجين) في 1938، الذي انبثق عنه في 1944 (حزب الأشقاء) المنادي بالوحدة مع مصر، وقد رأى السيد الميرغني مصلحة في أن يركب هذا المركب، وخاصة بعد عودة الجيش المصري (والموظفين المدنيين، وحرية هجرة المصريين) للسودان بعد توقيع معاهدة 1936 المصرية - البريطانية.
عندما بدأت الحرب العالمية الثانية تقترب من نهايتها، حاولت لندن قلب معادلات ما بعد 1936 ضد القاهرة والاتجاه «الاتحادي»: شجعت ورعت نشوء (حزب الأمة) من قبل المهدية في شباط 1945، والذي بدأ يطرح شعار «السودان للسودانيين»، ثم تخلت في ضربة محكمة عن سياستها بفصل الجنوب عن الشمال عبر مؤتمر جوبا (حزيران/ يونيو1947) لخلق توازن سوداني داخلي يقلب الطاولة ضد القاهرة و»الاتحاديين» عبر قوتي (المهدية) و(الجنوبيين)، وهو ما نجحت فيه لندن ضد الملك فاروق لما أعلن في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1951 دستوراً يسمي فيه نفسه «ملكاً على مصر والسودان» بعد أسبوع على إلغاء حكومة الوفد برئاسة النحاس باشا لمعاهدتي 1899 و1936، وضد اللواء محمد نجيب، لما أتى في يوم 1 آذار (مارس) 1954 لحضور جلسة افتتاح البرلمان السوداني بعد فوز (الحزب الوطني الاتحادي) الذي ضم منذ تأسيسه في 10 كانون الثاني 1953 كل الاتجاهات «الاتحادية»، بأغلبية المقاعد البرلمانية في انتخابات (11/2/-1953/12/10) وواجهه المهديون بمظاهرة مسلحة عطلت الجلسة وأفشلت ما نصت عليه معاهدة 12 شباط (فبراير) 1953 البريطانية – المصرية في «حق الشعب السوداني في تقرير مصيره» عبر البرلمان الذي فاز «الاتحاديون» بأكثرية مقاعده.
ربما، كان هذا ما دفع السيد علي الميرغني، قبيل أسابيع قليلة من إعلان البرلمان لاستقلال السودان في 19 كانون الأول (ديسمبر) 1955 وفق صيغة «السودان للسودانيين» كـ «تنفيذ لتقرير المصير»، إلى الالتقاء من جديد مع السيد عبدالرحمن المهدي، على طراز ما جرى في صيف1919، وأيضاً من جديد ضد القاهرة و»الاتحاديين» بزعامة رئيس الوزراء إسماعيل الأزهري، الذي ساهم السيد الميرغني آنذاك في المساعي لشق حزبه.
في نبوءة ليس فقط لما حدث في فترة 1948-1956، وإنما كذلك لما حدث بين يومي 1 كانون الثاني 1956 و9 كانون الثاني 2011، كتب المحامي أحمد خير، وهو العقل المفكر للنزعة «الاتحادية» في (مؤتمر الخريجين)، الكلمات التالية في كتابه «كفاح جيل» الصادر في القاهرة عام 1948: «إذا كنا نحن أبناء شمال السودان نتمسك ونتشبث بقيام دولة سودانية منفصلة، فإنما نحن بلا ريب،عن وعي أوعن غير وعي، نمد للاستعمار في أسباب البقاء، في مصر والسودان على السواء، حتى يواجهنا في المستقبل القريب بحركة انفصالية من (حزب أمة في الجنوب) على غرار الشعارات التي يرددها الانفصاليون اليوم» (طبعة الخرطوم، الدار السودانية، 1970، ص37).
السؤال الآن: هل ستقتصر مفاعيل هذه النبوءة على سيلفا كير، أم ستمتد مفاعيل الجغرافية المتقلصة، نزولاً من «السودان للسودانيين»، المبتعد عن «وحدة وادي النيل»، ليس فقط للاقتصار على «انفصال الجنوب»، وإنما نحو نزول تقلصي جغرافي نحو ما هو أبعد؟
* كاتب سوري