خارطة الطريق الأميركية للسودان
منى عبد الفتاح
بنود الخارطة والأمن القومي الأميركي
أميركا.. يدٌ في الجنوب ويدٌ في الشمال
رفع العقوبات وخطب الوداد
بانتظار أن تُسفر أفعال الحكومة السودانية عن ما يُرضي المجتمع الدولي، طرح الرئيس الأميركي باراك أوباما خارطة طريق لتحديد العلاقات الأميركية المستقبلية مع السودان. تبدأ هذه الخطوات نحو التطبيع مع واشنطن باعتراف الحكومة السودانية بدولة الجنوب الجديدة في حال الانفصال، ولا تنتهي بسحب الولايات المتحدة الأميركية لاسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
ويبدو أن الطريق طويلٌ وشاق، إذ تنظر الولايات المتحدة إلى أبعد من ذلك، فهل يمكّنها صبرها الجميل من الوصول بالحكومة السودانية إلى الوفاء بالتزاماتها نحو السلام بين الشمال والجنوب والمحافظة على الاستقرار في المنطقة على المدى الطويل؟
بنود الخارطة والأمن القومي الأميركي"
أشد ما كان يؤرق مضاجع الإدارة الأميركية بالنسبة للشأن السوداني هو كيفية التوصل إلى أفق يلتقي فيه شريكا الحكم للخروج بعملية الاستفتاء إلى بر الأمان
"
أشد ما كان يؤرق مضاجع الإدارة الأميركية بالنسبة للشأن السوداني هو كيفية التوصل إلى أفق يلتقي فيه شريكا الحكم للخروج بعملية الاستفتاء إلى بر الأمان. وبما أن عملية الاقتراع كانت سلمية ومنظمة تنظيماً جيداً باعتراف المراقبين الدوليين وفريق الأمم المتحدة، فإن أنظار الإدارة الأميركية اتجهت إلى حث الجانبين للتوصل إلى اتفاقيات بشأن القضايا التي تختص بالمواطنة والأمن والديون والمياه والعملات والنفط.
وقضية أخرى لا تقل أهمية وهي تعهد جيشي الشمال والجنوب بعدم العودة إلى الحرب الأهلية مرة أخرى، حيث أن استقرار السودان يمثل هاجساً بالنسبة للأمن القومي الأميركي ووجوده في المنطقة.
لم تكن "خارطة الطريق" -التي قدمها السيناتور جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس الأميركي، نيابة عن الرئيس الأميركي باراك أوباما- لقمة أميركية سائغة تزدردها الحكومة السودانية بكل هدوء، وإنما تعلّقت بها أهداف أخرى حوّلت الطعم الذي انتظرته الحكومة السودانية إلى علقم يصعب بلعه دفعة واحدة.
فالهمّ الأميركي خرج من تفوّق منطق الدولة القوية ثنائية القطب إلى عالم تلعب فيه السياسة الخارجية دوراً صعباً لمنظومة دولية جديدة متعددة الأقطاب. فكان لا بد للولايات المتحدة أن تحسب حساب دول أخرى قد تدخل لعبة السياسة الخارجية متعددة الأقطاب، مثل الصين التي شرعت فعلاً في تقديم الدعم ومشاريع التعاون والاستثمار لدولة السودان الجديد مثلما فعلت مع السودان الموحّد من قبل.
ولأجل فرض سياسات إقليمية سبّاقة في السودان، من أجل المنطقة لا بد من الذود عن هدف منع اندلاع حرب بين شمال وجنوب السودان، ليصبح ذلك همّاً أميركياً صرفاً يخاطب بلغة المصالح التي لا تُخطئها أُذن المنطقة الأفريقية والعربية . فيمكن أن تكيل المكاسب بمكيالين مختلفين حسب فروض الولاء والطاعة، ويمكنها ما بيدها من الضغط على طرفٍ لصالح الآخر لحماية مصالحها الحيوية في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر.
وبقراءة سريعة لخارطة الطريق -التي سلّمها السيناتور جون كيري- نجد أن بنودها الداعمة لتنفيذ اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا)، ظلّت ثابتة في تصلّب خُطى المبعوثين من الإدارة الأميركية للمباحثات مع الحكومة السودانية على مرّ السنوات الماضية ومنذ توقيع الاتفاقية. فحتى لو اختلفت آراء المسؤولين في الحكومة السودانية حول التقليل من أهمية العرض الأميركي، أو النظر إليه بجدية فسيظل للدور الأميركي شأن خاص فيما يتعلق بالخلافات حول ما بعد الاستفتاء والانفصال وبشكل كبير فيما يتعلق بشأن منطقة أبيي.
تنص خارطة الطريق على سبعة شروط لتطبيع العلاقات الأميركية مع السودان، جوهرها شطب السودان عن لائحة الدول الراعية للإرهاب كمقابل لتنازلات سودانية فيما يخص تمرير استفتاء فصل الجنوب.
"
بما أن استفتاء جنوب السودان قد تمّ في وقته المحدد ومرّ بشكل سلمي وبصورة عكست إرادة الجنوبيين, فإن هناك بنوداً أخرى قيد التنفيذ مثل إجراء المشورة الشعبية في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان
"
وبما أن استفتاء جنوب السودان قد تمّ في وقته المحدد ومرّ بشكل سلمي وبصورة عكست إرادة الجنوبيين, ومنسجماً مع أهداف ومبادئ اتفاقية السلام الشامل، فإن هناك بنوداً أخرى قيد التنفيذ مثل إجراء المشورة الشعبية في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان.
ومن البنود ما لم يتم التوصل إلى نتيجة بشأنه بعد، وهو ما لا يتم إلا بتوصل حكومتي الشمال والجنوب إلى اتفاقية حول ترتيبات ما بعد الاستفتاء. هذه الترتيبات تشمل الموارد الطبيعية والقضايا الاقتصادية والمواطنة والأمن والمعاهدات الدولية والقضايا القانونية الأخرى.
وهناك أيضاً قضية ترسيم حدود المناطق المتنازع عليها على طول الحدود الشمالية الجنوبية والتي تحتاج إلى اتفاق الطرفين بشأنها. كما اشترطت الخارطة أيضاً عدم تدخل حكومة السودان في أعمال عسكرية استفزازية أو خلق زعزعة عبر الحدود سواء أكان ذلك بالتحركات العسكرية عبر الحدود أو تدفق الأسلحة واستخدام الوكلاء.
ولم تنسَ البنود الموضوعة أن تضيف شرطاً آخر هو أن تعمل حكومة السودان على حماية حقوق وضمان أمن الجنوبيين الذين يعيشون في الشمال.
أميركا.. يدٌ في الجنوب ويدٌ في الشمال
ما تنتظره الحكومة السودانية من إنجاز الولايات المتحدة لوعودها يتمثل أساساً في رفع العقوبات عن السودان وشطب السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وتجميد قرار المحكمة الجنائية الدولية. وهذه المتطلبات التي يراها بعض النافذين في حزب المؤتمر الوطني الحاكم مجرد وعود جوفاء، يتجهون إلى خطوات أكثر عملية في سبيل كسب أسرع للوقت بتوطيد التعاون مع دولة الجنوب الوليدة تحت مظلة ورعاية الولايات المتحدة الأميركية.
حيث يرى بعض الخبراء الاقتصاديين ضرورة التعاون مع دولة جنوب السودان في مجال النفط الذي ينتج الجزء الأكبر منه في الجنوب بينما توجد مصافي البترول والبنى التحتية في الشمال.
كما أن هناك مطالبات من الرئيس البشير في قمة شرم الشيخ الأخيرة بحل قضية ديون السودان البالغة 36 مليار دولار بإعفائها كمقابل لما أنجزته الحكومة من تحقيق لحق تقرير المصير للجنوب. وهو ما دعت إليه جمعية رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي في قمة أديس أبابا أواخر يناير/كانون الثاني، حيث دعت دائني السودان لإعفاء البلاد وبشكل فوري من جميع الديون الخارجية وضمان أن يتلقى السودان معاملة خاصة تتوافق مع ظروفه الخاصة.
أما الإدارة الأميركية فستتريث إلى أن تتضح معالم تنفيذ (خارطة الطريق الأميركية) بشروطها السبعة، ثم بعدها ستعمل في يوليو/تموز 2011 على شطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وستعمل أيضاً على توسيع مظلة الترخيص وتسمح بأصناف التجارة الإضافية والاستثمار الإضافي مع السودان وذلك بشحن السلع التجارية والإنسانية إلى الشمال وجنوب السودان عبر الشمال.
"
بينما سيستمر الدعم الأميركي للجنوب، متوقع أن تتوسع مظلة الاستثمار شمالاً في مجالات عديدة، ولكن هذا الاستثمار في دولة الشمال مرهون بسلوك الخرطوم وحسن سيره في حل القضايا الأخرى بالبلاد
"
كما جاء ذكر الاستثمار في موارد المحاصيل الغذائية والخشبية والنقدية وقطاع الصحة العامة والحفاظ على الحياة البرية والموارد المائية وتصدير برامج اتصالات معينة وبرامج التبادل التعليمي والثقافي والرياضي والمعاملات ذات الصلة. بالإضافة إلى المشاركة مع المانحين والمؤسسات المالية العالمية بمواصلة المناقشات حول عملية تأمين إعفاء الديون المتعددة تمشياً مع العمليات المتفق عليها دولياً ومع المتطلبات التشريعية الأميركية. كما ستقوم الولايات المتحدة بتعيين سفير أميركي لدى السودان والسعي لدى مجلس الشيوخ للموافقة على ذلك.
أما بالنسبة لجنوب السودان فقد قدمت الإدارة الأميركية العام الماضي مساعدات تكنولوجية بقيمة (430) مليون دولار، وحثت دولا مثل الصين ودول أخرى بتقديم دعم مماثل. وبينما سيستمر هذا الدعم للجنوب في مجالات الطرق والزراعة والبنى التحتية، متوقع أن تتوسع مظلة الاستثمار شمالاً باستثمار إضافي في مجالات عديدة، ولكن هذا الاستثمار في دولة الشمال مرهون بسلوك الخرطوم وحسن سيره في حل القضايا الأخرى بالبلاد.
رفع العقوبات وخطب الوداد
ربطت بنود خارطة الطريق رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان منذ إدراج اسمه في قائمة الدول الراعية للإرهاب عام 1993، بالالتزام الكامل بتنفيذ اتفاقية السلام الشامل، واتفاق بنود ما بعد الاستفتاء، ولكنها التفّت مرة أخرى وركزت بشكل كبير على سلوك الحكومة السودانية.
هذا السلوك يشمل أراضٍ أخرى أشد تصدعاً مثل إقليم دارفور وكيفية تطبيق قانون سلام دارفور، والمشورة الشعبية في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق وإقليم شرق السودان.
بعد ظهور نتيجة الاستفتاء بدأت أميركا في تهيئة السودان لترتيب الخطوات التالية في ربط واضح لموضوع التطبيع مع الخرطوم بقضية دارفور. فتصريح سوزان رايس المبعوثة الأميركية لدى الأمم المتحدة والذي تزامن مع وجود وزير الخارجية السوداني علي كرتي بواشنطن، حول قوات حفظ السلام في إقليم دارفور يشير برسالة واضحة إلى أهمية هذا البند حتى يتم الإيفاء بمسألة تطبيع العلاقات بين البلدين.
وهذا ما أكدته بشكل كبير وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في اجتماعها مع علي كرتي حيث أكدت على جملة الخطوات والتي من بينها تلك المتعلّقة بقضية دارفور. ولكن يبدو أن وزير الخارجية السوداني لم يرق له هذا الربط بين تطبيع العلاقات بين البلدين وحل قضية دارفور حيث توقع أن تقوم واشنطن بتحسين علاقاتها مع الخرطوم دون النظر إلى ما ستسفر عنه خطوات الحل لقضية دارفور، باعتبار أنها مواصلة لسلسلة وعود غير معروف متى سيتم الإيفاء بها.
وهو عين ما ذكره الرئيس السوداني عمر البشير في لقائه مع قناة الجزيرة حيث قال "نحن لا نثق في الوعود الأميركية، فقد قدمت الكثير من الوعود عقب توقيع اتفاقية السلام الشامل عام 2005 ولكنها لم تفِ بذلك".
وقد ذهب علي كرتي إلى أكثر من ذلك حيث صرّح في محفل دولي آخر على هامش قمة الاتحاد الأفريقي في إثيوبيا في أواخر يناير/كانون الثاني من هذا العام بعدم وجوب ربط قضية دارفور بوعود واشنطن مضيفاً "أن الخرطوم أوفت بما وعدت وهي تطالب الآن برفع كل العقوبات". وذهب إلى أكثر من ذلك حيث رأى أنه بالإجراء السلمي للاستفتاء يجب أن تتوفر فرصاً اقتصادية واستثمارية أكبر للسودان الذي تعرّض للعقوبات زمناً طويلاً.
"
ود أميركا المقطوع يعود بعد أن جرّ كثيرا من الويلات على السودان ولكن تعود معه الضغوط التي نجحت في الدفع بقضية دارفور إلى الواجهة مرة أخرى وربما فتح جبهة جديدة هي شرق السودان
"
وردود الفعل المتوقعة أن تكون الأكثر جدوى لسياسة أميركا تجاه السودان والموجهة حسب النتائج تطلب من حكومة السودان حسن التصرف. وهذه خطوة في اتجاه التطبيع تحولت من عزل السودان عزلاً كاملاً في العقد الأول من حكم الإنقاذ بنية إسقاط النظام. ولكن طرأت سلسلة من التغيرات في السياسة الأميركية تجاه السودان عكفت من خلالها على هدف إنهاء الحرب، بإقناع الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان بالجلوس إلى مائدة التفاوض التي أسفرت عن توقيع اتفاقية السلام الشامل بين الطرفين.
ولكن ومن غير انتظار ظهرت معضلة أخرى قد تقوّض آمال الحكومة السودانية بالانفراج القريب، وذلك ببروز صوت التيار اليميني المتطرف الذي يمثله الجمهوريون المتشددون في الكونغرس الأميركي. ذلك التيار يرى أن العقوبات يجب أن تبقى مسلطة على السودان إلى أن يفي بكافة التزاماته وإلى أن تُحل مشكلة دارفور نهائياً.
وبهذا التباين في الآراء لا يصعب قراءة الموقف الأميركي الحقيقي تجاه السودان فحسب، وإنما يولّد استفهامات أخرى حول ماذا بعد إيفاء الخرطوم بالتزاماتها تجاه جنوب السودان. فودُّ أميركا المقطوع يعود بعد أن جرّ كثيرا من الويلات على السودان ولكن تعود معه الضغوط التي نجحت في الدفع بقضية دارفور إلى الواجهة مرة أخرى وربما فتح جبهة جديدة هي شرق السودان.