صراع الإسكندرية.. مع هويتها
تفجير كنيسة الأقباط ليلة رأس السنة يسلط الأضواء على تحول «مدينة التسامح» إلى «دولة السلفيين»
الإسكندرية: محمد حسن شعبان القاهرة: محمد عجم
«ما دمت خرّبت حياتك في هذه البقعة من العالم، فهي خراب أينما حللت»، هكذا صرخ كفافيس، شاعر الإسكندرية، في منعطف القرن الماضي. لم يكن يدرك أن صرخته الموجعة، ستتحول وبعد ردح من الزمن، إلى مرثية لروح مدينته الخالدة التي ألهمت لورانس داريل رائعته «رباعية الإسكندرية»، وفجرت لوحات سيف وانلي ومحمود سعيد وحامد عويس، وجدارية قرص الشمس التي ينتصب عليها مبني مكتبة الإسكندرية على البحر، محفورة فيه رموز وعلامات أبجديات العالم قديما وحديثا.. ما بين كل هذه تتجلى صورة الإسكندرية كمسرح مفتوح على طاقات وحيوات البشر من كل لون وجنس.
هذا القناع «الكوزموبوليتاني» الذي لم تخلعه الإسكندرية على مدار عقود طويلة من الزمان، وحافظت عليه كرمز وتميمة ضد الموت والخوف، لم يكن في حسبانها أنها ستتخلى عنه، أو تراه مهشما في المرآة، وهي تترقب كيف يستقبل أبناؤها عاما جديدا في مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة.
فالمشهد كان مروعا: بعد دقائق من منتصف ليلة الاحتفال بحلول أيام العام الجديد 2011، أمام كنيسة القديسين «مار مرقس والأنبا بطرس» بمنطقة سيدي بشر، تناثرت أشلاء جثث الضحايا في أرجاء الشارع وعلى جدران البنايات، في تفجير إرهابي أعادها إلى عصور الظلام كاشفا عن وجه آخر طالما طاردته مدينة الإسكندرية.. وجه اختصره أحمد دسوقي، سائق ميكروباص، الذي يلقبه الركاب بـ«الشيخ»، لا لسنوات عمره التي تقترب من الخمسين، إنما للحية أطلقها. وقال دسوقي لـ«الشرق الأوسط» إنه لا يدري ما الذي أغضب «النصارى». وأضاف: «حين وقعت تفجيرات الحسين (تفجيرات إرهابية وقعت في حي الحسين بالقاهرة في فبراير (شباط) عام 2009) لم نخرج (المسلمون) لنتهمهم بالوقوف خلف هذه التفجيرات.. من افتعلها أشخاص من الخارج هدفهم إشعال الوضع».
قال دسوقي إن مسيحيي مصر، أو «النصارى» كما يفضل أن يسميهم، يعيشون أزهى عصرهم، وأضاف: «في عهد الرئيس مبارك فقط بنوا في الإسكندرية 3 آلاف كنيسة». فداحة الرقم غير القابل للتصور جعلتنا نراجعه فصحح «على مستوى مصر 3 آلاف كنيسة»، غير أنه قالها بالنبرة ذاتها التي تشي بضخامة الرقم.
وعلى الرغم من أن عدد الكنائس في مصر رقم صعب ومثير للجدل، فإن الدولة لا تقدم أي إحصاءات رسمية حوله، باعتبار أن البيانات التي تقوم على أبعاد طائفية لا تتفق مع سياسة الدولة، بحسب مسؤولين حكوميين. وينطبق الأمر نفسه على أعداد المسيحيين أنفسهم. ففي حين تشير التقديرات إلى أن نسبتهم تتراوح بين 10 في المائة و20 في المائة من سكان مصر البالغ عددهم نحو 80 مليونا، فإن هذا الرقم يبقى غير دقيق أو مؤكد بسبب رفض الحكومة إجراء تعداد سكاني انطلاقا من الديانة لأنها تعتقد أنها تكرس فكرة الفتنة. وتتردد من جهتها الكنيسة المصرية في الإفصاح عن العدد الحقيقي، خشية ردود الفعل. إلا أن دسوقي يعلن الرقم ببساطة العارف، وهو يقفز بيسر من الخطاب الإعلامي الرائج حول الوحدة الوطنية إلى الخطاب السلفي المتشدد. وقد حملت التعليقات الآتية من جهة الركاب بعض الاختلافات، وإن مالت معظمها مع وجهة نظر دسوقي.
لم يكن دسوقي مجرد وجه عابر لا يمكنه وحده تلخيص التغييرات الاجتماعية والثقافية التي طالت الإسكندرية خلال السنوات الماضية؛ فقد ظهر، وإن بشكل مختلف، من خلال فيلم «رسائل البحر» للمخرج داوود عبد السيد عبر شخصية «الحاج هاشم» وقد استبدلت بالمسبحة اللحية، حيث كشفت شخصية هاشم عن سيطرة رأس المال التجاري المتلفع بعباءة الدين على المدينة العريقة. «رسائل البحر» الذي اتخذ من فكرة التسامح تيمة أساسية للعمل، ينتهي بالبطل وقد هرب بالكاد من قبضة رجال الحاج هاشم إلى مركب صيد صغير وبصحبته الفتاة التي أحبها، في حين بدأت أصوات انفجار أصابع الديناميت التي يستخدمها الحاج هاشم في الصيد تؤرق سطح البحر الذي امتلئ بالأسماك الطافية على سطحه.
وفي حين كانت كاميرا داوود عبد السيد ترصد التهديد، يحاجج مراقبون بأن الإسكندرية لا تزال بخير، وأن جوهر المدينة العالمية لم تخالطه أحقاد الفتنة الطائفية، مستندين لتقديرات أمنية تحدثت عن ضلوع عناصر خارجية في التفجيرات التي ضربت كنيسة القديسين، وطالت مسجد «شرق المدينة» المواجه له، بحيث لونت الدماء نفسها واجهة الجامع والكنيسة في صدفة بليغة وبالغة الدلالة لم يقصدها بالطبع منفذو العمل الإرهابي. في المقابل، يرى آخرون أنه حتى وإن كان الفاعل من غير المصريين فإن الأرض كانت ممهدة للفتنة بعد شيوع خطاب متشدد تسلل قبل سنوات إلى البلاد وتوطن ولم يعد يجدي نفعا تجاهله. ويقارن الروائي السكندري إبراهيم عبد المجيد بين واقع روايته «لا أحد ينام في الإسكندرية» التي تطرقت إلى مصائر أناس عاديين مسلمين ومسيحيين تمتزج تجاربهم لتعكس التسامح الديني في الإسكندرية خلال أربعينات القرن الماضي، وبين ما يجري حاليا، يقول: «لا يوجد علاقة بين إسكندرية الأربعينات حيث تدور أحداث الرواية، وبين إسكندرية اليوم.. انتهى ذلك الزمن الجميل، وحل مكانه مناخ سلفي متشدد منذ السبعينات». وفي حين كانت الكاتدرائية المرقسية في حي العباسية بالقاهرة ترحب بمظاهر التضامن التي أعلن عنها مسلمون راغبون في حضور قداس ليلة عيد الميلاد، مفسحة الطريق للتقدم بطلبات لحضور القداس، نشرت بطريركية الأقباط الأرثوذكس بالإسكندرية بيانا في عدد من الصحف المصرية جاء فيه: «تعلن البطريركية بالإسكندرية، مجمع كهنتها ومجلسها الملي وكل الشعب القبطي بها، حالة الحداد على أرواح شهدائها في الحادث الإجرامي (التفجيرات أمام كنيسة القديسين).. وتعتذر عن استقبال أية وفود ليلة ويوم العيد، وذلك مشاركة وتقديرا لمشاعر أسر الشهداء والمفقودين والمصابين وأبناء الكنيسة بالإسكندرية».
يمكن فهم هذا الموقف الذي بدا بالنسبة للبعض «موقفا متشددا» على خلفية حالة الاستقطاب الحاد بالإسكندرية؛ فمن بين المدن المصرية جميعها، حتى الأكثر بعدا عن العاصمة، شهدت الإسكندرية أكبر مظاهرة نظمها سلفيون في شهر أكتوبر (تشرين الثاني) ضد البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية. وجاءت المظاهرة التي شارك فيها عشرات الآلاف، على خلفية ما قال المتظاهرون إنه احتجاز الكنيسة المصرية لمسلمات، وكذلك تصريحات أطلقها الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس القبطي، قال فيها إن آيات في القرآن الكريم أضيفت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي صباح اليوم الذي وقعت خلاله التفجيرات، كان العشرات يتظاهرون أيضا للسبب ذاته أمام جامع القائد إبراهيم الذي استضاف على مدى الأشهر القليلة الماضية عددا لا بأس به من مظاهرات السلفيين، وهو ما جعل أحد الموقع القبطية على شبكة المعلومات الدولية الإنترنت يوجه أصابع الاتهام إلى الجماعة السلفية بالإسكندرية. لكن الأيام الماضية حملت تبرؤ عدد كبير من مشايخ السلفيين بالإسكندرية من تهمة تنفيذ تلك التفجيرات، وقال بيان صدر عن الجماعة السلفية بعد الحادث: «إن المنهج الإسلامي الذي تتبناه الدعوة والقائم على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، يرفض هذه الأساليب التي تخدم فقط أهداف من لا يريدون لمصرنا خيرا». كما رفض أئمة السلفية القول إن دعوتهم قد ساهمت في أجواء الاحتقان والشحن، بما ساعد على وجود أرضية للإرهاب وموطئ قدم لمنفذي تلك الجريمة.
رواج هذا التيار في المدينة والمظاهرات المتتالية التي شهدتها الأشهر الأخيرة ضد بابا الإسكندرية، كانت سببا رئيسيا في ما اعتبرته بعض التقارير الإعلامية تغيبا متعمدا من الأنبا شنودة الثالث عن المدينة وعدم إلقائه عظته النصف شهرية بها، وهو الأمر الذي نفته الكنيسة غير مرة مقللة من شأن تلك المظاهرات. ولم يكن حضور الجماعة السلفية بالإسكندرية هو الوحيد. فقد شهدت المدينة كذلك حضورا قويا لجماعة الإخوان المسلمين الذين مثلوا المحافظة بثمانية نواب في البرلمان السابق، وهو الأمر الذي دفع الحزب الوطني الديمقراطي (الحاكم) إلى الدفع باثنين من وزراء حكومة الحزب في مواجهة مرشحي «الإخوان».
ويرى أمين إسكندر، وكيل المؤسسين لحزب الكرامة (تحت التأسيس)، أن اختيار الإسكندرية تحديدا من قبل الجناة لتنفيذ الحادث الأخير «كانت له مقدمات وسوابق»، ويقول: «تشهد المدينة التي كانت تشتهر بأنها منفتحة على الجميع، وتشتهر بمناخها الحاضن للطائفية، بعد أن انتشر بها نفوذ الحركات الإسلامية والإسلام السياسي على نطاق واسع وصل إلى المدارس على سبيل المثال، مظاهرات مستمرة للسلفيين الذين يطالبون بتفتيش الكنائس ووضعها تحت رقابة الأمن، ويصل هذا المد السلفي إلى المطالبة المستمرة من على منابر المساجد بمقاطعة المسيحيين وعدم التعامل معهم ووصفهم بالكفار، كان آخرها يوم الحادث ذاته».
وفي رأي إسكندر، فإن هذا المناخ الذي تشهده الإسكندرية والتغيير في معاني التسامح لديها، بدأ منذ سنوات حكم الرئيس السادات الذي أعلن في مجلس الشعب صراحة «أنا رئيس مسلم في دولة مسلمة». فمنذ ذلك الإعلان بدأت الحوادث والفتن الطائفية في مصر التي بلغ عددها حتى حادثة كنيسة القديسين الأخيرة 160 حادثة، كان للإسكندرية نصيب منها، ولا وجود للدولة فيها. ويرى إسكندر استمرار هذا المناخ الطائفي مستقبلا داخل الإسكندرية بشكل خاص ومصر عامة، إذا لم تثبت أركان دولة حديثة، ويعود المسجد والكنيسة لممارسة دورهما الروحي من دون تدخل في أمور السياسة، وعودة وتعدد الحركات الفكرية.
الأمر نفسه يؤكده الدكتور نبيل عبد الفتاح، الباحث والخبير بمركز الأهرام الاستراتيجي مع إسكندر، ويرد هذا التحول الذي أصاب الإسكندرية إلى ما سماه «عملية تزييف المدينة». وأوضح أنه منذ نكسة عام 1967، زحف عدد كبير من الريفيين إلى مدينة الإسكندرية ونقلوا إليها ثقافة الريف وقيمه حتى تلك المتعلقة بعلاقتهم بالزمن، لتنقلب المدينة الكزموبوليتانية إلى «ولاية السلفيين» المتخمة بشعاراتهم.