ثلاثية شيكاغو: محمود سعيد يستعيد حنين بغداد علي ضفة الأرض الأخري
لغة سردية مسكونة بعواطف الخيبة
شكيب كاظم
يتفنن الروائي العراقي المقتدر محمود سعيد في تقديم سرده الروائي، اذ يبدأ الجزء الثاني الموسوم بـ(اسدورا) من ثلاثية شيكاغو الروائية، من منتصف احداثها وليس من بدايتها كما دأب الكثير من الروائيين علي ذلك، وهناك من يبدؤها من نهايتها، اذ ينفتح فضاؤها الروائي علي ارماندو، زوج العراقية اسدورا، ابنة العراقي عدنان السياسي الذي غادر العراق منذ الستينات، من زوجته المكسيكية، وقد دخل الي مخزن العراقي سعدي المسمي (مخزن كل شيء بدولار) وهو يقتاد طفيله ارمانور وارمانورا، وقد بدا عليه الوجوم والاحباط، بعد ان هربت منه زوجته، بعد تلك السهرة الماتعة مع مجموعة من العراقيين المغتربين، احتفالا بليلة السنة الميلادية 2003، ليصور لنا الواقع المأساوي، الذي يعيشه عراقيو الشتات، الذين اضطروا لمغادرة بلادهم لاسباب عدة: اقتصادية، سياسية، دراسية، فهذا عدنان الذي حطمت حياته، تلك المجزرة التي تعرضت لها اسرته، وتحطمه قيميا واخلاقيا وسياسيا، والخوف، كل الخوف من السياسي الفاشل المنكسر، فانه يتحول الي وحش مفترس خائب، وقد درس نجيب محفوظ عالم السياسي الخائب المنكسر، واجاد تصويره في عدد من رواياته: (الشحاذ) او (اللص والكلاب) او (الحب تحت المطر)، وحتي (ميرامار) و(ثرثرة فوق النيل) تحول عدنان الي باحث عن المال وكان دائما يحث سعدي، الشاب العراقي الطيب والخام، والذي بقي محافظا علي طيبته ونقائه، وكأنه امتداد لـ(عمر) في الجزء الاول من هذه الثلاثية الموسوم بـ(حافة التيه) يحثه ان يحصل علي شهادة جامعية في الاقل قائلا له: امريكا ميدان صراع. امريكا حسناء يفوز بها المبدع والمتميز. ص18. ناصحا اخته سعاد علي ترك المثاليات فالمال هو القوة من يملك المال يسيطر علي العالم. ص89.
وانتهي بحثه الذي لا يحد عن المال الي ميتة مأساوية بسقوط طائرته الهيلوكوبتر فوق احراش الهندوراس بحثا عن مناجم الذهب، ليترك وحيدته (اسدورا) من زوجته المكسيكية، ولنقف عن الاسم: اسدورا، الذي يدل دلالة واضحة علي انسلاخه من جذوره بسب انهيار منظومته القيمية الناتجة عن تلك الحادثة المأساوية، مقتل اسرته، بسبب الاحتراب السياسي الذي عصف بالعراق بعد عام 1958، فهو ما اكتفي بالزواج من اجنبية تختلف عنه دينيا وقوميا، بل نقل هذا الاحباط الي ابنته من خلال اختيارها هذا الاسم المكسيكي اسدورا، نزولا عند رغبة زوجته لكنه اضاف اليه اسما ثانيا، اشبه بالتفسير والتوضيح، انه: ضو النهار فاصبح يناديها: اسدورا ضو النهار، وانسحب هذا التيه والتمزق الي ابنته التي عشقت عاملا من عمال مزارع ابيها يوم كانت تحيا في المكسيك، حتي اذا ارادت عقد قرانها منه، احتارت اين تعقده أفي المسجد ام الكنيسة؟ فهي تعيش تمزقا دينيا وقوميا، فابوها عراقي مسلم، وامها مكسيكية مسيحية وللتخلص من هذا الاشكال، اقترحت ان يتولي شيخ المسجد عقد قرانها من ارماندو، كذلك ان يقوم القس بعقد قرانهما في الكنيسة، الامر الذي سبب مشاكل خطيرة لطفيلهما ارمانور والطفلة ارمانورا، يوم وقعت في براثن العراقي المنهار قيميا (موسي ابراهيم خليل) تاجر المخدرات الشهير، الذي ما اكتفي بهذه المهنة الشائنة، بل غَيَّرَ حتي اسمه، ليشير الروائي محمود سعيد للقارئ الفَطِن الذي يقرأ ما بين السطور، ويقدم قراءة تحليلية تأويلية للنص، الي انهيار القيم، بسبب الخيبة والاَحباط والانتقال الي ذلك المجتمع الامريكي الصاخب المنفلت، الباحث عن اللذائذ والمال ليكون اسمه (موسيس ابرام كاليل) متخلصا من كل ما يربطه بالشرق وبالعراق، وهنا يطرأ علي ذهني ما عاناه المفكر الشاهق ادوارد سعيد، بسبب اسم ابيه سعيد، بوصفه اسما عربيا وهو ما فصله في سيرته الذاتية الرائعة التي وسمها بـ(خارج المكان - مذكرات) ترجمة فواز الطرابلسي. نشر دار الآداب - بيروت - ط(1) 2000 وخاصة بعد احداث 11/ ايلول/ 2001 ونظرة والريبة نحو كل شرقي، وما اكتفي موسي العراقي، بهذا: تغيير اسمه، والمتاجرة بالمخدرات، بل رمي حبائله - علي اسدورا الفتاة رائعة الجمال، ليختطفها من زوجها المُوَّلَه بحبها والمُدَلْه بها، بعد ان جعلها تدمن المخدرات، حتي اذا خفَّ تأثير المخدر، تحولت الي وحش كاسر احالت حياء هذا الشاب المسكين ارماندو الذي ظل علي عشقه لها، والذي ما انقص زواجه منها من هذا العشق، احالت حياته الي جحيم، بل ما اكتفت بذلك، فغادرته هاربة فجرا بعد تلك السهرة لمناسبة حلول العام الجديد، ومراقصتها لموسي او موسيس، الذي عرف بلقبه (ابن العم) فوضعا خلال تلك المراقصة النقاط الاخيرة لعملية هروبها. اقول: لقد سبب هذا التمزق القيمي مشاكل خطيرة لطفليهما، بعد ان قدم لقسم الشرطة، شكوي ضد سعدي، بوصفه يتولي حضانة وتربية الطفلين، بعد هروب امهما، وانغمار ابيهما في السكر، هربا من الواقع الذي وجد نفسه فيه، وفراغ حياته من الزوجة التي مات فيها حبا وعشقا، اذ لا يجوز في قوانين الشرطة ان يتولي مسلم حضانة هذين الطفلين من اب مسيحي، علي الرغم من انهما عقدا قرانهما - فضلا علي الكنيسة، عقداه في المسجد وتولاه شيخ المسجد.
لقد استخدم الروائي العراقي المغترب محمود سعيد، تقنيات عديدة لربط سرده الروائي، من خلال تيار الوعي وانثيال الحوادث واسترجاعها، فضلا علي الاستذكار الذي تولته سعاد، شقيقة عدنان وعمة اسدورا، لتقص عليه ايام حياتهما في العراق، ومن ثم قرار عدنان بالمغادرة، ورابطة الجيرة النزيهة الوثيقة التي ربطت بين اسرتي ابي عدنان وابي سعدي، الذي تولي رعاية عدنان واخته، بعد ذلك الحادث المأساوي، واضطراره لمغادرة الموصل، والعيش في بغداد، لتهيئة اجواء آمنة لهما، وقد رد عدنان واخته وقد اصبحا من الاثرياء، بعض هذا الجميل لسعدي وامه يوم قررت الانتقال للعيش مع ابنها في امريكا، بعد وفاة زوجها صلاح الدين. وكما كان في الرواية شيء من مشاهد الجنس، التي يكثر محمود سعيد من ايرادها في رواياته (زنقة بن بركة) او (حافة التيه) لكن المِشاهِدْ هذه ما كانت خادشة للذوق، او موغلة في الوصف كما جاء في كثير من الروايات ومنها رواية (المسرات والاوجاع) للروائي العراقي الراحل المبدع فؤاد التكرلي، اذ جاءت ضاجة بالوصف للعملية الجنسية، وصفا دقيقا، يقترب من الفيلم السينمائي، بل كانت المشاهد العاطفية هذه في رواية (اسدورا) لمحمود سعيد، رامزة وموحية يفهمها من يفهم ولا يفهمها الذي لا يفهم ولعل من اروعها تصويرا ولغة لقاؤه ليلة رأس السنة، مع الآنسة ستيسي، خلال الاحتفال الذي اقامته شركة (وجه المدينة) احتفاء بعيد ميلادها. ص23. ص30 او لقاؤه بـ(اُشِلي) مطلقة ضابط الشرطة زانوفسكي المريض ساديا، اذ قرأنا الكثير عن ظاهرة السادية التي تنسب للمركيز الفرنسي دي ساد، او مرضاها الذين يستشعرون اللذة من خلال إيلام اقرانهم، لكننا لم نقرأ وصفا دقيقا للسادي المريض زانوفسكي، كما جاء في الرواية هذه وهو يعذب زوجته اشلي، وصولا الي اللذة، حتي اذا منعته من ممارسة تعذيبها هذا، نراه يحاول التنفيس عن مرضه النفسي، بتخديرها ونهش جسدها بالسياط، واطفاء اعقاب السجائر في اجزاء حساسة منه، مما دفعها لطلب الطلاق من هذا المريض، السادي، لتنعم باللذاذة والبهجة في احضان سعدي العراقي.
وكما كانت نهايات مفتوحة في الجزء الاول من هذه الثلاثية (حافة التيه) فان في الجزء الثاني منها (اسدورا) اكثر من نهاية مفتوحة علي شتي الاحتمالات، فبعد ان علمنا بموت ارماندو زوج اسدورا حبا ووجدا وعشقا، بسبب معارقته الخمر حتي الذهول والتسمم ومن ثم الموت، فاننا مازلنا نبحث عن مصير زوجته، التي هربت فجرا تاركة اياه يغط في نوم عميق ولعلها خَدَّرته، وهي تحمل اغراضها علي عجل، ثم ما مصير ذاك الذي غير اسمه: موسيس ابرام كاليل، موسي ابراهيم خليل، المعروف اختصارا بابن العم، الذي اغري سعدي احد القتلة المعروف باسم عبد الله الصومالي، اغراه بقتل ابن العم ثأرا منه وانتقاما لتحطيمه حياة اسدورا بالمخدرات وحياة زوجها ارماندو بهجرها له، ثم ما هذا الذي يسرده علينا الروائي المتمكن محمود سعيد في السطور الاخيرة من روايته؟ أهي حقيقة ام اضغاث احلام، اهي حقيقة ان اسدورا قد استعادت طفيلها بعد ان اقترنت بابن العم الذي اوقعها في حبائله، وها هي المصادفة تجعل سعدي يراهم؟ يري الطفلين في تلك السيارة ذات الدفع الرباعي.
(ايهم ان تكون في شارع معين؟ كل الشوارع سواء
- عراقي سعدي
- من؟
صوت ارمانور؟ اهو يحلم؟ التفت سيارة جديدة. دفع رباعي. كل ما فيها اسود. مفتوح فيها شباك واحد. خلفي. تمرق كالسهم، كانت علي بعد بضعة امتار ثم جاءت سيارة اخري ملاصقة. حجبت الرؤية.
- عراقي سعد..
ابتعدت السيارتان. نزل الي الشارع راكضا. ظهرت يد طفل من شباك السيارة السوداء، اقل من لحظة. ثم اختفت. أهو حلم؟ اهي حقيقة. أخُيِّلَ له. اواقع ام اضغاث احلام؟) ص222 ام ان سعاد عمة امهما قد سمعت باوضاع الطفلين، فجاءت من البرازيل، حيث تعمل بتجارة الاحجار الكريمة، ولتنقذ الطفلين مما هما فيه بوصفها القربي اليهما أقرب الناس ولم يبق لهما من يرعاهما سواها بعد موت ابيهما وهرب امهما؟ مع عشيقها تحت تأثير الادمان علي تعاطي المخدرات، ولأن سعاد الانسانة الوحيدة القادرة علي انتزاع الطفلين بكلمة واحدة منها، وهي الاجدر برعايتهما واخراجهما من دهاليز الشرطة ودار الرعاية الاجتماعية، كونها عمة امهما. ام انها المصادفة وحدها من جعلته يراهما، وقد تولت الشرطة - بعد ان يئست من العثور علي من يتولي تربية الطفلين ورعايتهما - نقلهما الي احدي دور الرعاية الاجتماعية؟
احتمالات عديدة، ونهايات مفتوحة، يضعنا الروائي العراقي الحاذق محمود سعيد، امامها، ونحن نقلب الامور علي اوجهها، وصولا الي معرفة مصير هذين الطفلين الوديعين، وهي ضربة روائية مكتنزة بالفن والابداع والتألق المُشَغِّل لذهن القارئ والمحفز لانتباهه، وصولا الي الاستمتاع، الاستمتاع بما تقرأ، والاستفادة من هذا الذي تقرأ..