عبد الحق بنكيران مجوهراتي القصر

عبد الحق بنكيران مجوهراتي القصر


نقش عبد الحق بنكيران اسمه بحروف من ذهب في عالم صياغة المجوهرات وتسلل بإبداعه إلى أعماق كل عاشق للقطع الفنية الفريدة المصنوعة من أغلى المعادن والأحجار الثمينة.
< أمينة كندي

حكاية عبد الحق مع حرفة صياغة المجوهرات نسجت خيوطها مخيلته، وزاد تعلقه ب "أم الفنون"، كما يحب أن يلقبها، مرحلة بعد أخرى، مسترسلا أنها نوع آخر من الإبداع عنوانه الإتقان والرغبة في التجديد والعطاء المتواصل.
ورث عبد الحق الحرفة عن والده الأمين بنكيران، أحد قدماء المقاومين في مدينة فاس وأمين محلات بيع المجوهرات في فترة ما قبل الاستقلال، الذي ورثها بدوره أبا عن جد.
"كانت بداية علاقتي بمجال صياغة المجوهرات ثورية"، يحكي عبد الحق "كنا نتناول وجبة الغداء في منزل العائلة سنة 1954، وفجأة تلقينا خبر احتراق محلنا لصياغة المجوهرات وكل المحلات المجاورة من طرف قوات الاحتلال الفرنسية".
ويواصل عبد الحق: "إثرها تحول بيتنا بفاس إلى ورشة لاستخلاص الذهب من التراب الذي حمله إلينا تجار المجوهرات في أكياس. وكانت بدايتي في عالم المجوهرات، في سن مبكرة لم أتعد حينها عشر سنوات... عن طريق هذا الحدث الذي جعلني أتفاعل معها من الوهلة الأولى وأحسها تجري دماء في عروقي حتى يومنا هذا".
تعلم بنكيران، وهو لم يتعد الخامسة عشرة من عمره، على يد أمهر "الصنايعية" و"الحرفيين" بمدينة فاس، إذ كان والده يرسله إلى كل "المعلمين" ليتلقى دروسا نظرية وتطبيقية تعنى بأدق تفاصيل صياغة المجوهرات حتى يكون أهلا لحمل مشعل "حرفة سيدنا داوود"، كما كان يقول له والده.

تصاميم تسحر القلوب

مسار المجوهراتي بنكيران حافل بالإنجازات والعطاءات في مجال ابتكار تصاميم غاية في الجمالية سحرت قلوب الأميرات والأمراء من المغرب وخارجه يحفظ أسماءهم، لكن يتحفظ على ذكرها. وسبق لوالده الراحل أن أنجز قطعا عديدة لفائدة القصر الملكي عن طريق "الشركة المغربية للمجوهرات"، التي كان والده يملك بها أسهما خلال عهد جلالة المغفور له محمد الخامس.
ينفي بنكيران أن يكون الذهب فقد بريقه في الآونة الأخيرة لأنه معدن حاضر بقوة لدى كل الطبقات الفقيرة منها والمتوسطة والغنية وأنه يجسد دورين متناسقين أولهما يتجلى في التزيين وثانيهما سبيل لجمع المال لدى فئة قليلة من مستعمليه. وأوفياء اقتناء المجوهرات، في رأي بنكيران، طبقة ذات ذوق رفيع تعشق كل معاني الرقي والفخامة والتميز، مضيفا أن الحلي الذهبية في فترات سابقة كانت لها قيمة أكثر عند سكان المدن، أما البدو فكانوا أكثر إعجابا وافتتانا بالمعادن الفضية أو ما يعرف ب "النقرة"، ومنها الخلاخل.
أنجز بنكيران عدة قطع فريدة تداخل فيها ما هو فني وثقافي "الذهب ثقافة تعبر وتؤرخ لمجموعة من الحقب... وإذا كان الرسام لابد أن يرسم لوحة حتى يثبت أنه فنان، فصائغ المجوهرات فنان يستخلص من معادن خام لوحات تسحر العيون وتنفد إلى القلوب لتعشق جماليتها ودقتها المتناهية"، يقول بنكيران إن أي قطعة ينجزها تنم عن حس فني مقترن باجتهاد لمنحها هوية ثقافية نابعة من الحضارة والتراث المغربي.

5 ملايين قطعة

وإذا كان بنكيران يحيط كل قطعة بالعناية الفائقة في تصميمها، فإن العلاقة بينه وبينها تنتهي بمجرد أن تصير ملكا لزبون معين، إذ يؤكد أنه دائما يحرص على التجديد وابتكار تصاميم جديدة.
"صممت أزيد من خمسة ملايين قطعة، أغلبها نفيسة، خلال مساري المهني، إلا أنني لم يسبق لي أن رأيتها ولو مرة واحدة في حياتي"، يقول المجوهراتي، موضحا أن مصير تلك القطع أن لا ترى النور إلا في مناسبات خاصة لا تحضرها سوى علية القوم.
وزبائن بنكيران من العيار الثقيل لأنه ينفرد بتصاميم تعكس ما يطمحون إليه ويرفض أن يتم الكشف عنها لأي زبون آخر، وبالتالي يقصد ورشته زبائن من داخل وخارج المغرب، إضافة إلى إنجازه تصاميم وقطعا نادرة لأرقى بيوت المجوهرات العالمية.
ويكون مصير كل قطعة تصمم في ورشة بنكيران النسيان لأن أغلب الزبائن يرفضون أن نحتفظ بصورة لها أو تصمم قطع مماثلة لها إلى درجة أن بعضهم يقتني إلى جانبها التصميم الورقي (الموديل) ويدفع مقابله مبلغا كبيرا يصل أحيانا إلى أزيد من ثلاثين مليون سنتيم.

سحر الصنعة

ولا يخطئ أي عروسين العنوان إذا ما قررا اقتناء خواتم الزفاف نظرا للتشكيلة المتنوعة والتصاميم الجذابة المرصعة بأرقى الأحجار الكريمة إلى جانب حلي، يقول بنكيران، إنها تكون بمثابة مهر للعروس وتتمثل غالبا في "مضمة" نفيسة مرصعة.
ويبدي بنكيران سعادة كبيرة كلما أثنى الزبون على دقة تصاميمه واعترف بقيمتها الحقيقية "فقد يحدث أن يرفض بيع قطعة إذا لم يقدر زبون معين قيمتها الفنية ووجه إليه جملة من الانتقادات أحيانا بهدف تخفيض سعرها"، تقول ابنته كوثر بنكيران، المسؤولة التجارية بورشة والدها، موضحة أن هدفه ليس تجاريا.
"بالنسبة إلى تلبية حاجيات سوق الذهب نحن بخلاء، إذ لا نزودهم بالتصاميم لأنهم يلجؤون إلى إغراق المحلات التجارية بقطع مقلدة". ويقتني بنكيران المعادن والأحجار الثمينة التي يشتغل عليها من مؤسسة "موروك" أو البورصة المتخصصة في ذلك وكلها عبارة عن مواد خام يتم تحويلها إلى تصاميم غاية في الجاذبية بعد مرورها بمراحل متعددة عن طريق آلات التذويب وغيرها والأفران الخاصة... وتلعب الاختبارات بواسطة آلات متخصصة دورا رئيسيا في منح هوية إلى كل حجرة ثمينة أو نوع من البلوريات فبعد أن تلج بوابة الورشة مادة خام تغادرها ببطاقة مذيلة بمعلومات عن اسمها وخصائصها على مستوى الصلابة والحجم والضوء. ويوجد ملايين الأحجار الكريمة، حسب بنكيران، الذي يؤكد أنها لا تعد ولا تحصى، موضحا أن ظهورها مرتبط بأذواق النساء اللواتي تختلف اختياراتهن على مستوى الألوان والأشكال والأحجام.
وحدد المجوهراتي بعض أنواع الحجارة الكريمة الحاضرة في كل زمان ومكان ولا تعترف في قاموسها بخطوط الموضة أو موجاتها لأنها استطاعت فرض هويتها عبر العصور والأزمنة وتتجلى في الماس والزمرد والياقوت بكل ألوانه (الأصفر والأخضر والأحمر والبنفسجي...).
أما بخصوص المعادن فيشتغل على الذهب والبلاتين والبلاديوم ويزور الورشة الصنايعية من كل أنحاء المغرب لاقتناء أنواع من الحجارة النادرة التي تكون غير موجودة في السوق، كما جاء على لسانه، مضيفا "أنه حتى بائعي المجوهرات يقصدون ورشتنا لاقتناء هدايا لزوجاتهم". ترعرع حب المجوهرات في أحضان كل أفراد عائلة بنكيران، فحتى الذين اختاروا مجالات أخرى للاشتغال لا يخطئون التمييز بين المعدن والأحجار النفيسة ولو بالعين المجردة.
تقول كوثر إن عشقها للعمل إلى جانب والدها بدأ في سن مبكرة، فلم تكن تتعدى الثلاثة عشر ربيعا حين شرعت في تلقن مبادئ الحرفة لتقرر بعد حصولها على شهادة الباكالوريا متابعة دراستها في مجالها.
سارت شقيقتها هند على النهج نفسه فلم يكن واردا بالنسبة إليها اختيار أي مجال بعيدا عن تحويل مواد خام نفيسة إلى قطع فنية بامتياز. ويستعين حاليا بيت المجوهرات "شوبار" بخبرة هند التي تعكف على تزويده بتصاميم جديدة وتلقين حرفييه آخر المستجدات في التقنيات المستعملة.
"سيف السلام" الذي أسعد الحسن الثاني

يحكي بنكيران، في استحضاره للقطع النادرة المنجزة في مساره المهني، عن واحد من أبرز تصاميمه ويتمثل في "سيف السلام" الذي صنعه بمناسبة مرور 25 سنة من حكم الراحل الملك الحسن الثاني. "بأمر رسمي من جلالة المغفور له الحسن الثاني لأشارك في المسابقة. بالمناسبة قدم وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري إلى ورشتي لإبلاغي أنه ينبغي علي إنجاز قطعة فريدة، مؤكدا أن بيوتا رائدة وعالمية في صياغة المجوهرات مثل "بياجي" و"شومي" و"كارتيي" تتبارى للحصول على الجائزة".
وصنع بنكيران "سيف السلام" الذي نال استحسان الراحل الحسن الثاني، حسب تأكيده، إذ عند دخوله القاعة التي عرضت بها كل القطع المتبارية اتجه صوبه مباشرة.
"كانت فرحتي لا توصف بحصولي على الجائزة... وأغدق علي جلالة المغفور له الحسن الثاني الهدايا وقضيت وعائلتي عطلة في تارودانت وحظينا باستقبال رسمي من قبل عمالة المدينة ذاتها".
ويعد "سيف السلام" قطعة فريدة استعمل فيها بنكيران كيلوغراما و300 غرام من الذهب ومرصع بـ700 ماسة و16 وحدة من أحجار الزمرد النادرة وأرفقها بشفرة غير قابلة للتأكسد ويده مصنوعة من العاج.