قصة علاقة الفنان العالمي الخالد "جاك بريل " بالمغرب
أوال
نحن الآن وسط عاصفة جاك بريل التي هزت العالم، والمغرب، طيلة النصف الثاني من القرن الماضي. نحن، بالتحديد، في سنوات الستينات والسبعينات، نتسكع بين آخر أيام المغني الأسطورة،
التي عاش بعضا منها في المغرب... مغنيا... مغامرا... وعاشقا...
المغرب بلد ساحر. هكذا يخيل لكثير من عمالقة الغناء والموسيقى التجسيدية عندما يفدون إليه في جولات فنية أو زيارات سياحية. بداية القصة انطلقت مع الفرسني الأرميني الأصل، شارل آزنفور، الصوت الشجي الذي صدح ذات يوم بمسارح المغرب. أما السطور الأخرى للقصة فكتبها البلجيكي "جاك بريل" الذي جمعته بالمغرب قصة حب حقيقية.
الجولة الأولى
كان عمر جاك بريل عندما زار المغرب سنة 1956، لأول مرة، 27 سنة، راكم خلالها بريل شهرة مطلقة، جعلته ذا حظوة في العالم بأسره، حتى في صفوف المغاربة وآخر المعمرين الذين فضلوا البقاء في المغرب عقب الاستقلال الحديث.
حل جاك بريل بادئ الأمر بالدار البيضاء، سنة 1956، حسب ما يرويه الشاعر محمد الواكيرا، في إحدى شهاداته المضمنة في كتاب حول جاك بريل، أعدته السفارة البلجيكية في المغرب. أحيى المغني البلجيكي في جولته الأولى حفلا موسيقيا بساحة مصارعة الثيران "ليزارين"، بشارع آنفا، بالدار البيضاء، والتي استحالت اليوم إلى خراب وأطلال لمنازل المعمرين الإسبان.
عقب هذا الحفل، كان للرباطيين موعد مع المغني الأسطورة، بسينما -مسرح أكدال، والتي اختفت بعد ذلك أيضا، كما تؤكد أمينة الفاسي الفهري، وهي أستاذة الأدب الفرنسي وباحثة مختصة في إنتاجات المغني جاك بريل، وهو شغف أصابها عقب هذا الحفل.
زيارات بريل الأولى كانت خاطفة، رغم أنه قوبل خلال الحفل باستقبال حاشد من قبل عشاقه الذين تعرفوا عليه، من قبل، عبر أسطواناته التي كانت تصل إلى المغرب، أو الاستماع إلى أغانيه التي كانت تبثها الإذاعة المغربية، ضمن برنامج كان يعده الإعلامي علي حسن، بينما حظي بعضهم بفرصة مشاهدته عيانا خلال حفلاته ببلجيكا وفرنسا.
توالت جولات بريل بالمغرب كلمح البصر سنوات 1959، ثم سنة 1964، وهي السنة التي أحيى فيها بريل حفلات غنائية بعدة مدن مغربية.
في نونبر 1966 سيحل جاك بريل بالمغرب، للغناء، لآخر مرة. كان ذلك خلال جولته الأخيرة التي قرر بعدها الاعتزال عقب آخر حفل في فبراير 1967 بمسرح ال"أولمبيا" بباريس.
حفل الختام
جولة بريل الختامية بالمغرب انطلقت يوم السبت 26 نونبر 1966، بالرباط، ثم الخميس الموالي بالدار البيضاء، أما ليلة الجمعة فأحياها بريل بمكناس، قبل أن يعود للغناء بالرباط ليلة السبت، ويختم جولته يوم الأحد بحفل آخر في الدار البيضاء، وذلك حسب ما يرويه علي حسن، الذي حضر أربعا من حفلات بريل في المغرب. كما حظي بفرصة أول لقاء به خلال استجواب معه ضمن "نشرة المتابعات" التي كان يعدها المركز السينمائي المغربي.
كان الطيب الصديقي قد تولى مهمة إدارة المسرح البلدي خلال سنة 1965، كما أشرف على تنظيم حفلي بريل في الدار البيضاء. اتفق الصديقي مع بريل على مبلغ 10 آلاف درهم مقابل الحفل، أجر سيتبرع به بريل لخيرية عين الشق آنذاك، عقب الحفل.
لم يكن هاجس الأجر حاضرا ببال جاك بريل، كما يؤكد الصديقي، بدليل أنه تكفل بأداء ثمن تذكرة حضور حفله لفائدة شباب رمقهم بريل محتشدين أما المسرح البلدي محاولين التسلل لمتابعة الحفل. خلال مقامه بالبيضاء، سيعلن المغني الشهير حبه للمغرب، إذ أتيح له وقت كي يزور المدينة القديمة، طيلة فترة نهاية الأسبوع، كما تسكع بين شوارع البيضاء والمحمدية. هنا سيعثر على مكان شغفه، ماخور "سفانكس" بالمحمدية، ويلتقي بملهمة إحدى أغانيه: "مدام أندري"، مسيرة الماخور في تلك الفترة.
"مدام أندري"
ظل جاك بريل يتردد على ماخور "سفانكس" بالمحمدية طيلة مدة إقامته بالدار البيضاء. لم يكن يضاجع العاهرات اللاتي كان المكان يعج بهن، بل كان يأتي إلى هنا بداعي همس داخلي، توق خفي لهذا "البورديل" الذي كان يضج بالزوار الكثر، خاصة من عيلة المعمرين وكبار الشخصيات السياسية والعسكرية، على اعتبار أن ماخور "سفانكس" اختص في تقديم خدمات الدعارة الراقية.
هذا الهمس الداخلي ضمنه بريل في إحدى أغنياته الشهيرة: "Jef"، والتي يقول جاك بريل في أحد مقاطعها: "وإن بقيت حزينا... سنزور الفتيات عند "مدام أندري"، فيبدو أن لديها الجديد... نغني معا... ونكون أفضل كما كنا... حينما كنا شبابا... حينما كان الزمن... عندما كان لدي مال".
يخاطب بريل صديقه "جيف" في الأغنية التي تحمل ذات الاسم، والتي ترادفت كلماتها تعزي الصديق "جيف" في هجران حبيبته له، وفي خضم المواساة يستحضر بريل إحدى لحظات منعنه بالمغرب، إذ يروي بعض مجايلي المغني البلجيكي أن بريل كتب كلمات هذه الأغنية بمذكرة، متكئا على الحائط الخلفي للماخور، متمثلا شخوص الماخور وجوهم الموسومة بالحياة والصخب واللذة، ومستحضرا "مدام أندري" مديرة الماخور، بحضورها المؤثر في رحل بريل مرة أخرى. هذه المرة أخذ صوته الصادح معه مقررا اعتزال الغناء، بعد حفل أحياه بباريس، التي ألف أن يختتم بها جولاته الغنائية. سنوات راحة قليلة عاشها بين شوارع باريس وبروكسيل، تتقاذفه ذكريات حياته، نوستالجيا إنسانية بثها بريل في أغانيه. لكن حبل الود مع المغرب لم يكن قد انصرم، بل ظلت ذكرياته بالبيضاء والرباط و"سفانكس" ترتاده، إلى أن قرر القيام بآخر زيارة للمغرب سنة 1973، قادته، هذه المرة، إلى مراكش.
آخر زيارة
في يونيو 1973 سيلبي جاك بريل دعوة وزارة السياحة المغربية لحضور مهرجان مراكش للفنون التقليدية. في هذا التاريخ أيضا سيحظى علي حسن بشرف مقابلة بريل مرة أخرى. لم يحدث اللقاء خلال مرور النجم البلجيكي فوق البساط ا؛لمر، أو في ردهات المسرح الذي احتضن المهرجان، بل في زوايا أخرى بعيدة، "لم يكن بريل يحب الأضواء أو ملاحقته من قبل الصحافيين، حتى أنه لم يكن يفضل أن يدور حديث بينه وبين معجبيه، حول أعماله"، يوضح علي حسن في حديثه ل"أوال".
بعد انتهاء علي حسن من إعداد روبرتاجات حول المهرجان، ذهب إلى حانة بفندق السعدي. كانت الساعة تشير إلى الرابعة زوالا، عندما دخل جاك بريل رفقة المنتج إيدي باركلاي. حينها رفع حسن كأسه مخاطبا بريل: "أتشرف بالشرب في نفس المكان الذي يوجد فيه جاك بريل"، ليأخذ بريل كأسه قارعا به كأس علي حسن.
في المساء، التقى جاك بريل وعلي حسن مرة أخرى، وسرعان ما ظهرت ألفة بينهما، كما يروي حسن، الذي قضى مع بريل خمسة أيام زار خلالها المغني البلجيكي مراكش وكلميمة. "عبر لي بريل عن رغبته في العيش بمكان لا تظهر فيه علامات التحضر، كما أبدى إعجابه بمنطقة كلميمة، مشيرا إلى أنه كان يخشى من اهتمام السلطات المبالغ فيه به"، يردف حسن.
يحكي علي حسن أنه بدا على جاك بريل استغراب كبير عندما علم أنه يشتغل صحفيا ,وهو ماجعله يسأل في آخر لحظة قبل عودته إلى فرنسا " لماذا لم تسألني عن عملي ؟" فأجابه حسن " لم أجد ضرورة لذلك " فرد عليه بريل "أنت من بين الصحفيين القلائل الذين قضيت معهم أكثر من 24 ساعة لأنك لم تطرح علي سؤالا حول مهنتي.
عاد بريل إلى فرنسا ,حيث قضى فيها آخر سنواته بعد زيارته للمغرب في 9 أكتوبر 1978 بمدينة " بوبيتيي" الفرنسية.
مات بريل جسدا وظل حيا في أغانيه التي ألف أشهرها هنا في المغرب.
أغان ألفها "بريل " في المغرب
ليس جزافا أن يؤكد المقربون من جاك بريل أن قصة حب حقيقية جمعت بين هذا الفنان الأسطورة والمغرب, يظهر ذلك من خلال شهادات مجايلي بريل الذين اكدوا ان المغني البلجيكي قد استلهم بعض أغانيه من المغرب. كانت مع أشهر اغنية دخل بها بريل تاريخ الموسيقى , واختيرت ضمن أفضل أغاني القرن ,أغنية: ne me quitte pas التي ألفها بريل سنة 1959 بعد مدة قصيرة من فراقه لعشيقته المغنية والممثلة " سوزان غابرييلو" .
بعض رفاق بريل في رحلته إلى المغرب وبالضبط خلال إقامته بالدار البيضاء أكدوا أن بريل ألف هذه الاغنية الشهيرة على متن القطار بين محطتي البيضاء والمحمدية.
هذه الأغنية الخالدة هي احدى المقطوعات التي تضمنها ألبوم جاك بريل والذي يحمل إسم " la valse a mille temps " . وهي أيضا إحدى أشهر اغنيات بريل والمؤلفة كذلك في المغرب , مايؤكد مدير أعماله " فرانسوان أوبير" وصديقه " أوليفيي طود " في كتابه " حياة".
الشاهدان يذكران أن جاك بريل ألف هذه الاغنية خلال رحلة برية في زيارة أخرى مابين سنتي 1960 و 1962 بالضبط عندما كان متوجها إلى الرباط قادما من طنجة . كان بريل نفسه هو الذي يسوق السيارة مخترقا فجاجا ومنعرجات بطريق طنجة. هذه المنعرجات كان لها ايقاع خفي استشعره بريل وترجمه كتابة في اغنية " la valse a mille temps " . إنها رقصة فالس منتشية محسوبة الخطوات تارة مبعثرة مرتجلة تارة اخرى , هادئة ناعمة أحيانا , ضاجة وعرة وعورة ومنعرجات الطريق التي قادت بريل من طنجة إلى الرباط ومنها إلى قلوب المغاربة حتى اليوم.