التغيير الديموقراطي في العالم العربي
الحكام العرب ولعنة "أحجار الدومينو"
أظهرت الأحداث المتسارعة التي انطلقت شرارتها من تونس وسرعان ما انتقلت إلى مصر أن الأنظمة العربية المترهلة ليست أكثر من "أحجار دومينو" تنتظر من يحركها لتسقط الواحدة تلو الأخرى لافتقارها إلى شرعية شعبية ضاربة في تربة شعوبها، كما يرى الإعلامي عماد غانم.
2011.....ربيع الشعوب العربية وزمن تهاوي الأنظمة الديكتاتورية
لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار الاحتجاجات التي تشهدها مصر، امتداداً لتلك المظاهرات والاحتجاجات التي كانت تشهدها القاهرة بين الحين والآخر منذ سبعينات القرن الماضي. وبالتالي لا يمكن فصلها، من حيث التوقيت والحجم والمطالب على الأقل، عن "ثورة الياسمين"، التي ألهمت الشعوب العربية من الجزائر إلى اليمن مروراً بالأردن والسودان للخروج إلى الشارع مطالبين بحقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية، غُبنت طوال عقود طويلة من حكم العصا الغليظة.
لم تصبح مطالب الشعوب تقتصر على تغيير قانون ما أو إصلاحات زائفة خرقاء، لا تهدف في النهاية إلا إلى ملء جيوب الحاكم وحاشيته ومضاعفة أعداد الفقراء، بل باتت تمتد إلى أكثر من ذلك، إلى إسقاط الأنظمة بكل وجوهها القبيحة. ولم يعد بالإمكان إسكات جيوش الفقراء والعاطلين والمعدمين بتغيير مكان الأحجار على رقعة الشطرنج. هذه الأنظمة باتت عاجزة عن إدراك التغيير، فمبارك يرى في التغيير التراجع عن قانون الضمان الصحي وزيادة أجور العاملين وتغيير بعض وجوه نظامه، في وقت تنخر فيه المشاكل في بنية المجتمع واقتصاده، ولا يحلها إلا أن تُطوى صفحة هذا النظام بعقوده الثلاثة. فتبديل بعض الأشخاص لا يغير الأنظمة ولا سياساتها، لا يقضي على مخلفات الاستعباد والاستبداد والفساد الذي امتد لعقود.
إن "ثورة الياسمين" أعادت للشارع العربي الثقة بنفسه وأوضحت جلياً أن "الكلمة الجماعية" أقوى من بنادق الطغاة، الذين باتوا عاجزين عن استيعاب مشاكل مواطنيهم وهمومهم. حسني مبارك من الأمثلة، التي ما زالت حية، لهؤلاء الحكام، فهذا الكهل في عقده الثمانين فقد كل صلة له بالواقع اليومي المعاش للمصرين، وبات يحكم بلاده طول السنوات العشرة الماضية من مقره الرئاسي "السياحي" في شرم الشيخ بعقلية المنتجع السياحي. وحتى في هذه الأوقات العصيبة على المصريين جميعاً، سواء أكانوا من مواليه أم من معارضيه، لم يبارح منتجعه السياحي.
إن الرئيس المصري حسني مبارك لم يعد - في عقده الثامن- يعرف أن الكيل قد طفح بزيف مسرحيات الانتخابات المفضوحة والمزيفة والشعارات البرَّاقة، التي طالما روجت لها وسائل إعلام الأنظمة على مدى عقود من الانغلاق الإعلامي والسياسي. فثورات اليوم لا تحركها أحزاب معارضة حالمة بالمناصب والسلطة، بل تقوم على ثورة من نوع آخر، ثورة تويتر وفيسبوك والفضائيات وعصر العولمة، ونهضة المعرفة والمعلوماتية الموثقة بالصوت والصورة. وكما أظهرت الأحداث في تونس ومصر فإن ثورة الإعلام الجديد بدأت تظهر تزوير الواقع المعاش وتزييف التاريخ والحقائق، التي طالما صمتت عنها ميكروفونات الأنظمة مصورة الهزيمة في الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على أنها إنجازات والخيانة انتصارات.
"كلام فارغ"
ما حدث في مصر وتونس يعد محطة مفصلية في تاريخ المنطقة العربية
ما جرى في تونس وامتد إلى مصر الكنانة كان سريعاً ومفاجئاً وإستراتيجياً إلى حد أنه أضحى محطة تاريخية فاصلة، فللمرة الأولى عربياً تحدث ثورة جماهيرية سلمية على غرار تجارب شعوب أخرى كإيران والفلبين. وهذه الثورة الجماهيرية، البعيدة كل البعد عن دبابة العكسر التي تسيطر على الإذاعة لبث البيان رقم واحد، قد تؤسس لمنظومة عربية جديدة على أساس من المواطنة والعدالة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
وحين بات الكلام عن التجربة التونسية على كل لسان، أطل أحمد أبو الغيط، وزير خارجية نظام الفرعون العجوز، في القمة العربية الاقتصادية، التي انطلقت أعمالها في 19 كانون الثاني/ يناير 2011 بشرم الشيخ، ليرد بالقول على الأنباء والتوقعات والتحليلات، التي تحدثت عن امتداد أحداث تونس إلى بلدان عربية أخرى، بأن هذا كله مجرد: "كلام فارغ". كلام فارغ، بالفعل، "مقارنة الأوضاع الاجتماعية في تونس بتلك المهيمنة في مصر، فلكل مجتمع ظروفه"، كما قال الوزير.
ما نطق أبو الغيط إلا حقاً، من حيث لا يدري، إذ إن تونس تختلف عن مصر، فبلاد الزيتون تعد نموذجاً اقتصادياً ناجحاً منفتحاً على التنمية وتدفق الاستثمارات، حتى إنها باتت خلال الأعوام الماضية أول البلدان العربية، سواء كانت مصدرة للبترول أم لا، في استقطاب الاستثمارات. كما أن صندوق النقد الدولي قدّر عام 2009 معدل نصيب الفرد التونسي من الناتج المحلي الإجمالي بحسب القوة الشرائية، بأكثر من ثمانية آلاف دولار في مقابل أقل من ستة آلاف في مصر. وكبير الدبلوماسية المصرية يعرف تمام المعرفة مدى انعكاس ذلك على المجتمع وأفراده. إن مشاكل مصر تمتد جذورها إلى ثلاثين عاماً إلى الوراء.
مبارك بات يحاول اليوم، في رهان أخير ربما، يعول على إشاعة عدم الأمان والاستقرار في شوارع مصر وحواريها ومراكزها التجارية، اقتداءً بالرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي وحرسه الرئاسي. لكن قد يكون فاته ربما أن سياسة الأرض المحروقة وربط مستقبل البلد بمصير نظامه، التي انتهجها من قبلهما الرئيس العراقي السابق صدام حسين، لم تأت أُكلها، فالعراقيون أدركوا - ربما قبل غيرهم- أن النظام لم يحفظ يوماً أماناً ولا استقراراً، بل كان يحاول كل جهده التعتيم على حالة عدم الاستقرار هذه.
فالقتل والسلب والتنكيل يُمارس منذ اليوم الأول لهذه الأنظمة، في السجون والمعتقلات وخلف كواليس النظام نفسه. وحين يسقط النظام تسقط كل هذه الكواليس معه، لينتقل القتلة والسارقون من أروقة السجون إلى شوارع المدن الموهومة بالأمان. وفي النهاية فإن سقوط الحاكم ومخبريه وجلاديه لا يعني بالضرورة سقوط الحياة المدنية في حالة من الفوضى، لأن هذه الأنظمة هي من أسس لهذه الفوضى من خلال سياسات اقتصادية تجاهلت المشاكل الاجتماعية وغيبت الشعور بالمواطنة والنظام العام بعيداً عن هراوة الرقيب.
الحجر القادم
غيرت الثورتين المصرية والتونسية من صورة العلاقة بين الجيش والشعب
الأنظمة العربية، سواء كانت بأثواب ملكية أو جمهورية، سارعت إلى من خلال وسائل إعلامها البعيدة عن الموضوعية، التي ما زالت تفرك عيونها لتبصر وتصدق أن الشباب العربي قد حقق بلحظة خاطفة ما خال لها أن الشعوب العربية القاصرة غير قادرة على إنجازه، سارعت إلى الاصطفاف متناسية صراعاتها ومشاكلها. واعتبرت أن تقديم بعض الأرغفة الإضافية وكلمة "فهمتكم" والوعود بالمراجعات والإصلاحات كافية لتطويق غضب الشارع ويأسه.
الملك السعودي مثالاً فقد بادر، من "منتجعه" في المغرب هو الآخر، إلى إعلان وقوفه إلى جانب مبارك، في خطوة أربكت وسائل إعلام بلاده التي كانت قد تحدث في الأيام الماضية بإعجاب عما يدور في أرض الكنانة. وتأخر صدور إعلان الملك عبد الله، لا يعود إلى جدل بين مستشاريه وأركان حكومته و"أخوته"، بل إلى كهولة الحكومة السعودية نفسها، التي باتت في الآونة الأخيرة تُدار من أسرة مستشفيات الولايات المتحدة وأوروبا ولا تصدر بياناتها إلا وهي مفعمة برائحة خلطات الأدوية، بعد أن يسمح الأطباء لرموزها بممارسة مهام الحكم والدولة لساعة أو ساعتين.
وما يبقى أمام المصريين إلا الإصرار على مطالبهم المشروعة اعتماداً على قوة التظاهر السلمي، الذي كسر هراوات الأمن وعصيه، حتى يسقط الحجر المصري، الذي سينقل احتجاجات الشارع من المغرب العربي إلى المشرق. فالأنظمة العربية، رغم تنعمها بالسلطة والجاه والثروة، تربطها لعنة مشتركة، وهي تشابه ممارساتها التسلطية من جانب، وتشابه مشاكل شعوبها على مختلف الأصعدة من جانب آخر. وستظهر الأيام القليلة القادمة بأي اتجاه يسقط الحجر المصري، صوب الجزائر، الأردن، سوريا، السودان أم اليمن؟
عماد م. غانم
مراجعة: هشام العدم