عبد الواحد الراضي وجهان.. وعملة واحدة
محمد الهرادي
عادة ما يوصف عبد الواحد الراضي من طرف خصومه الحزبيين في المكتب السياسي بأنه "رجل المخزن" داخل حزب الاتحاد الاشتراكي، وهي صفة ظاهرها ذم، وباطنها مديح سياسي، وتكشف في نفس الوقت عن ازدواجية دفينة تحدد هوية هذا الرجل، فقد عاش الراضي كل حياته خديما للمخزن، مع أن الحزب الذي ينتمي إليه ويقوده اليوم هو فقط في بداية تدريباته على الحكم بعد حياة طويلة في المعارضة، وفي حالة الراضي، فإنه لا يوجد أي تعارض بين خدمة الدولة من جهة، وانتقاد هياكلها وحتى بتر أعضائها الفاسدة من جهة أخرى، وحياته المتصلة بالحزب والمليئة بمهام في خدمة الدولة تكشف وتؤكد ذلك، وربما كانت صفة "رجل المخزن" هي التي حسمت انتصاره ضد منافسيه ولعلو والمالكي في انتخابات رئاسة الحزب خلال المؤتمر الثامن، وحددت بالتالي اختيار بقاء الحزب خارج المعارضة، كي لا نقول داخل الحكومة.
ومع ذلك، لا تتطابق صورة عبد الواحد الراضي مع رجال المخزن كما عرفهم المغرب القديم، من أمثال الوزير باحماد والمنبهي وغيرهم... قد يقترب قليلا من ملامح سي فضول غرنيط، ذلك الوزير العزيزي ال1ي كانت له نظرة "ثعلب" تكشف عن حقيقة الأشياء من بعيد، لكنه بالتأكيد لا يشبه الفقيه الحجوي ولا غبريط، ولا أيا من قواد الاستعمار الذين كانوا يحكمون منطقة الغرب ويعرفهم آل الراضي حق المعرفة.
ومن المؤكد أن قواد الغرب وبني حسن والشراردة من أمثال النجاعي والرميقي وعبد المولى... يوجدون في خلفية صورة عبد الواحد الراضي وفي جزء من سيرته السياسية، شاء ذلك أم أبى، وعلى الأقل، فإن والده واحد منهم هو القايد أحمد الراضي الذي وضع اسمه في بداية الاستقلال ضمن ظهير يضم القياد الخونة الموالين لابن عرفة، وكان المطلوب وقتذاك مصادرة أملاكهم، ومع ذلك ما زال أحد أبناء القايد الراضي، وهو إدريس، يعتبر اليوم من كبار ملاك الأراضي والمستفيدين من تفويتات الملك الغابوي بشكل غر مسبوق في منطقة الغرب، ليس بسبب السلطة السياسية للأخ البكر عبد الواحد، الرئيس الحالي للبرلمان، بل لقوة العشيرة التي لها حضور قوي في كل مجالات السلطة والنفوذ المحلي، النابع من حجمها الاقتصادي المبني على الريع.
لذلك فإن من يعرف مناطق الغرب الممتدة حول حوض سبو يدرك بالملموس كم كانت القبائل الهلالية القديمة ظالمة حين اقتطعت لنفسها الأراضي بموجب صك تفويت لا قيمة له من الفاطميين منذ القرون الخوالي، ومن الغريب العجيب أنه في هاته المنطقة، التي تهاب المخزن ويسودها الإقطاع والاستعباد والجهل، ينجح المرشحون الشيوعيون والاشتراكيون في الانتخابات، وقد حدث ذلك بالنسبة لعبد الواحد الراضي منذ انتخابات 63، وما زال يحدث حتى في آخر انتخابات جرت بالمغرب (شتنبر 2007).
الراضي، إذن، هو سليل أسرة من القواد الكبار والإقطاعيين المالكين للأراضي ومع ذلك فهو لا ينتمي إليهم بشكل نمطي كما هو حال منصور النجاعي، الاستقلالي، منتج الحوامض في الغرب،أو عباس القباج، الاتحادي، صاحب الاستثمارات الفلاحية الكبرى في حوض سوس، وهما معا كانا من أباطرة "مكتب التسويق والتصدير" المأسوف عليه. بالعكس، الراضي عاش طفولته في ضيعة الوالد المحاذية لسلا لأهداف عملية، وهي متابعة الدراسة في "المركز"، ولكنه أصبح بعد ذلك وطنيا ضمن مناخ بدايات الاستقلال، ثم اشتراكيا منذ بداياته الأولى حين التحق بفرنسا ليدرس "علما" يعتبر من الكماليات هو الفلسفة، فيما كان أولاد البرجوازية القروية يدرسون آنذاك الطب والهندسة والاقتصاد والقانون. وقتها عاش الراضي إرهاصات الانفصال عن حزب الاستقلال في 59، وأبان عن جرأة وعزيمة في المؤتمر الثاني لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 62، ومثل منذ ذلك الوقت، وهو عضو باللجنة الإدارية للحزب صحبة عمر بنجلون وفتح الله ولعلو واليازغي والخصاصي، الصفوة المثقفة من جيل جديد يقود الحزب.
في باريس، قبل ذلك، أي إلى حدود استقراره النهائي بالمغرب أوائل الستينات، تعرف الراضي على ما يمكن تسميته ب"الملف المغربي" وعلى الرجال المحركين لهذا الملف، مغاربة وفرنسيين، وفي "زنقة المدارس"، حيث يوجد "بيت المغرب" بباريس، سيكون همه اليومي هو تدبير النقاش الطلابي بين الفصائل المتصارعة في "لونيم" (الاتحاد الوطني لطلبة المغرب)، المدرسة الكبرى لفرز القيادات السياسية للمغرب آنذاك، وبقيت كذلك إلى حين انطفائها، وفي هذه المدرسة سيتعرف الراضي على هويته السياسية بشكل معمق، هي هوية لا مكان فيها لأخطاء الأب، إن كانت لديه أخطاء، وفي نفس الوقت، سيكتشف الآخرون مزاياه المتعددة، ولا مجال في هذه المزايا لعملية تكفير مستمر أو إثبات لوضع شخصي.
وكانت انتخابات 63، التي جاءت بعد أول دستور قدم للمغاربة سنة قبل ذلك وتم الاستفتاء عليه في ظروف عرفت نقاشات صعبة، تمثل تحديا واختبارا كبيرين لاقتناعات الراضي السياسية: من جهة، تحديا "للفديك"، الوافد الجديد برئاسة رضا كديرة الذي عين وقتها وزيرا للداخلية والفلاحة وجمع حوله تحالفا هشا، ومن جهة ثانية، مثلت تلك الانتخابات بجزأيها المحلي والتشريعي اختبارا لفرص الحزب في الحصول على أصوات "فلاحين" بلا أرض، يتقدم أمامهم شاب يساري يدرس علم النفس الاجتماعي ولا يتجاوز عمره الثامنة والعشرين وينتمي إلى عائلة إقطاعية، وما عرفته تلك الانتخابات من تزوير مكشوف، فقد كان النجاح حليف عبد الواحد الراضي هو وآخرين ينتمون إلى نفس الجيل الشاب وترشحوا تحت جناح الاتحاد الوطني، وذلك قبل أن تتفرق بهم السبل نتيجة الانشقاقات ودسائس السلطة وإغراءاتها. لكن محاكمات يوليوز 63 فيما سمي وقتها ب"المؤامرة"، وحرب الحدود مع الجزائر، وصعود نجم أوفقير، وحدة النقاش داخل البرلمان حول حجب الثقة عن الحكومة بموجب ملتمس الرقابة والمنقول مباشرة عبر التلفزيون الفتي، إضافة إلى أحداث الدار البيضاء وما آل إليه الأمر بعد ذلك بإعلان حالة الاستثناء في 65... كل ذلك منح الراضي خبرة حول طبيعة الصراع على السلطة في المغرب بشقيها المادي والرمزي، وكان على الراضي أن يمنح نفسه مهلة للتفكير ولإعادة تكوين ذاته، وسيجد نفسه في فترات كثيرة تتسم بالحذر والتوجس السياسي أنه مجرد أستاذ بكلية الآداب بعد أن حصل من السوربون على دبلوم الدراسات العليا في علم النفس الاجتماعي حول موضوع له علاقة بحركة وتحولات الشبيبة المغربية، ولم يكن وقتها "عالما" بالمعنى التقليدي ولا العصري، بل كان مجرد إيدولوج، يفترض أوهاما نظرية على واقع مغربي غير مدروس ميدانيا، وهي الملاحظة التي استخلصها طلبته القدامى في مركز تكوين المفتشين بباب تامسنا بالرباط. كان الراضي من النوع الذي يغير سيارته باستمرار ويملك القدرة على جمع أغراضه في حقيبة السفر خلال دقائق، وقد سافر مرارا وعبر السنوات إلى باريس برا عبر إسبانيا صحبة زوجته، وأحيانا يبدو كالهارب من لسعات السلطة التي كانت تعتقله ثم تعرض عليه الهروب إلى الجهة التي يختارها، ولم يسقط في الفخ، وما أكثر الفخاخ التي صادفته. وفي باريس، التي تعرف التفاصيل عن المغرب أكثر مما يعرف المغاربة في الداخل، سينصهر مع رجالها المتحكمين في خيوط اللعبة المعقدة مع النظام ورجاله، وأصبح الراضي تبعا لذلك جزءا من مجموعة فاعلة تتحرك بين منفيي أوربا الغربية ورجال الحزب في الداخل وقد كبلتهم حالة الاستثناء، ولم يبق لديهم غير بعث "الكتلة الوطنية" القديمة والتحرك على الساحة النقابية، وكان صاحبنا الراضي ضمن "مجموعة الرباط" التي حركت السواكن، وكان من بين أعضائها عمر بنجلون، اليازغي، ولعلو، والخصاصي... الدور الهام الذي قامت به هذه المجموعة، منذ 67 إلى 72، تمثل في الانتقاد العنيف لعمل السكرتارية الدائمة للعمل والتنسيق التي كانت تحاول إنجاز وفاق بين المحجوب بن الصديق والاتحاد الوطني للقوات الشعبية وفق برنامج عمل جديد، والدعوة إلى عقد مؤتمر وطني للحزب، وتحديد موقف من عبد الله إبراهيم ذاته، ودفع عبد الرحيم بوعبيد في اتجاه إقناعه بتجميد عضوية الحزب في "الكتلة الوطنية" التي وقعت مع حزب علال الفاسي في مبنى لوبنيون بشارع علال بنعبد الله بالرباط وأخيرا محاولة إنقاذ تدهور (لونيم)، المنظمة الطلابية. لكن خلاصة كل ذلك هو تلك العبارة التي استعملها عبد الله إبراهيم ذد هذه النخبة، إذ اعتبرهم "مجرد انتهازيين متعطشين إلى الحكم"...
لكن التعطش إلى الحكم هو بالفعل عمق العمل السياسي، وتلك حقيقة يعرفها الراضي واليازغي عن قرب، فالراضي، الذي قض سنوات في التدريس ولم يكن "نجما" سياسيا لأنه لا يحب الظهور والكلام واعتاد العيش في خيمة الظلال حيث لا حس ولا خبر، كان قد كون لنفسه ولحزبه شبكة من العلاقات الهامة مع رجال متنوعين في الدولة كان من المستحيل مثلا على اليازغي، الذي ظل دوما منافسا له، اختراقها، وأصبح بفضل تلك الشبكة وسيطا بارعا يراعي تقاليد المخزن وهو يحرك الخيوط من تحت، سواء في الفترة التي سبقت الانقلابات على الحسن الثاني أو بعد تأسيس الاتحاد الاشتراكي بفضل دينامية "مجموعة الرباط"، وقد كان هو من ضمنها.
وستتبلور ملامح الراضي السياسية الطموحة إلى تقديم خدماتها للدولة بشكل نهائي في أوائل الثمانينات (1983) حين شارك في حكومة كريم العمراني بصفته وزيرا مكلفا بالتعاون، وهي الحكومة بصفته وزيرا مكلفا بالتعاون، وهي الحكومة التي سيدخلها عبد الرحيم بوعبيد وعين فيها وزيرا للدولة بدون حقيبة صحبة كل رؤساء الأحزاب باستثناء علي يعتة، وانتصرت وقتذاك تجريبية الحسن الثاني السياسية وهو يعيد رص الصف الداخلي بإدماج كل الأحزاب الموجودة تقريبا في حكومة واحدة.
لكن الراضي، الذي تم اختباره جيدا، كان قد أصبح موضع ثقة الحسن الثاني كما هو حال المهدي العلوي والحبيب المالكي وآخرين... ومع أن الثقة لست مطلقة، فقد كان له دور حساس حين عين كاتبا عاما للاتحاد العربي الإفريقي الذي أسس في 84 ضمن صفقة مع ليبيا من أجل امتصاص دعمها لجبهة البوليساريو في حربها مع المغرب، وتقريبا كان للراضي نفس الدور عند تأسيس اتحاد المغرب العربي بعد ذلك، واعتبر أيضا طيلة فترة إقامته الطويلة على رأس مجلس النواب على انفتاح الملكية المغربية على معارضتها، ودليلا على تعديلاتها واختيارها الديمقراطي، وكان شخص واحد من حجم الراضي يعتبر أحيانا بمثابة الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، وها هو الاستثناء قد أصبح قاعدة ثابتة لأن الراضي عاد منذ شهور إلى رئاسة مجلس النواب الذي لم يجد له المرشح المناسب، وقد كان وزيرا للعدل، وهو قميص لا يناسب مقاسه كرئيس لحزب كبير.
ولحسن الحظ فالراضي لا يتكلم كثيرا لا يشبه زعيما يحمي منصبه بديماغوجيا مبتذلة، قد لا تسعفه الأفكار الجديدة كمعظم رجال الدولة اللذين ألفوا الحكم وشاخت قدراتهم العقلية، لكن موقعه ككاتب أول للاتحاد الاشتراكي ينبغي أن يخرجه عن صمته كي يواجه حقائق جديدة تتفاعل حوله في مغرب اليوم، وأن ينصت بجد إلى التيارات الداخلية التي تنساب تحت أركان بيته الاتحادي، وإذا ما الذي سيقوله الراضي لتاريخه الخاص بعد أن أصبح يدير تركة الاتحاد؟ ما الذي تفكر فيه تيارات الحزب التي تحاصرها أحلام إصلاحات دستورية شبه مستحيلة؟ وكيف سينقذ الراضي حزبه من ذاته؟ ومن آفة فراغ الصناديق الانتخابية التي تنتظره؟ تلك بعض من أسئلة الأمس التي لا يملك أحد إجابات لها، فما بالك بأسئلة اليوم، وأسئلة الغد...؟
محطات
• 1935:
ازداد بسلا
• 1963:
نائب برلماني
أستاذ علم النفس الاجتماعي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط
• 1974 - 68:
كاتب عام للنقابة الوطنية للتعليم العالي
• 1985 :
وزير مكلف بالتعاون
• 1984 – 1986:
أمين عام الاتحاد الغربي الإفريقي
• 2009:
الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات
• 2010:
رئيس مجلس النواب حاليا، وتولى نفس المنصب خلال الحكومتين السابقتين
مجلة أوال