سونيا حجازي
العلاقة بين العلوم والتكنولوجيا والعولمة في العالم العربي
مقدمة
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 اتسمت بعض ردود الفعل في العالم العربي بالإعجاب، وهو أمر لم يكن بوسع الغرب أن يفسره بسهولة. هل رقص حقيقة مواطنون عرب في الشوارع من باب الشماتة؟ وقد دل النقاش حول مدى صحة الصور التي أظهرت فلسطينيين يرقصون في المناطق المحتلة على أن الصور وإن التقطت بعد تلك الأحداث، إلا أن بثها المتواصل في محطة سي إن إن أدى إلى إعطاء صورة مشوهة بشأن تقييم ردود الفعل العربية. هل أصبحنا أخيرا شهودا على ما يسمى "صراع
سونيا حجازي، الصورة: الأرشيف الخاص
الحضارات"؟ أم أن الأمر لم يتعد كون ضحايا
سونيا حجازي، الصورة: الأرشيف الخاصالعنف والتشريد في المنطقة قد
عبروا عن أملهم في الحصول على المزيد من التعاطف والتضامن؟
فيما يلي سيتم طرح نظرية مدلولها أن أسباب ردود الفعل هذه على أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول تعود إلى كون الكثيرين في العالم العربي يشعرون بأن ظاهرة العولمة قد مرت عليهم مرور الكرام. وبالامكان تفسير هذه الرؤية بناء على دراسة أعدها عالم السياسة الأمريكي ريتشارد فالك Richard Falk لاغني عنها لتفهم تلك الأحداث بعنوان "جيوسياسة الإبعاد" . لكن الأمر يختلف في حالة العلوم والثقافة حيث تؤدي هذه الرؤية إلى "الإبعاد الذاتي" نظرا لما تحتويه من إهمال لعامل التأثير العربي نفسه على الحضارات الغربية. من المهم أن نفهم بأن الإعجاب لم يكن موجها للقتل الجماعي الإرهابي بل لكمال التنفيذ وفاعلية التأثير الإعلامي للصور المعروضة أي لإتقان ما يسمى بالتكنولوجيات الغربية. إن البراعة التكتيكية التي لم تغب عن ذهن كافة المراقبين بصورة شعورية أو لاشعورية والتي خلقت بعض الانحراف الفكري في أوروبا أظهرت العالم العربي ولو لفترة زمنية قصيرة كما لو كان جزءً من اللعبة.
موضع التقدير عامة في العالم العربي كان موجها نحو النخب الطلابية التي أنهت دراستها بنجاح في الغرب وأتقنت بالتالي التكنولوجيات الغربية. فهذه النخب القادمة من البيئة العربية نجحت في الاندماج في مجتمعات الغرب إلى درجة اعتبار أفرادها "خلايا ساكنة مرحليا" ("Schläfer"). إن الرفض المطلق لكل ما هو غربي يشكل الوجه الآخر المعاكس للرغبة في الاندماج والاستفادة من محاسن التحديث بما في ذلك "الطريقة الأمريكية في الحياة American Way of Life"، الملاحظ بسهولة تأثيرها على فن "Pop" العربي. اختلطت مظاهر الإعجاب بمرتكبي تلك العمليات بعبارات تنم عن الاحساس بالنقص. فكثيرا ما ردد البعض بأن أسامة بن لادن لا يمكنه أن يكون المسؤول عن تلك الأحداث بحجة أن المسلمين لا يتقنون التكنولوجيات اللازمة.
لم يفرز التحديث التكنولوجي في القرن العشرين أحاسيس الريبة والحيرة لدى المجتمعات ذات السمة الاسلامية وحدها. فالعلوم ينظر إليها في شتى أنحاء العالم على أنها ظاهرة تخلق بناء على العالم هوبسباوم Hobsbawm أربعة أشكال من الأحاسيس: العلوم هو شيء لا يمكن فهمه. نتائجها العملية (والأخلاقية أيضا) لا يمكن التنبؤ بها ولكنها في الأغلب وخيمة العواقب. إنها تتسبب في إحداث البلبلة لدى الفرد وفي طمر الشخصية. كما أنها بحكم الطبيعة حافلة بالأخطار لأنها تحدث خللا وتضاربا في النظام الطبيعي للأشياء. تعود الجذور المنطقية لهذه المخاوف إلى استخدام وإساءة استخدام مكاسب العلوم الحديثة في القرن العشرين. كما أن هذه المخاوف تعود إلى ظاهرة الإيمان المطلق بالتقدم والثقة العمياء في قدرة العلم على تحسين نوعية الحياة. هنا يشكل الغرب مثالا يحتذى به وعامل ردع في آن واحد. فتقنيته وما أفرزته من مظاهر العولمة تملك القدرة على كلا التحرير والإخضاع. ومن يراقب النقاش الدائر في العالم العربي حول العولمة يلاحظ بسرعة أن تفسير هذه الظاهرة على أنها تعني إقصاءه من تاريخ العالم لا يقتصر على الأصوليين الإسلاميين وحدهم.
يعتبرعالم السياسة مارتن بيك Martin Beck من جامعة توبنغن مقاومة النخب الحاكمة للعولمة قرارا عقلانيا نظرا لأنها تعزّز خلال ذلك نفوذها في السلطة الذي ستفقدها في حال إدخال أنظمة العولمة (ديموقراطية المعلومات والتكنولوجيا والمال). لكن هناك فئات اجتماعية ذات مرتبة أدنى من هذه النخب تكون متضررة من هذا القرار السلبي الذي لا يشكل بالنسبة لها خيارا عقلانيا. فإغلاق باب نقل المعلومات بحرية ومنع الحوار الصريح يؤدي إلى تهميش فعاليات العلوم الطبيعية والاجتماعية وبالتالي إلى إضعاف مركزها. فأبحاث هؤلاء العلماء لا يمكنها أن تستند على النتائج البحثية ذات المستوى العالمي إلا بمقدار ضئيل. كما أن نتائج أعمالهم ونظرياتهم لا تناقش في المحافل الدولية إلا نادرا، مما يقلل من إمكانات التعقيب عليها وتصحيحها وعلى وجه خاص انتشارها.
إن النقاش الدائر حول تبني التكنولوجيات الحديثة باعتباره أحد الأعمدة الرئيسية للعولمة يتأثر على نحو كبير بالمسائل المرتبطة بالهوية وتقرير المصير والعزل، إذ أن العلوم والأبحاث هي عمليات دراسية حضارية الطابع.
فالتحديث لا يعتمد فقط على المصادر البحثية المتوفرة، بل وكذلك على البيئة الاجتماعية والحضارية. ونقل التكنولوجيا لا يعني بيع معدات ومكائن معينة فحسب بل المقصود منه في المقام الأول نقل المعرفة. فمن خلال ذلك يأتي الأشخاص المعنيون بنقل هذه المعرفة وينقلون كذلك القيم التي يؤمنون بها. بهذا المفهوم فإن أغلبية المجتمع السعودي تنظر بريبة إلى المهندسين الأجانب العاملين في معامل تكرير النفط وبالمثل أيضا إلى الجنود الأمريكيين رجالا ونساء ومن يرافقهم من رجال الدين المسيحيين واليهود المرابطين في السعودية منذ اندلاع حرب الخليج الثانية.
ينطلق النقاش حول العلوم والعولمة ونقل التكنولوجيا في الأغلب من مفهوم اجتماعي ومركزي للتكنولوجيا، بمعنى أن المجتمع يصيغ التكنولوجيا والتكنولوجيا تصيغه هو. وهكذا يشير علاء الدين هلال دسوقي إلى أن التكنولوجيا ناتج اجتماعي لا يمكن تصديره من مجتمع إلى آخر. لهذا يرى بأنه لا يجب استخدام عبارة "نقل التكنولوجيا" بل مصطلح "التكيّف مع التكنولوجيا". ويضيف بأن من مقومات النقل الناجح للتكنولوجيا الحديثة هياكل النقل غير الشكلية كالمؤتمرات والمؤلفات وتبادل العلماء والخبراء.