الجدل حول الإسلام في ألمانيا :
“التراث اليهودي المسيحي ليس إلا بدعة”
الإسلام هو الخصم الأساسي على ساحة الصراع الحالية. هذا الوضع يستدعي تجديد أواصر العلاقة بين المثقفين اليهود والمسلمين في ألمانيا، مثلما ترى أستاذة الفلسفة اليهودية ألموت ش بروكشتاين كوروه في هذه المقالة.
"لم يكن هناك تراث يهودي مسيحي، إنه مجرد اختراع توصلت إليه الحداثة الأوروبية، كما أنه الطفل الأثير لدى الألمان المصابين بالصدمة التاريخية"
يتحدثون يومياً في ألمانيا عن التراث اليهودي المسيحي للغرب، وهم يفعلون ذلك في المعتاد للدفاع عن دولة القانون والدستور وقيم الحرية السائدة في المنظومة الاجتماعية للبلاد، كما يفعلون ذلك لتأكيد "المساواة بين الجنسين وحرية الفن وحرية التعبير عن الرأي وحرية العقيدة". في ساحة الصراع هذه هناك خصم أساسي، وهذا الخصم لا يصلح لضمه إلى التراث اليهودي المسيحي، ألا وهو الإسلام.
في الغالب ينظرون إلى الإسلام على نحو تلقائي بوصفه ديناً لا يستطيع أن ينكر "أصوله الحربية العربية"؛ فالإسلام يتكون من الشريعة والقرآن، هكذا يشرح لنا الخبراء ومقدمو البرامج والتربويون والساسة والصحفيون، وفي مواجهة ذلك الدين يستدعون التراث اليهودي المسيحي. إنهم جميعاً يستخدمون في حديثهم عن الإسلام مصطلحات تراث أدبي غريب عليهم، يفعلون ذلك دون خجل رغم أن هذا التراث – مثله مثل التراث اليهودي – يشمل عالماً بأكلمه من الأحكام والفروق الدقيقة. والخطير في الأمر أن هؤلاء الخبراء يستخدمون خطاباً تعليمياً قاطعاً في أحكامه، فيدّعون بأن القرآن يقول ذلك، والإسلام يدعو إلى تلك، والشريعة تأمر بهذا.
مشروع تنويري
"في الغالب ينظرون إلى الإسلام على نحو تلقائي بوصفه ديناً لا يستطيع أن ينكر "أصوله الحربية العربية"؛ في مواجهة ذلك الدين يستدعون التراث اليهودي المسيحي"
في غضون عام 2001 قمت مع الكاتب نافيد كيرماني بإطلاق مشروع في برلين يستهدف إظهار التشابك والتضافر بين التراث الأدبي الأوروبي واليهودي والعربي والإسلامي والفارسي. وبالتعاون مع مجموعة من العلماء اليهود والمسلمين أردنا أن نبين أن التراث اليهودي والإسلامي متنوع ومتعدد ومصدر إلهام، كما أردنا أن نُظهر الحاجة الماسة إلى التفرقة بين التراث الديني والواقع السيسيولوجي والسياسي، وذلك على العكس من النقاش السياسي الذي ينتهي دوماً بالحديث عن الإرهاب وجرائم الشرف والحجاب والقرآن، وخطر ركوع "ثقافتنا" أمام الثقافات الأخرى.
قبل ما يزيد عن مائة عام كانت هناك عملية مشابهة واجهت التلمود. آنذاك كانت التهم تلاحق كافة الأحبار اليهوديين. في تلك الحقبة قام الفلاسفة اليهود بمهاجمة الأحكام التي تُطلق على عواهنها في الخطاب العام، مستشهدين في ذلك بنص من القرن الثالث عشر مكتوب بلغة عربية واضحة وقاطعة: إن الذين يجرون النقاش "لا يفسرون شيئاً، ولا ينفذون إلى عمق الأشياء أبداً، إنهم يتحركون بعيداً عن قواعد العلم دون أن تكون لديهم شرارة واحدة من الموهبة البشرية التي تسمح لهم بالتفكير الحر المستقل، ولهذا يحتقرون تأويلات الحكماء، ويقرأون نصوصاً تراثية وفق مفاهيمهم المحدودة". وإذا ادّعى النقاد بأنهم حماة التنوير لتحقير تراث الآخرين، فإن هؤلاء "يتسمون بحماقة أعظم من أولئك الورعين السذج، إنهم يثرثرون أكثر منهم، وينثرون خطبهم بين طبقة الانتليغنسيا محدثين تأثيراً كبيراً وضرراً هائلاً".
صاحب تلك الكلمات الحادة هو الفيلسوف اليهودي العربي موسى بن ميمون (1135 – 1204) الذي يُعد الأعظم بين الأحبار اليهود. ابن ميمون واحد من يهود المغرب العربي، وفلسفته جزء من حقبة التنوير العربي. بالنسبة له فإن التراث اليهودي متضافر ومتشابك في عديد من النواحي مع التراث الإسلامي.
التراث اليهودي العربي
الفيلسوف اليهودي العربي موسى بن ميمون (1135 – 1204) يُعد من أعظم أحبار اليهود، حيث تعد فلسفته جزءا من حقبة التنوير العربي
لقد هاجم جاك دريدا في آواخر الثمانينات محاولة فصل التراث اليهودي عن التراث العربي، ناهيك عن الحديث عن تاريخ يهودي مسيحي. فعل دريدا ذلك وهو يتحدث أمام طلبة الجامعة العبرية في القدس. في تلك الفترة كنتُ بين الحاضرين، إذ كنت أعمل في الجامعة بالقدس، كما كنت أعيش في القدس. مثل سلَفَه استخدم دريدا كلمات واضحة لوصف تلك البدعة البروتستانتية التي استُحدثت بعد الصدمة التي عاشها الغرب اليهودي المسيحي. نطق دريدا بتلك الكلمات في قلب القدس، وفي قلب الحرب: "آهٍ، لو عرف ابن ميمون بذلك!" كان دريدا يقصد بعبارته كيف تحول ابن ميمون ومعه التراث اليهودي بأكمله إلى مطية للموكب الفنتازي الذي يتجول في ربوع التاريخ اليهودي المسيحيي الغربي – يا لها من بدعة شاذة!
لقد ذكرنا هنريك م برودر بذلك على نحو مؤلم، بالتأكيد، ولكنه أصاب عندما قال إن الرابطة التاريخية بين اليهودي والمسيحي لم تنشأ إلا من خلال الحروب الدينية والقمع والعنف ومعاداة السامية، ناهيك عن المحرقة. إن سؤال دريدا يجعلنا نستشعر شبح الألم المرافق لاختفاء التحالفات اليهودية العربية: "لو عرف ابن ميمون أنهم يوماً ما سيجندونه، ومعه كافة التراث اليهودي، في خدمة ذلك الصراع الغريب، وأنه – دون أن يدري – سيوقع على اتفاقية بين ألمانيا المابعد لوثرية، هل كان سيرقد بسلام في قبره؟"
إن هذا القدر من التناسي التاريخي يصيب المرء بالذهول. إنه لمما تقشعر له الأبدان أن نرى ذلك القدر من الحماسة التي تنم عن تفوق أخلاقي وذهني، هذه الحماسة التي يستخدمها أولئك الذين عينوا أنفسهم نواباً للغرب اليهودي المسيحي وهم يرفعون راية التنوير أمام معاصريهم المسلمين، أياً كانت قوميتهم وأياً كان توجههم الثقافي. إن السطح الجليدي يظل ضعيفاً، إذ لم يكد يمر عليه سبعون عاماً.
مجرد اختراع
"يلزم تجديد أواصر العلاقة بين المثقفين اليهود و المسلمين في ألمانيا. لقد حان وقت اتخاذ موقف واضح. حيثما يكون المسلمون غرباء، نكون نحن أيضاً غرباء"
كلا، لم يكن هناك تراث يهودي مسيحي، إنه مجرد اختراع توصلت إليه الحداثة الأوربية، كما أنه الطفل الأثير لدى الألمان المصابين بالصدمة التاريخية. إن المشترك اليهودي المسيحي مجرد اختلاق، متأثر بنزعة التقدم التي بلغت ذروتها في الإصلاح الكنسي والثورة الفرنسية. لم يبدأ الحوار اليهودي المسيحي في ألمانيا إلا بعد المحرقة. آنذاك كانت الخطوط الفاصلة تتطابق تطابقاً عبثياً مع الخطوط الفاصلة بين القناعات اليهودية والإسلامية.
نادراً ما كانت هناك شهادة علنية تبين ذلك القاسم المشترك الواضح بين كلا التراثين مثلما حدث عندما قامت الدنيا ولم تقعد في الجمهورية الألمانية عندما أدلى نافيد كيرماني بتصريحات حول الصليب، إلى أن أشار في النهاية المدافعون عن موقفه، مثل ميشا برومليك – وإنْ فعل ذلك بصوت خافت – أن لاهوت الصليب بكافة تجلياته هو في نظر عديدين من اليهود ليس إلا تجديف على الرب في نهاية المطاف.
في وقت كانت ألمانيا تحتضن علماءً يهوداً كانوا يتميزون بنزعة فكرية نقدية كوزموبوليتية فريدة، كما كانوا يشعرون بالتقارب في الفكر بين التراث الكلاسيكي اليهودي ونظيره الإسلامي، كان الأحبار اليهود يقدرون العلاقة بين اليهود والمسلمين حق قدرها. حتى مطلع الثلاثينات من القرن العشرين كان الأحبار اليهود يستمدون العون من مفكري عصر التنوير العربي عندما يدافعون عن تراثهم العقلي العالمي وكذلك لدى نقدهم للمسيحية. اليوم لا يكاد أحد يتذكر أن رسالة موسى بن ميمون التنويرية السياسية المعنونة بـ "القدس" (1789) كانت تستند على حجج وأسانيد التراث التنويري العربي، لا سيما في المقاطع التي يحيد فيها ابن ميمون عن كانط. ولنتذكر أيضاً أن الاتهام العام كان موجهاً في القرن التاسع عشر إلى اليهود وتقاليدهم بأنهم يرفضون الاندماج، وأن ولاءهم مزدوج، وروحانيتهم ساذجة، وأنهم يعزلون أنفسهم عزلاً مرَضياً عن مواطنيهم الألمان.
تناقضات العصر والتاريخ
وفي حين أننا اليوم نعيش زماناً يتم فيه منح الجوائز إلى رسامي الكاريكاتير الذين يرسمون النبي بقنبلة تحت عمامته، كانت محكمة الولاية في ماربورغ تنظر عام 1888 في قضية رُفعت ضد مدرس قام قبلها بعامين بتوجيه طعنة مماثلة في الخطورة إلى قلب التراث اليهودي؛ ففي غمرة النقاش الحامي الوطيس حول معاداة السامية في برلين، وفي وسط الجدل حول المجتمعات اليهودية الموازية للمجتمع الألماني واستحالة الجمع بين التقاليد اليهودية وقيم مجتمع الأغلبية الألماني، ادّعى ذلك المعلم أن التلمود يسمح لليهود بأن يسلكوا سلوكاً غير أخلاقي تجاه غير اليهود. اعتبرت الطائفة اليهودية ذلك الادعاء إهانة لها ولليهودية جمعاء، ولذلك رفعت قضية ضد المعلم. في خلال القضية طلبت المحكمة من اثنين من الخبراء أن يجيبوا على السؤال التالي: "هل توجيه السباب إلى التلمود يعني سب الديانة اليهودية كلها؟" إذا كانت الإجابة بنعم فإن الأمر يستدعي توقيع العقوبة على المتهم.
آنذاك أشرق نور الفهم حتى على أكثر المثقفين اليهود تأقلماً مع المجتمع الألماني، وعرفوا أن الزمن تغير، وأن عليهم أن يعلنوا عن موقفهم بوضوح. في تلك المحاكمة تولى العالم اليهودي هرمان كوهين، وهو من أتباع المدرسة الكانطية الجديدة، الدفاع عن التلمود اليهودي. أما الحكم فصدر بحبس المتهم أربعة عشر يوماً. واليوم نعلم أن تلك القضية لم تستطع أن تضع حداً للتهميش القسري وعمليات الاغتيال والقتل.
لقد تغيرت الجبهات. ماذا نقرأ اليوم؟ "الإسلام دين توحيدي عنيف لا يستطيع إنكار جذوره الحربية البدوية العربية"، و"ستة ملايين مسلم في جمهورية ألمانيا الاتحادية يخلقون صعوبات في التأقلم مع المجتمع والاندماج فيه". في زمنٍ تحوم الشبهات العامة حول التقاليد الإسلامية، يلزم تجديد أواصر العلاقة بين المثقفين اليهود و المسلمين في ألمانيا. لقد حان وقت اتخاذ موقف واضح. حيثما يكون المسلمون غرباء، نكون نحن أيضاً غرباء.
ألموت ش بروكشتاين كوروه
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق الطبع: تاغيس شبيغل/ قنطرة 2010
ألموت ش بروكشتاين كوروه أستاذة الفلسفة اليهودية وعضو في "معهد كيته هامبورغر" في بون، وقد نُشر لها مؤلفات عديدة خارج ألمانيا وداخلها. في عام 2009 أشرفت على تصميم معرض بعنوان "تصوير – التصوير بين الإسلام والحداثة" في متحف مارتين غروبيوس.