الحياة ومباهجها في ' غرق في الورد'
فيصل عبد الحسن
إحدى التجارب الشعرية التي لفتت إليها الأنظار في السنوات القليلة الماضية هي تجربة حسين حبش الشعرية، فقد اتصفت هذه التجربة بكونها نهلت من تجارب شعرية ريادية في قصيدة النثر لكثيرين من شعراء قصيدة النثر المعروفين في العالم العربي.
وقد توخى الشاعر في نصه الشعري الصورة الشعرية المؤثرة، واللغة التي لا تعطي المعنى المحدد بل تجوس قرب المعنى مما يتيح لنصه أن يبعث في ذهن القارئ الكثير من التساؤلات والتأويلات لكل مفردة جاءت في النص، لتحديد ما أراده الشاعر، وإذا كانت إحدى أهداف شاعر كتابة قصيدة نثر بهدف سياحة في بساتين الحياة المفترضة في النص، ومن دون تحديد أية أبعاد فكرية غير الشعور بلذة الطواف بين صفوف الزهور، واستنشاق عبيرها من دون قطفها، فقد نجح حبش أيما نجاح في ذلك في ديوانه المميز ' غرق في الورد'.
صراعات
الشاعر الذي ولد عام 1970 في قرية كردية اسمها ' شيخ الحديد'، وهي تابعة لقضاء ' عفرين' السورية، ويقيم حاليا في مدينة ' بون' في ألمانيا قد عاش تجربة شعور الأقلية في مجتمع متعدد القوميات والطوائف والديانات، كبلده الأصلي سورية، ومن ثم عاش بعد ذلك تجربة حياة أصعب كشرقي مهاجر إلى بلد كألمانيا تنشط فيه الحركات العنصرية الكارهة للمهاجرين خصوصا، لأولئك القادمين من الشرق الأوسط.
في ديوان ' غرق في الورد' تأخذك النصوص في سياحة حقيقية لكل ما كانت تعانيه أجيال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، التي تفتق واقعها عن صراعات فلسفية مريرة ولدت كانعكاس للصراع بين المعسكر الشرقي والغربي، والذي جاء أيضا لهذه الأجيال من إبداع أجيال سبقتها عاشت فورة ذلك الصراع وعانت بسببه من شظف العيش والسجن، والنفي، وحياة المنع من النشر، وجميع مساوئ ذلك الصراع، ولنجتزئ من إحدى نصوصه هذا المقطع الذي يقول فيه:
' نمتدح العمر كي لا يباغتنا
ونحن عرايا الظل
نخطف سيرته قليلا
أو طيفا منه
ونتكئ على سراديب الغفوة
مسرجين للحلم أيكته الرهوانة.
العمر إغواء وبهتان:
هكذا قالت الريح.
نمتدح البحر
نمتدح لونه وخضابه ورفيق دربه.
نمتدح أسماكه القرش
حتى لا تسرق أجسادنا
وثيابنا المرمية في سديم القاع'.
بلا أنوف
وتطفو آلام الشاعر مع آلام شعبه على سطح نصوصه، فهو القمع المؤدي إلى تضخيم الصراخ، وقد جعله في درجاته العليا، حيث لا يتجاهله المتألم أو ذلك المسبب للألم: ' تسيل المهرجانات الخافتة / من بتلات الورد / وتطير فراشات ناجحة من شرانق / الاستغفال / في الأمكنة الخالية / ليد ثامنة تدور كوهج تنين / وتستمع إلى تدفق السحر / نحو المساحات الغامضة / ليد ثامنة تواكب ألم الأكراد/ والجراح الجاثمة على صدر الغابات.'
وفي نصوص كثيرة من الديوان يصير ذلك الألم (عبارة مقدمة) متوهجة في بداية التقديم للنص الشعري كقوله عن أمثاله في هذه الحياة التي يعيشها: ' يحملون شموع النوم، لا يناسبهم العمل، جديرون بالفشل والكسل والحرية والجاذبية والاستفزاز يلمسون كاحل الأمكنة بسراب ما فتتغير، وتغير مجدها المزيف والأغبر، لكن ليس بمواقيت أو إتقان أو بندول ساعة، إنما بمحض صدفة'. ويقول عنهم أيضا: ' يجيزون ما لا يجوز ويستقيمون في التوابيت فقط'. ويتظاهر الشاعر بفهمه للحياة وكيفية نوال السعادة فيها، فيقول عن ذلك: ' الذين كلماتهم بلا أنوف ورؤوسهم بلا ثقوب / الذين أسنانهم تقرض/ كل شيء / إلا ألسنتهم المعوجة / الذين أحناكهم تدور/ كبندول الساعة / من الصباح حتى المساء / الذين يتساقطون في الفضيحة / ويتساذجون / بالإشارات والأكتاف / الذين.../ وحدهم يمرحون / على سلالم الحياة'.
كومة مفاتيح
ويتميز كل نص من نصوص حبش بالطباق والصور الشعرية المركزة، واعتماده على موسيقى المفردة، والعبارة الموحية، التي تحيلك إلى كم كبير من المعاني، كما يحاول في كل نص إيصال فكرة فلسفية تعنينا لفهم ماهية الحياة، فالحياة لديه حقل واسع للتجارب التي ينبغي على كل من يعيشها، أن يمسك بكومة من المفاتيح لفتح أبوابها المقفلة، وكأن نصوصه حلقة تضم مفاتيح العيش السعيد، وعلى الرغم من حكمة الشيوخ الأكراد التي يملكها لكنه يبقى حزينا قريبا من نهر الراين، يتأمل شعبه الذي يعيش قريبا من الراين بدلا من أن يكون قريبا من نهر الفرات الفريد: ' أنظر إلى قامة بيتهوفن / أراه حزينا./ جموع الأكراد / يعاينون مركز المدينة بخطاهم / ولا يعالجهم سوى الحنين./ يبكي بيتهوفن / أنظر إلى الراين / الذي يشطر المدينة إلى فلقتين / أراه حزينا / أيحزن على الفرات؟ / والفرات حزين. '.
نصوص ' غرق في الورد' احتفاء بالحياة ومباهجها، وهي أيضا نصوص تنتقل بقارئها من غربة إلى غربة ومن حزن إلى حزن، ويتصنع شاعرها الفرح، لكنه لا يجد إلا مفردات الحزن والضياع والخيبة، في عالم لا يهتم كثيرا بالمحزونين، ولا يلقي بالا بالمهزومين الباحثين عن وطن بديل، وهو لا يحتفي عادة إلا بالمنتصرين وأصحاب الحظوظ الوافرة بالحياة.
_______
عن صحيفة القدس العربي 20.01.2011