ثورة مصر في كل بيت عربي
ياسر الزعاترة
حضرت ثورة الشعب التونسي في الفضاء العربي برمته، وتناقل الناس أخبارها على نحو يومي. وعندما قال الرئيس للناس بأنه فهمهم، طارت المقولة في الأمصار على سبيل الدعابة. وعندما فرّ بطائرته تناقلوا النكات والرسائل حول الواقعة، وقبل ذلك لم يبق عربي لم يدخل في إطار المتابعة، وحتى التحليل لما كان يجري.
"
الاهتمام الشعبي الطاغي بمصر جاء لكونها مصر التاريخ, مصر الكنانة, مصر الأزهر قبل أن تغتاله السياسة القاصرة, مصر الثقل الأكبر في الأمة, مصر قائدة الأمة والشقيقة الكبرى للعرب أجمعين
"
بالطبع كانت الجزيرة هناك ترصد الحدث وتتابعه، وكان لها دورها اللافت في الثورة، من دون أن يعني ذلك أنها صنعتها، لكن المؤكد أن الثورة -أي ثورة- في زمن ثورة الفضائيات والاتصالات صارت أقل كلفة من ذي قبل يوم كان بوسع الحاكم أن يقتل الآلاف ويمر الخبر كأن شيئا لم يحدث.
لكن ثورة مصر كانت شيئا آخر على مختلف الأصعدة، فهنا كان الاهتمام أكبر بكثير، إذ تسمّر الناس لساعات طويلة كل يوم أمام شاشة الجزيرة، وعندما شوشوا عليها ومنعوها وجدناهم يطاردون بثها من تردد إلى آخر، ومن محطة تعيد بثها إلى أخرى، وصولا إلى موقعها على الإنترنت الذي قال لنا القائمون عليه إن نسبة قرائه قد ارتفعت 2500%، الأمر الذي لم يحدث خلال الثورة التونسية، وربما خلال أي حدث آخر، بما في ذلك انتفاضة الأقصى في ذروة تجلياتها، وكذلك الحرب على قطاع غزة على تميز متابعتها في العالم العربي، مع ضرورة التذكير بأن ثورة تونس تبقى صاحبة السبق، بل صاحبة الفضل بوصفها من كسر حاجز الخوف وأعاد للأمة ثقتها بالقدرة على التغيير، من دون أن ننسى أن تضحيات فلسطين كانت الأسبق بترسيخها لثقافة التضحية والفداء والاستشهاد في وعي الأمة.
أمام السفارات المصرية في العواصم العربية وفي الغرب أيضا، رأينا فعاليات عديدة من قبل الجماهير العربية، كما أن البيانات لم تتوقف من سائر القطاعات الشعبية في سائر الدول العربية، وبين قطاعات المغتربين في الخارج، لكن أهم من ذلك كله هو التفاعل الشعبي البسيط الذي كان استثنائيا بكل المقاييس، إذ رأينا تفاصيل الأخبار تتحرك بين الناس، وتتصدر سائر الجلسات والديوانيات، بل رأينا أناسا ليست السياسية جزءا من اهتماماتهم اليومية لا يفتحون جهاز التلفاز إلا على الجزيرة من أجل متابعة أخبار الثورة المصرية.
حدث ذلك كله لأنها مصر، مصر العظيمة. مصر التاريخ. مصر الكنانة. مصر الأزهر قبل أن تغتاله السياسة القاصرة. مصر الثقل الأكبر في الأمة. مصر قائدة الأمة والشقيقة الكبرى للعرب أجمعين.
قبل عامين فقط، عندما كان النظام يتواطأ على نحو مفضوح ضد قطاع غزة في حرب الرصاص المصبوب، كانت الأمة تخرج في سياق آخر ضده، وتحولت سفارات مصر في كثير من العواصم إلى محج للمتظاهرين، الأمر الذي كان يستفز بعض إخواننا المصريين الذين يتميزون بحساسية عالية حيال تدخل الآخرين في شؤونهم، كما لا يحدث مع أي شعب عربي آخر، مع أن أحدا لم يوجه الإدانة للشعب المصري، وإنما للنظام ورموزه، بل إن جميع المتحدثين والمعلقين، ونحن منهم، لم يتوقفوا في ذلك الحين عن التأكيد على الفصل بين مصر وشعبها من جهة وبين النظام الحاكم من جهة أخرى.
"
من دون مصر ليس بوسع الأمة أن تتقدم إلى الأمام, ليس بوسعها أن تواجه عدوها, ليس بوسعها أن تجد سبيلا نحو الوحدة, من دون مصر ستفقد الأمة ثقلها الأكبر، وستغدو شبه عارية وضعيفة أمام الأعداء
"
في تلك الأثناء وقف بعض إخواننا المصريين في المربع المقابل للمربع الذي وقف فيه الشارع العربي، وإن تفهم آخرون كثر موقف الأخير، وأدركوا أن الإدانة ليست لمصر ولا لشعبها العظيم، وإنما للنظام الذي باع قضايا الأمة من أجل التوريث ومن أجل مكاسب لرموزه من رجال الأعمال وكبار رجال الأمن.
أيا يكن الأمر، فقد كان الموقف مختلفا هذه المرة، وها هو العالم العربي برمته ينحني احتراما لشعب مصر العظيم، ويقف تضامنا مع ثورته المباركة، ليس فقط لأنه يحب مصر وشعبها تبعا للقواسم المشتركة معه، وفي مقدمتها الدين واللغة وقضايا الحاضر والمستقبل، ولكن أيضا لأنه يدرك أن المصريين اليوم يصنعون تاريخ الأمة وليس تاريخهم فقط. فعندما يتغير النظام في مصر، ويأتي آخر يعبر عن أشواق الناس، فإن المصريين لن يكونوا وحدهم بخير، بل الأمة من ورائهم أيضا.
من دون مصر ليس بوسع الأمة أن تتقدم إلى الأمام. ليس بوسعها أن تواجه عدوها. ليس بوسعها أن تجد سبيلا نحو الوحدة. من دون مصر ستفقد الأمة ثقلها الأكبر، وستغدو شبه عارية وضعيفة أمام الأعداء.
صحيح أن وقوف النظام المصري خلال السنوات الأخيرة ضد معسكر المقاومة والممانعة في الأمة لم يؤد إلى انهياره، لكن ذلك لا ينفي أن الموقف كان بالغ الصعوبة، من دون أن ننسى أن الشعب المصري وقواه الحية كانوا ينتمون إلى المعسكر المذكور أيضا رغم أنف نظامهم، كما أن وقفة جماهير الأمة الأخرى كانت حاسمة لصالح ذات المعسكر، الأمر الذي عوض الموقف الرسمي بقدر ما.
لو كانت مصر بخير لما مرّ احتلال العراق بتلك السهولة، فضلا عما أصابه من ويلات بعد الاحتلال (المقاومة أفشلت مشروع الاحتلال وحمت العالم العربي بما فيه مصر من مشروع إمبريالي رهيب)، ولما مرّت الترتيبات التالية على نحو جعل إيران هي الثقل الأكبر في المعادلة العراقية، ولو كانت مصر بخير لما ذهب السودان نحو الانفصال بهذه البساطة (لا يقلل ذلك من جريمة النظام السوداني)، ولو كانت مصر بخير لما تاهت القضية الفلسطينية بين يدي الرموز المقربين من العدو الصهيوني، ولما كان بوسع الغرب أن يتحكم بمقدرات الأمة ويبتزها على هذا النحو.
على الصعيد الداخلي عانى المصريون من النظام أكثر من أي أحد آخر. عانوا من القمع وغياب الحرية والتعددية. عانوا من الفساد الذي استهلك مقدراتهم. عانوا من الفقر والبطالة. وصار من حقهم أن ينتفضوا في وجه ذلك كله، ويبحثوا عن الحرية والعيش الكريم في ظل نظام يختارونه بحرية.
"
سلام على مصر وعلى شعبها الأبي، وسلام على شهدائها وأبطالها ومن يحملون راية الحق من أبنائها إلى يوم الدين
"
هكذا كان النظام المصري يذلّ المصريين، ويذل الأمة من ورائهم، لكن الذي لا يقل أهمية في ثورة الشعب المصري هو أنها تفتح باب الحرية لجميع العرب، إذ ليست مصر وحدها التي عانت من القمع وغياب الحرية والفساد والفقر، وليس نظامها وحده من رهن قراره للخارج، فمن ورائه تصطف أنظمة كثيرة، ما يعني أن نجاح الثورة المصرية سيكون مقدمة لتحرير الأمة بأسرها، وسيبزغ أمامها فجر جديد بإذن الله.
بعد ثورة المصريين الشرفاء لن تقبل الأمة أن يستعبدها حاكم، أو تتحكم فيها نخب تهمين على السلطة والثروة وترهن قرار البلاد للخارج، فقد أدركت جماهير الأمة سر قوتها، وهي لن تستكين أبدا حتى يفتح الله بينها وبين من يضطهدونها وهو خير الفاتحين.
سلام على مصر وعلى شعبها الأبي، وسلام على شهدائها وأبطالها ومن يحملون راية الحق من أبنائها إلى يوم الدين.