سياسة الحكومة التركية تجاه الأكراد:
خطوتان إلى الأمام وخطوة إلى الوراء
السياسة التي ينتهجها حزب العدالة والتنمية حيال الأكراد تختلف جذريا عن مواقف الأحزاب الأخرى. ومع ذلك لا بد من لوم رئيس الوزراء إردوغان لتوقفه عن متابعة سياسة المصالحة مع الأكراد تحت ضغط القادة العسكريين وأصحاب النزعات القومية. مقال كتبته سوزانه غوستن.
خرق رجب طيب إردوغان في إطار توليه عدة مناصب سياسية بارزة العديد من "التابوهات" السائدة لدى السياسة التركية. فهو أول رئيس للحكومة التركية ينحدر من فئات اجتماعية بسيطة ومتدينة ومحافظة وأول رئيس حكومة ترتدي زوجته الحجاب كما أنه أول رئيس حكومة تركي تحدث علنا عن وجود "مشكلة كردية" في البلاد وأشاد بكون حزب العدالة والتنمية أفضل سائر الأحزاب تمثيلا لمصالح الأكراد السياسية.
تحسن في الموقف من الأكراد
منحت الدولة التركية الأكراد في غضون السنوات الماضية أي في عهد إردوغان عددا كبيرا من الحقوق فاق كثيرا ما منحته لهم الحكومات السابقة. فقد أصبحت اليوم مجموعة من الأمور واردة الاحتمال كإصدار صحف باللغة الكردية وتنظيم حلقات لدراسة اللغة الكردية وتقديم برامج للإذاعة والتلفزيون في هذه اللغة، هذا وإن رافقت ذلك شروط متشددة. بالإضافة إلى ذلك فإن الأكراد يستفيدون من التحسن العام الذي طرأ على حرية التعبير عن الرأي وتزامن مع ترشيح تركيا نفسها لحيازة العضوية في الاتحاد الأوروبي.
تعامل صريح مع المشكلة الكردية
الأهم من كل ذلك هو أن إردوغان يتعامل بوضوح وصراحة مع المشكلة الكردية. فقد التقى بمثقفين أكراد للتحدث معهم حول سبل تسوية النزاع الكردي. كما أنه اعترف علنا في خطاب مبدئي شامل ألقاه في أغسطس (آب) 2005 في العاصمة غير المعلنة للمناطق الكردية، دياربكر، بوجود أخطاء ارتكبتها الدولة في سياق التعامل مع الأكراد البالغ عددهم قرابة 12 مليون مواطن. يومها قال إردوغان "المشكلة الكردية تعنينا كلنا كما أنها مشكلة تعنيني شخصيا في المقام الأول".
كان لمبادرة فكرية أخرى اتخذها إردوغان وقع التحول "الثوري" خاصة في بلد تعتبر فيه وحدة الدولة هي القيمة العليا، حيث قال إردوغان يومها إنه طالما اتفق على تقبل الانتماء إلى الأمة التركية على أنه "الانتماء الأعلى" فلا غبار على التعبير عن "الانتماءات المتفرعة" بروح حرة. لقد أسبغت هذه العبارات على نفوس الأكراد أحاسيس الأمل فحتى حزب العمال الكردستاني الذي يطرح مطالب انفصالية تعامل مع مبادرة رئيس الحكومة بروح إيجابية.
واحات الرخاء في المناطق الكردية
بحكم كون إردوغان سياسيا يرى في تكريس المزيد من الرخاء سبيلا لضمان فوز حزبه في الانتخابات على الأجل الطويل فقد وعد بالقيام بالمزيد من الاستثمارات الحكومية في المناطق التي يسكنها الأكراد والتي يخيم عليها الفقر. وقد تم بناء على المعلومات الواردة من الجهات الحكومية استثمار عدة مليارات يورو في المناطق الواقعة في جنوب شرق تركيا.
وقد نشأت بالفعل ما يشابه "واحات الرخاء" الصغيرة في مدن مثل دياربكر بفضل هذه الأموال المستثمرة وبحكم المرحلة النسبية للهدوء والأمن في هذه المنطقة التي عرفت مرارا مشاحنات مسلحة بين الجيش التركي ومقاتلي حزب العمال الكردستاني. فافتتحت مطاعم المأكولات السريعة على النمط الغربي ومخازن بيع المأكولات وغيرها من مراكز الشراء كما نشأت للمرة الأولى هناك ما يمكن تسميته بحياة الترفيه الليلية. في بعض أرجاء المناطق الكردية بدئ في تنفيذ مشاريع البنية التحتية، من أمثلة ذلك بناء طرق سريعة واسعة.
عادت هذه المبادرات بالنفع على إردوغان. ففي الانتخابات البرلمانية التي جرت في شهر يوليو (تموز) الماضي حاز حزب العدالة والتنمية على 47 % من أصوات الناخبين الأمر الذي جاء بمثابة انتصار حاشد ليس فقط في الدولة بكاملها بل شمل أيضا المناطق الكردية في جنوب شرق الأناضول حيث حقق الحزب المذكور هناك أيضا فوزا ساحقا على كافة الأحزاب الأخرى بما في ذلك حزب د.ت.ب. الكردي الذي تحتم عليه دخول جولة الانتخابات بالائتلاف مع مرشحين مستقلين لكي يستطيع تحقيق الحد الأدنى المطلوب من الأصوات أي العشرة بالمائة.
الوجه الآخر لميدالية النجاح
إعتقد حزب د.ت.ب. الكردي بأنه نظرا للنجاح الذي حققته الأحزاب الكردية في تلك المناطق سابقا بحيث نالت في بعض الحالات أكثر من 60 % من الأصوات فليس هناك ما يبرر مواجهتها لمنافسة انتخابية تذكر. لهذا فقد جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة مخيبة لآمال الحزب. فمع أنه نجح في إرسال 20 نائبا عنه إلى الجمعية الوطنية (البرلمان) في أنقره، مما أهله لإنشاء كتلة نيابية كردية للمرة الأولى في تاريخ تركيا إلا أن النجاح الذي أحرزه حزب إردوغان للعدالة والتنمية أثار خيبة أمل هذا الحزب.
لقد أحرز حزب إردوغان للعدالة والتنمية في المناطق الواقعة في جنوب شرق تركيا أي التي يتمركز فيها الأكراد ما يقارب 52 % من مجموع الأصوات أي ما يزيد عن 5 % من معدل النتائج التي حققها الحزب في البلاد على وجه عام. وقد نال الحزب في دياربكر وحدها في الانتخابات الأخيرة 41 % من الأصوات فيما كان قد حاز عام 2002 على 16 % فقط من الأصوات.
ضمن نواب حزب العدالة والتنمية في البرلمان البالغ عددهم 340 هناك 75 نائبا ينحدرون من المناطق الكردية. لهذا فإن إردوغان راح يصف حزبه منذ فترة وجيزة بأنه "الممثل الحقيقي للأكراد".
لكن الصورة الحقيقية ليست بهذا الرونق الزاهي الذي يظهره إردوغان. فعندما أشار رئيس الوزراء إلى وجود "مشكلة كردية" ارتفعت أصوات الاحتجاج على ذلك في صفوف العسكريين والأحزاب القومية المعارضة. منذ ذلك الحين بدأ إردوغان وغيره من أقطاب حزب العدالة والتنمية يتجنبون بحذر شديد استخدام هذا التعبير.
العودة الى البلاغة القومية
يأتي بالإضافة إلى ذلك أن إردوغان بدأ نتيجة لتصعيد موجة العنف في المناطق الكردية من قبل ثوار حزب العمال الكردستاني يعمد هو أيضا إلى استخدام البلاغة القومية. في هذه الأثناء فشلت مناطق الأكراد في الالتحاق بركب النهضة الاقتصادية السائدة في مناطق أخرى من البلاد على الرغم من كافة الجهود المبذولة من أجل تحقيق ذلك. ففي دياربكر يبلغ معدل دخل الفرد السنوي حوالي 1300 دولار، أما متوسط دخل الفرد في تركيا عامة فيبلغ 5500 دولار. هذا دفع بعض المراقبين إلى التنبؤ بأن حزب العدالة والتنمية سيخسر أصواتا داخل المناطق الكردية في الانتخابات البلدية التي ستجري في شهر مارس (آذار) من العام المقبل.
إن شاء إردوغان وحزب العدالة والتنمية متابعة الخط الذي سلكاه في غضون الأعوام الماضية فإن عليهما الإسراع بالعمل أي أن يقدما لسكان المناطق الكردية ثمارا ملموسة واضحة. فكثيرا ما جرى الحديث حول برامج استثمارية وحوافز جديدة بغية إنشاء مؤسسات وشركات في جنوب شرق الأناضول. لكن ما حدث حقيقة هو ترجمة مثل هذه البرامج إلى حيز الواقع على نحو حافل بالثغرات إلى حد كبير.
توجهات جديدة
بناء على ما ورد مؤخرا في الصحف المقربة من الحكومة تقرر تغيير هذا الوضع قريبا. هناك على المستوى السياسي أيضا إمكانيات لتقديم توجهات وطروحات جديدة أخرى في إطار السياسة المتعلقة بالأكراد في تركيا. هذا لاسيما أن عددا من رؤساء الأركان السابقين اعترفوا بوقوع أخطاء جسيمة في هذا السياق أثناء توليهم لمناصبهم.
لا يمكن لأي أحد على الإطلاق أن يعتبر هذه الأوساط العسكرية "متورطة" في التعاطف مع الأكراد. بالتالي فإن هذه التصريحات تفسح لإردوغان ولو فرصة سياسية ضيقة بوسعه الاستفادة منها في غضون الأسابيع والشهور المقبلة. وهو أمر لن يتطلب منه في هذه الحالة حتى اللجوء إلى خرق "التابوهات".
بقلم سوزانه غوستن
ترجمة عارف حجاج