حكيم عماري
أم تقاسم بناتها اللحاف وباب منزل لم يطرقه أحد منذ سنوات
لم تعد تفصلنا إلا بضع ساعات عن الاحتفال باليوم العالمي للمعوقين في الثالث من ديسمبر، ولكن الوقت الذي يفصلنا عن مساعدة هذه العائلة التي زارتها "الشروق"في قلب صحرائنا لأجل مساعدتها قد حان فعلا، فمن غير المعقول أن بلدا ثريا مثل الجزائر تعيش فيه عائلة في جوع دائم، بالمختصر المفيد مأساتها فوق احتمال أصحاب القلوب المرهفة.
. وقفنا أمام صورة مأساوية لأربعة أبناء وخامستهم أمهم يعانون الإعاقة الذهنية.
كان دليلنا إلى منزل المدعو محياوي فاتح فاعل خير جعلنا لم نتردد في التنقل إلى مقر سكن العائلة المعوقة الواقع في أقصى حي البناء الذاتي غرب أولاد جلال التي تبعد عن بسكرة حوالي 100 كيلومتر.
قبل الدخول إلى المنزل تشكلت في مخيلتنا صورة حول الواقع المزري للعائلة من خلال شكل المنزل وهشاشة جدرانه التي تآكلت بفعل تداعيات الزمن والعوامل الطبيعية. لقد ألزمت الظروف الاجتماعية ربّ الأسرة على الاستقرار في أقصى طرف المدينة في سكن بناه في بداية التسعينيات ليستر فيه معاناة أبنائه وزوجته، بل ليهرب من أعين الناس غير مكترث بخطر الانهيار المحتمل للسكن المبني على منحدر باتجاه مجرى السيل هكذا بدا لنا ونحن نلج باحة الدار وهي عبارة عن حوش واسع مفتوح يحوي غرفتين متباعدتين إحداهما للضيافة وأخرى مطبخ وغرفة نوم في آن واحد سقفها بلاستيك مثبت بلبنات الطوب وتربة وفي زاوية مقابلة
توجد نخلة بجانبها مرحاض أشبه بخم الدجاج مسقف بالبلاستيك هو بالصريح المباشر ليس أبدا بيتا للراحة.
باب الكوخ لم يطرقه سائل أو ضيف منذ سنوات
إنه سكن فوضوي يقول صاحبه الذي بناه في موقع كان فضاء مقفرا وقتها كان يعمل أجيرا عند الخواص ولما أصابه مرض ضغط الدم عجز عن العمل واستسلم للأمر الواقع مكتفيا بالعمل كحارس بمدرسة مفدي زكريا في إطار الشبكة الاجتماعية مقابل أجرة لا تتعدى 3 آلاف دينار جزائري شهريا، لا تكفي لإعالة أبنائه لولا إعانات المحسنين وتفهّم أصحاب المتاجر والصيدليات واقعه المزري على حد قوله، مشيرا إلى أبنائه المنزوين مع أمهم وهم يعانون في صمت من لسعات البرد وخواء البطن تتوسطهم البنت زهور التي يكبر سنها جسمها النحيف. هم أربعة إخوة وأمهم خامستهم معوقة بنسبة 80 بالمائة على غرار ابنتها نورة البالغة من العمر 15 سنة، أما بقية الأبناء معوقون بنسبة 100 بالمائة وهم فريدة 22 سنة، زهور17 سنة وعبد الغني 13 سنة، أما الابن محمد الذي سلم من الإعاقة فيدرس في السنة الأولى متوسط، في حين لم تلتحق دلال بالسنة الثالثة متوسط هذا العام وتفرغت لخدمة أمها وإخوتها. وما لمسناه ونحن وسط أفراد الأسرة اشتياقهم إلى من يدق عليهم الباب ويسأل عنهم وكانت دموع زهور تسبق كلامها وهي تقول: لكم جميعا أعيادكم وليس لنا عيدنا لا أحد يزورنا في العيد أو في غير عيد، وعلمنا أن شبه الباب الموجود في شبه الكوخ لم يطرقه أحد لا سائل ولا ضيف منذ سنوات عديدة، لا أحد صار يعدّ لها، شيء من هذا القبيل تجسد في ابتسامات فريدة ونورة، أما البقية فخيّم عليهم الصمت أكثرهم تألما البنت زهور التي لا تقوى على الوقوف دون سند من أبيها أو أختها وجدناها طريحة الفراش وأنينها يعلو هدوء المكان جراء آلام في ظهرها بسبب ورم يدمع القلب قبل العين وعنها
تحدث إلينا والدها مستجديا أهل الخير ومسؤولي وكالة التنمية الاجتماعية للتكفل بعلاجها
خمس بطاقات إعاقة ومنحة واحدة؟
تعترف مديرية النشاط الاجتماعي بإعاقات الأفراد الخمسة بحصولهم على بطاقات من المديرية الوصية، غير أن الاستفادة من منحة الإعاقة طالت البنت الكبرى فريدة 22 سنة دون البقية، وهو ما أكده لنا رب المنزل، موضحا أنه استجدى سلطات البلدية دون جدوى، والحجة ـ كما قال ـ انه عامل في إطار الشبكة الاجتماعية. وفي هذا السياق رد عليهم معربا عن استعداده للتنازل عن المنصب مقابل استفادة أبنائه من المنحة، هكذا قال وهو يسأل ما فائدة العمل في إطار جهاز وضعته الدولة لا يمكنه من الاستفادة من تعويضات الضمان الاجتماعي أو الاستفادة من مجانية الدواء، رغم امتلاكه لدفتر الشفاء دون ضم أبنائه كمستفيدين من مجانية الدواء. ويوضح المعني أنه استفسر الأمر لدى الضمان الاجتماعي فقيل له إنه من غير الممكن إدراجهم في الدفتر، لكونه يعمل في إطار الشبكة الاجتماعية، هكذا قال، قبل أن يصمت محاولا إخفاء دموعه وهو يترجّانا نقل مناشدته للسلطات المعنية لزيارة منزله والوقوف على الوضع الصحي لابنته زهور التي آلمنا أنينها بسبب الورم والبرد وربما الجوع أيضا. كانت دلال، التي ضحت بدراستها لأجل إخوتها، تتابع عن قرب ما يدور بيني وبين والدها من كلام وفي يدها كومة من الوثائق، حاولنا تغيير الجو معها بمزحة لكن ليتنا ما فعلنا، لأن الرد في حد ذاته كان مؤلما أيضا، فمجرد أن سألناها عن وجبة الغذاء التي ستحضرها احمرّ وجهها الخمري وسكتت عن الكلام، قابلها والدها بابتسامة مصطنعة كما لو انه يعاتبنا على طرح السؤال الذي جرح كبرياءها وكبرياء الأسرة بكاملها؛ كبرياء شاءت مشيئة الله أن تزعزعه وتدفع برب الأسرة إلى حمده على ما أعطاه، غير انه لم يهضم ما أسماه الحقرة، وهو يقول: مرحبا بكل ما أعطاني الله لكن لماذا الحقرة، يضيف المغلوب على أمره عبد الفتاح وهو يروي لنا كيف انه توسل إلى مسؤول في البلدية لكن هذا الأخير أدار له الظهر وتناول رفعة شمة غير مكترث به.
أما عن أزمة السكن فيقول إنه أودع طلبا إلى الجهات المعنية سنة 1998 ولا يزال ينتظر ربما إلى حين حدوث مكروه لا قدر الله، بسبب هشاشة جدران السكن ووقوعه على حافة مجرى السيل في شكل مائل وهو ما لا يتمناه عاقل، في حين نتمنى أن تتحقق أمنية دلال في الحصول على منصب شغل تساعد به والدها على تحمل أعباء الأسرة من أكل ولباس ودواء،
فراتب 3 آلاف دينار جزائري يؤكد عاقل انه لا يكفي لإعالة 7 أفراد خمسة منهم معوقون.
منزل من ورق وأشباح تملأ الفراغ
لعل السؤال الذي سيطرحه القارئ يتعلق بحرمان المعوقين الأربعة من منحة الإعاقة وهو الاستفسار الذي رفعناه إلى مدير النشاط الاجتماعي الذي أوضح أنه يحق لكل معوق تتراوح نسبة إعاقته بين 80 و99 بالمائة الاستفادة من عمل في إطار الإدماج المهني مقابل أجر قدره 6 آلاف دينار جزائري، أما منحة الإعاقة فهي من حق المعوق الذي لا يقل سنه عن 18 سنة فما فوق، وهو ما يقع على أبناء فاتح محياوي، عدا البنت فريدة التي يبلغ سنها 22 سنة، فهي المستفيدة الوحيدة، عكس أمها التي لم تستفد رغم أحقيتها بالنظر إلى سنها الذي يفوق السن القانونية المحددة. وبخصوص التأمين أكد مدير النشاط الاجتماعي، انه من حق جميع أفراد الأسرة الاستفادة منه، لكن بعض رؤساء المراكز يقرأون القانون قراءة خاطئة وعليه يحرم الكثير من الأبناء من حق التأمين وهذا خطأ يجب تداركه، يقول مرجعنا، الذي أكد أيضا انه من حق الأب إدراج زوجته وأبنائه في بطاقة الشفاء للاستفادة من مجانية الدواء، و
هو الشيء الذي لم يكن لرب الأسرة المعوقة الذي يضطر إلى الاستدانة لشراء الدواء للزوجة والأبناء.
هكذا تقول النصوص القانونية سارية المفعول، نصوص نخالها أنها قابلة للتعديل، لأنها تتعلق بفئة لا حول ولا قوة لها، خصوصا وأن هذه الفئة على أبواب إحياء اليوم العالمي للمعوقين المصادف للثالث من ديسمبر، ولعل الإجابة على الأسئلة الموالية بتأني وروية تعود بالنفع على فئة المعوقين جميعهم دون تمييز، فهل يعقل أن تخصص منحة لمعوق دون آخر بسبب فارق السن بتحديد سن البلوغ كشرط، وهل يعقل أن يحرم المعوق من منحة بحجة أن وليّ أمره له دخل حتى ولو كان لا يكفي لتسديد ثمن وجبة غذاء يتناولها صاحب البطن المنتفخة؛ بمعنى هل يكفي دخل يقل عن الحد الأدنى للأجر القاعدي لإعالة أسرة فيها ما لا يقل عن معوق واحد، ثم هل يعني تحديد سن البلوغ أن المعوق صار مستقلا بذاته وأسئلة أخرى قد يطرحها القارئ ربما على مسؤولي بلدية أولاد جلال. وقد حاولنا الاتصال برئيسها، لكننا لم نفلح في التحدث إليه حول إمكانية استفادة المعني من سكن من عدمه. أما بعض المواطنين الذين تحدثنا إليهم فأجمعوا على تأثرهم العميق لحال هذه العائلة المعوقة ولسان حالهم يسإل عمن بإمكانه ضمان الكرامة لهؤلاء إن لم تكن السلطات المعنية التي تجمع على وفرة المال في خزينة الشعب أو كما قال أبو نور ،الذي لم يقدر هو الآخر على كفكفة دموعه وهو وسط أفراد الأسرة لأول مرة ويقولها صراحة، ما كنت أظن أنني سأقف على وضعية مزرية كهذه ونحن على مشارف 2011 وما شد انتباهي أكثر هو افتقار المنزل لأدنى شروط الحياة الكريمة، كما لو أننا في عصر من العصور الغابرة، ومن غير المعقول أن نجد أسرة مستقرة لكنها تقضي حاجتها على طريقة الرحل الذين لا يعرفون الاستقرار. صراحة لم أهضم ما شاهدته بعيني في مدينة محافظة في ظل وجود ترسانة من القوانين التي قيل إنها سنّت للمحافظة على الفئات المعدومة وذوي الاحتياجات الخاصة وساير فايزة الطرح الأول متسائلة عن الدور المنوط الذي كان على وكالة التنمية الاجتماعية أن تقوم به، كما تساءلت عن دور المساعد الاجتماعي ودور الجمعيات الخيرية ودور من أوكلت لهم رعاية شؤون المواطن وفي مقدمتهم الهيئات المنتخبة.
عندما غادرنا المكان تذكرنا أن الثالث من ديسمبر هو اليوم العالمي وربما الوطني للمعوقين، لكن ما شاهدناه أصابنا بإعاقة التفكير، فلمثل هؤلاء يجب أن تكون السنة كاملة لنتذكرهم وليس يوما واحدا نوزع فيه الحلوى وكلمات التعاطف التي تتبخر قبل غروب شمس الثالث من ديسمبر.