رحلة ممتعة في أحضان الجنوب الشرقي للمغرب
زارت المنطقة: صوفية الصافي
لاشك أن الجميع يعرف مدى جمال المغرب وسحره، في شماله، وجنوبه، شرقه، وغربه، وقد سنحت لي الفرصة أن أقوم بجولة سياحية في أحضان الجنوب الشرقي للمملكة، كانت الانطلاقة من مراكش نحو مرزوكة، مرورا بورزازات وتينغير والرشيدية، فمن أجمل مدن المملكة المغربية التي مررنا بها، مدينة ورزازات، هذه الجوهرة السينمائية، التي يحج إليها الزوار من جميع أنحاء العالم، تحتوي على أماكن خلابة تبهر كل من رآها، ومن بين هذه الأماكن "قصبة تاوريرت"، وهي قصبة قديمة بنيت في القرن 18م/ 1754ه، بنيت على يد شيخ من نفس المنطقة، يسمى "أمغار حماد" كما يحكي لنا السيد أحمد الذي يحفظ القصة عن ظهر قلب، ويكمل حديثه بالقول: كانت أسرة الشيخ شريفة النسب، وكانت أمه "عرافة"، فإذا ما أخبرت شخصا ما أن شيئا سيقع له، إلا ويقع، كانت لها مكانة مقدسة ورفيعة وسط القبيلة، وكانوا يطلقون على هذه الأسرة "الشريفية" حتى قبل عهد الكلاوي والاحتلال الفرنسي، ويوما بعد يوم يزداد زوار قبيلة "أمغار حماد" لزيارة أم الشيخ، وتقديم الهدايا لها كتقدير واحترام لها. ثم بعد ذلك أتت مرحلة تقرر فيها بناء القصبة، لكي تكون مكاناً مخصصاً لهذه السيدة ويليق بمقامها، وبعد أيام بنيت القصبة وعاشت بها "العرافة" وابنها مدة من الزمن، وبعد وفاتهما تركا بها فتاة يطلق عليها إسم "فاطمة حماد"، والتي ورتث القصبة.
عندما تم تعيين "الكلاوي" كباشا لمدينة النخيل في القرن 20م، أراد السيطرة على الجنوب، وأبلغ إخوته الثلاث: "القايد حمو، القايد حمادي، الحاج التهامي" باجتماع طارئ، بهدف تشغيلهم، بعد أن عينه الملك الحسن الأول، وكذا تشغيل جميع أفراد قبيلة "الكلاوي"، توالت الأيام، والشهور، وكان لابد للباشا الكلاوي أن يدخل القصبة، ومن طبيعة الحال لن ينال استقبال حافلاً من قبائل هذه الأخيرة، وبعد تفكير طويل، وضع خطة ودرسها بإحكام، حيث تزوج "فاطمة حماد" التي تعاونت معه وأدخلته للقصبة دون معرفة أحد، ولكن السر لم يعمر كثيرا، وكشف الخبر وفشلت خطة الباشا، وهجمت قبائل ورزازات على القصبة، وقامت بحصارها لمدة 8 أشهر، وكرد على الهجوم، أرسل الباشا لكلاوي، لأخيه بمراكش ليجمع له كما هائلا من الجيش، استجاب الأخ للطلب وأرسل له مجموعة من الجنود من أماكن مختلفة؛ "تلوات ، تمدانت، أيت بن حدو" وبواسطتها فك الحصار.
تحتوي القصبة على عدة أبواب قديمة النقوش، وأغلبها من صنع اليهود المغاربة، ويظهر ذلك في النجمة السداسية التي تؤثث بها الأبواب، أما الأبواب التي صنعت من طرف المسلمين فكانت النجمة الخماسية تزينها، التي تعني أركان الإسلام الخمس، دون أن ننسى الغرف الكثيرة التي كانت بنقش أصيل أيضا، بعضها كان مخصصاً للرجال وبالبعض الآخر للنساء، وبها كذلك "القبة" الخاصة "بالقايد" و"القبة" الخاصة "بفاطمة حماد".
بعد وفاة "فاطمة"، تزوج الكلاوي، بسيدة أقوى تدعى "جميلة" وكان أصلها من تركيا، حيث كان الأتراك يريدون الدخول للمغرب بعد دخولهم الجزائر، حيث تدخل الملك الحسن الأول وأرسل وفدا من المغاربة، ومن بينهم قياد من الجنوب، وذلك للتحاور مع الأتراك بعد احتلالهم لفكيك، فتمحور حوارهم حول أنهم مسلمون، ومن العار أن يتحارب المسلمون، لا الجزائريون، ولا الأتراك، والمغاربة. وهكذا لم يدخل الأتراك للمغرب وعادوا أدراجهم، وعاد الوفد المغربي واصطحب الكلاوي معه التركية جميلة، ثم تزوجها وعاشت بالقصبة، وكان إذا ما قتل شخص ما شخص آخر وثم اصطحابه للقبة للمعاقبة، تأتي أسرة الشخص ثم تقوم بالذبح وتقديم الأضحية للسيدة جميلة ثم تطلق صراحه، ولكن الأغرب من ذلك، هو أن ما من أحد يتدخل ويعارض قراراتها، وبهذا أصبحت قائدة الجنوب، وحصلت على قبة خاصة بها في القصبة، تم تزينها بطريقة مغايرة للغرف الأخرى.
أما نوافذ القصبة فهي مميزة عن غيرها، حيث تحتوي على تغراث بالأسفل، يطلق الرصاص منها من طرف حراس القصبة عند رؤيتهم للعدو، منظرها رائع، ودورها أروع، كما تحتوي القصبة على صور قديمة تبين العصر القديم زيادة على "مدفع" قديم كذلك.
دعونا ننتقل لمكان آخر، ومدينة أخرى ووجه جميل آخر هي مدينة "قلعة مكونة" مدينة أمازيغية، في الجنوب الشرقي المغربي، اشتهرت بزراعة وتجارة الورود، والاحتفاء بها في مهرجان سنوي يسمى مهرجان موسم الورود. يتميز سكانها بطيبوبتهم، وببساطتهم، واستقبال الضيف أحسن استقبال. وأروع مثال يمكن أن يقال عن هذه الوردة العطرة المدفونة وسط عدة ورود كما قالها الحسن الأول ومن سبقه، ويقولها الجيل الآني و سيأتي من يرددها: "قلعة مكونة وردة واحدة لإنسان على قيد حياته أفضل من باقة كاملة على قبره" ويمكن شرح هذا المثل بأنه دعوة عامة لكل الناس لزيارة هذه المدينة الجميلة، فإذا طرحت السؤال على أحد من زوارها "كيف تجد قلعة مكونة ؟ " فإنه لا يجد الإجابة التي يمكن أن تصف هذه البقعة الأرضية الزهرية اللون، أما الغريب في الأمر فهو عندما تحدث أشخاصا لم تتح لهم الفرصة لزيارتها فإنهم يسمونها بصفات من أجمل وأروع التعابير، فقط من خلال ما رأوه وسمعه من خلال التلفاز أو الجرائد أو غيرها، وبهذا يمكن القول بأنها ونسماتها تصل كل جهات المغرب، حتى أنها تجاوزته لتصل دول أوروبا وآسيا، وجميع القارات الخمس، لأن زوارها ليسوا فقط مغاربة، ولكنهم، تنوع بشري يزيد من اعتزازها بما تقدمه من فنون وثقافة عريقة.
قمت بزيارة للمركز المتخصص في تقطير الورود، حيث استقبلني أحد المسؤولين هناك وأجابني عن بعض أسئلتي التي تمحورت حول كيفية تقطير الورد، فكان جوابه كالتالي:"بعد أن يقطف الورد ويتم جمعه، يُنقى ثم يوضع في الآلة المتخصصة للتقطير، ثم تحول المادة المقطرة إلى آلة أخرى عبر موصل، ثم يتم عزل الماء المقطر أي ماء الورد عن الزيت، الذي يستعمل في عدة أمور، كعلاج لأمراض العيون مثلا"، أخبرني أيضا أن الورود التي تأتي للمركز لا تكون من جهة أو من منطقة واحدة بل من مناطق مختلفة مثل آيت أمغار، أيت يحيى، دادس.
شكرت المسؤول وتوجهت إلى منظر آخر، من مناظر الجنوب الشرقي الخلابة: المغارات: مغارةTod ghoo ، المتواجدة بتنغير، وأيضا مغارة دادس، هاتين المغارتين، هما بالفعل حضارة وثقافة، تصل بين أحضان جبالها الكثير من القصص، فهي تضم تاريخ جنوب المغرب الشرقي من البداية، ومازالت تجمع وستظل إلى الأبد، تتواجد بالقرب من هذه المغارات عدة محلات تعرض بعض الملابس التقليدية، والحلي المغربية الأصيلة، ناهيك عن الفنادق الفاخرة ذات الخمس نجوم، لإيواء الزوار، دون نسيان المياه العذبة، المنسكبة من كل الجهات، مما يزيد المغارتين رونقا وجمالا.
بعد هذه الرحلة الفنية بالمناظر التي تعطي للشخص رغبة جامحة للعيش فيها والاستمتاع بها.
توجهنا بعد ذلك إلى مرزوكة، الوجه الذهبي للجنوب الشرقي المغربي، تقع مرزوكة بإقليم "جد جد محافظ" الراشدية، إحدى أروع المناطق المغربية، والتي هي أحد مفاخر ومصادر قوة المنتوج السياحي المغربي، عبر العالم، وهي لسيت بعيدة كثيرا عن أرفود والريصاني، وهما مدينتين صغيرتين تقعان بالإقليم نفسه، بنحو 50 و40 كيلومترا، وعن الحدود المغربية الجزائرية بنحو 20 كيلومترا.
تبلغ مساحتها كيلومترا، حيث تحتوي على رمال ذهبية، وكثبان رملية تغير شكلها بتغير الرياح، تتنافر من جهة لجهة دون حدود، ويزداد المنظر جمالا ورونقا عند الغروب والشروق، أجد أن الشمس التي تطل على هذه الفراشة الذهبية ليست هي تلك التي تطل على العالم بأسره، فتلك الشمس تحمل في جعبتها حنانا ودفئا لا يوصف، تحتوي مرزوكة على جمال ذات بنية قوية، نظرا للاعتناء الجيد الذي تلقاه من طرف أهل الإقليم، حيث أن هؤلاء لا يختلفون عن أهل ورزازات، ولا قلعة مكونة في شيء، في الكرم وحسن المعاملة، والكلام الطيب هو شعارهم على الدوام.
في الطريق إلى مرزوكة، يتمتع الزائر بمنظر البحر الرملي الذي لا يكسر سكونه إلا العواصف الرملية، بين الحين والآخر، حيث أن هذه الأخيرة، تخفي بين كثبانها سحرا لا يدركه إلا من عشق ركوب المغامرة، وحرص على متعة الاكتشاف والدهشة، ويبدو أن هذا العشق لا يزال متروكا للسياح القادمين من دول الغرب والشرق الأقصى، والذين تحول بعضهم إلى مستثمرين في الميدان السياحي بالمنطقة، حيث أن كل من زار وتمتع بجمال المنطقة يخبر الآخر وهكذا دواليك.
ضمت زيارتي لمرزوكة القيام بجولات استكشافية للمنطقة على ظهر الجمال، حيث يمكن للزائر أن يفاجأ بعدد من الخيام السوداء، "غالبا" ما تكون تابعة لإيقامات سياحية أو فنادق، منصوبة في الخلاء، تمنح للزائر إحساسا بالوحدة والعزلة والراحة النفسية قبل الجسدية، والابتعاد عن العالم ككل، الابتعاد عن ضجيج السيارات، ومشاغل المكاتب، ومشاكل الحياة. فلا شيء أمامه غير السماء، وكثبان الرمال الممتدة في الأفق البعيد. كما أن مطاعمها لا تخرج عن نطاق الأصالة والأكلات المغربية الأصيلة، فتجد الجدران، الأثاث، المأكولات، الأواني، كلها ترمز للتاريخ المغربي المحض.
تصر هذه المنطقة على التخلي عن كل ما هو غربي أو مستورد، وذلك بهدف التعريف ببلدنا وتقديمه بأحسن صورة، أما ليل مرزوكة، فهو ليل فريد من نوعه، فالكل يعرف أن الليل يغلب عليه طابع الأسود والغموض والخوف. ولكن بالنسبة لهذا الإقليم فليله سعادة ومتعة وأغاني ورقص، فتلك الخيام المنصوبة في الخلاء، تقام فيها ليالي لإضفاء لمسة من الفن على أمسية الزائر.
تشتهر مرزوكة أيضا، أنها تساعد مرضى "الروماتيزم"، حيث يأتي المريض ويدفن في رمالها الذهبية طلبا للشفاء من هذا المرض، وغيره من الأمراض البدنية التي ثبت علميا أنها شفيت برمال مرزوكة، خصوصا منطقة "عوك الشبيك".
هناك أيضا مكان لن أنسى الحديث عنه، وهو ضريح "مولاي علي الشريف" هو ضريح موجود بالريصاني المتواجدة قبل مرزوكة، والريصاني هي قبيلة صغيرة، مناخها صحراوي مشهورة بأكلة "المدفونة"، وهي عبارة عن خبز بداخله قطع من البصل واللحم، معظم سكان هذه المنطقة يرتدون الزي الصحراوي خصوصا النساء، وهو ما يصطلح عليه باسم "اللحاف"، كما وتوجد بها محلات متخصصة لبيع هذه الملابس، وكما قلت سابقا، أن هذه المناطق، تمثل تقاليد وثقافة وعادات المغرب، والشيئ الذي لفت انتباهي، وأدهشني أن أناس الجنوب الشرقي لم يتأثروا بتقاليد الآخرين، كما هو الحال في معظم مدن المملكة، فلباسهم التقليدي، لم يتغير منذ آلاف السنين، لم يغيروا شيئا من الثرات الأصيل الموروث عن أجدادهم، وهذا هو الأهم، فالرسالة التي بدأها الأولون لم تتوقف بل أكملت طريقها بفضل الجيل الجديد.
فالبلد لا مكان لها بين الأمم إلا عن طريق الحفاظ على ثقافته وتقاليده وعاداته، وإن لم يكن هناك من يأخذ المشعل عن الأولين، فسوف يظل هذا البلد متراجعا وغير معروف، ولكن الحمد والشكر لله، أصبح الشباب يهتمون ببلدهم، ويولونها اهتماما أكثر مما سبق، فأنا كشابة أحب بلدي وأعتز به، وأضع يدي بيد الشباب الآخرين لتغيير الصورة الخاطئة للمغرب في أذهان الكثيرين، ليظل بلدنا من بين البلدان التي يصل مدى جمالها وانجازاتها وعاداتها إلى آلاف وآلاف الأشخاص.
سواء أكان الشرق، الغرب، الشمال، أو الجنوب، فكلهم تحت لواء بلد واحد وراية واحدة، وملك واحد، فبتعاوننا وتضامننا سنساعد على عدم اختفاء معالمنا التاريخية، وإعادة ترميمها لتعمر طويلا، ولكي نستطيع أن نسلم المشعل في أبهى حلة لأولادنا ويكون إنشاء الله خير خلف لخير سلف