ضريح السيد زينب : حكاية قبر ذهبي وثالث أكبر مزار ديني في العالم بعد مكة والمدينة
lotfi Flissi
ملايين الزوار يتوافدون عليه طوال شهور السنة، ويحتل قدسية كبيرة في نفوس الكثير من
الطوائف، إنه ضريح السيدة زينب في دمشق، الذي سجلنا فيه الأحداث الحية التي تقع كل يوم فوق رأس حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من دمشق صعدت أرواح بعض أحفاد وحفيدات رسول صلى الله عليه وسلم، لتترك خلفها قبورا ظلت حتى اليوم قبلة لأجيال وأجيال يأتون من شتى بقاع الدنيا لزيارتها، لكن أحيانا ما تحمل هذه الزيارات خروقا نهى عنها الشرع، الأمر الذي دفعنا لزيارة مقام السيدة زينب بدمشق، وهو أشهر تلك الأضرحة على الإطلاق، لنقف على أصل الحكاية
مكة والمدينة والسيدة زينب
أول ما لفت انتباهي عندما دخلت مقام السيدة زينب تلك الجموع التي أحاطت بالمقام لتتوجه بالدعاء إلى الله، وهم في قناعة تامة بأن الدعاء في هذا المكان مستجاب ولا يرد، حقا إن هذا المكان طاهر لأنه يحوي جسد واحدة من أطهر نساء العالمين، لكن الله موجود في كل مكان، يسمع دعاء الداع حتى لو في أعماق البحار أو في متاهات الصحاري، وعندما أخبر أولئك بتلك الحقيقة، يؤكدون لي أنهم على دراية بذلك، لكن فرط حبهم للسيدة زينب رضي الله عنها يجعلهم يشعرون بالراحة وهم في ذلك المكان، بل إن منهم من أكد لي أنه يشعر بالخشوع التام والوقوف بين يدي الله وهو على مقربة من ذرية سيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم، وأكد لي آخر أن أفضل الأمكنة التي يحس فيها بقربه من المولى عز وجل هي بيت الله الحرام في مكة ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة وضريح السيدة زينب بدمشق.
الطريق إلى قرية "الست"
على بعد ثلاثة كيلومترات تراءت لي مئذنتان عاليتان تشقان عنان السماء بينهما قبة ذهبية تلمع لمعانا يأخذ الأبصار، تشق السيارة طريقها في شارع طويل تتزاحم على جانبيه المساكن والمحلات التجارية المكتظة بالزبائن، ووسط هذا الزحام يوجد الباب المؤدي إلى ساحة مقام "الست"، أو مقام السيدة زينب ابنة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنة
الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه..
فعلى أطراف القسم الجنوبي الشرقي من دمشق وعلى بعد سبعة كيلومترات منها تقع
ناحية (السيدة زينب) أو (قبر الست) وسميت القرية قديماً بقرية (راوية)، حيث يقع مقام السيدة زينب الشهير الذي يزار من قبل ملايين المسلمين سنويا، فتبدل اسم القرية باسمها رضي الله عنها.
ويأتي الزوار لهذا المكان من مناطق شتى من أرجاء العالم الإسلامي، من (لبنان، العراق، الهند، باكستان، أفغانستان، دول الخليج، إيران، والمقيمين في البلدان الأوروبية)، جميعهم تجدهم وفي فترة الصيف على الخصوص يتواردون لزيارة المكان الذي يمتلئ عن آخره بهم. وتعتبر ناحية (السيدة زينب) مركزاً سياحياً هاماً في سورية.
ويعتبر المسجد المبني حول مقام السيدة زينب من التحف المعمارية الرائعة والصروح الهندسية البديعة ح
يث يشكل أحد أجمل وأروع مساجد الإسلام عبر العالم، إذ يعد لوحة فنية خلابة.
أروع تحفة معمارية إسلامية
مقام السيدة زينب له أربعة مداخل للزائرين، يبلغ عرض كل منها أربعة أمتار، وعلى جانبي كل منها رواق جميل عرضه 04 م، عبدت بأحجار بلونها البني الفاتح والرمادي الغامق، وتبدو خلف الرواق سبعون غرفة، واجهاتها بنيت من الحجر البازلتي، تذكرنا بتقاليد بيوت دمشق القديمة المحلية، ويعلو كلاً من أبوابها ونوافذها قوس نصف مستدير مما يذكرنا بجمال العمارة المحلية في قصور دمشق القديمة...
أما سقف المقام فمتدرج، يفصل كل درجة عن غيرها سطح زجاجي عمودي من شأنه توفير الإضاءة الطبيعية الكافية والمناسبة، ودخول أشعة الشمس إلى داخل مبنى المقام، أضف إلى ذلك توفير التهوية الضرورية من مختلف جهات وأطراف مبنى المقام.
كما تم استخدام الخزف في تزيين رواق الصحن ورواق المقام والأعمدة والدعائم والأقواس الحاملة للقبة والقبة نفسها والمئذنتين، وكذلك تم استخدم الخزف الإسلامي بألوانه وعناصره الزخرفية النباتية المتقاطعة والمتتالية وكتاباته الإسلامية القرآنية والأدبية... وذلك في سبيل تزيين واجهات رواق الصحن ورواق المقام والأعمدة والدعائم
والأقواس الحاملة والقبة نفسها والمئذنتين الرشيقتين الأسطوانيتي الشكل.
وكسيت الأقسام العلوية من جدران المقام الداخلية بتشكيل من المرايا الدقيقة المصنعة في بلجيكا لهذه الغاية، وتتداخل معها تزيينات الخزف القيشاني لتغطي سطوح الدعائم حاملة القبة والأقواس والجسور... مما أسهم في تحقيق الجمال الزخرفي.
قبة بالذهب الخالص
الأسطح الخارجية لقبة مقام السيدة زينب كسيت بالذهب الذي
جعل هذا المبنى يتلألأ ليلاً ونهاراً ويضفي على المنطقة جمالاً جذاباً ومتميزاً.
أما عن الأبواب المذهبة للمقام فهي آية في الإبداع الفني من حيث النقوش وهي مصنوعة من صفائح الفضة المطلية بالذهب والمزينة بالنقوش الفاخرة والمطعّمة والتي صنعت خصيصا لهذا الغرض بألمانيا، وتوّجت بآيات قرآنية كريمة وأحاديث شريفة مكتوبة بخطوط آية في الإتقان.
أما عن القفص الفضّي الأول الذي صنع في باكستان من خشب الأبنوس المكسوّ بصفائح من الفضة، فقد شيد على قاعدة من الرّخام، ثم أضيف إليها القفص الفضي المذهب الثاني الذي زيّن بأبدع النقوش وكتبت عليه أسماء الله الحسنى.
التسمية النبوية والرضاعة في بيت الرسالة
ولدت السيدة زينب في حياة جدها رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فلما ولدت جاءت بها أمها الزهراء إلى أبيها "علي" -رضي الله عنه- وقالت له: "سم هذه المولودة؟" فقال: ما كنت لأسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في سفر له، ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن تسميتها، فأسماها صلى الله عليه وسلم "زينب"، وتكنى السيدة زينب بأم كلثوم، وأم الحسن، وهي أول بنت ولدت لفاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونشأت هذه الفتاة في حضن النبوة، ودرجت في بيت الرسالة، فربيت تربية إسلامية صحيحة انعكست عليها بقية أيام حياتها، ولما تزوج "علي" بأمامة بنت أبي العاص بعد وفاة فاطمة أم زينب، قامت "أمامه" بشؤون زينب خير قيام كما كانت تقوم بشؤون بقية ولد فاطمة، وكانت أمامة هذه من النساء الصالحات القانتات العابدات، وكانت زينب تأخذ التربية الصالحة والتأديب القويم
من والدها وأخويها الحسن والحسين، إلى أن بلغت من العلم مبلغا كبيرا.
ولما أصبحت امرأة، وانتقلت من دور الطفولة إلى دور الشباب، خطبها الأشراف من العرب ورؤساء القبائل، فكان زواجها من ابن عمها "عبد الله بن جعفر" على نفس صداق أمها فاطمة "أربعمائة وثمانين درهما". وكان عبد الله بن جعفر أول مولود في الإسلام بأرض الحبشة، وكان ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظ حديثه، وكان عبد الله بن جعفر كريما جوادا، فكان بيته محط آمال المحتاجين، وكان لا يرد سائلا قصده، وكان يبدأ الفقير بالعطاء قبل أن يسأله، فسئل عن ذلك فقال: لا أحب أن يريق ماء وجهه بالسؤال، حتى قال فقراء المدينة بعد موته: ما كنا نعرف السؤال حتى مات عبد الله بن جعفر، ويقال إن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه توفي في المدينة المنورة سنة ثمانين من الهجرة وذلك في خلافة عبد الله بن عبد الملك بن مروان، فدفن في مقبرة البقيع بالمدينة المنورة، ويقال أيضا إنه دفن في دمشق التي يقال إنه رحل إليها مع زوجته وأولاده في آخر أيام حياتهم.
مآس جعلت "زينب" أكثر نساء العالم ثباتا وإيمانا
تعتبر السيدة زينب رضي الله عنها ابنة الإمام علي كرم الله وجهه من نساء الإسلام الشهيرات، وكانت لها مواقف معروفة ومشهورة جعلت المؤرخين يلقبونها بالعقيلة أو عقيلة بني هاشم لأنها كريمة قومها وعزيزة بيتها.
وكان أمير المؤمنين علي -كرم الله وجهه- يرد الطالبين لزواجها وعندما تقدم عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وافق أمير المؤمنين على زواجه منها.. فأبوه هو جعفر بن أبي طالب وأمه أسماء بنت عميس الخثعمية من المهاجرات المؤمنات المعروفة بالتقى والصلاح.
وزينب رغم زواجها وانتقالها إلى بيت ابن جعفر إلاّ أنها لم تتخل عن مسؤولية تدبير شؤون منزل أبيها وتربية أخويها "الحسن والحسين" -رضي الله عنهما-، فقد انتقلت من المدينة إلى الكوفة رفقة أبيها وأخويها تبعاً لانتقال مركز الخلافة الإسلامية، وكان بمعيتها زوجها وأولادها لتعيش على مقربة من أمير المؤمنين علي، بصفتها الابنة الكبرى بعد وفاة أمها فاطمة -رضي الله عنها-.
وزينب بحكم مركزها في الأسرة النبوية تختلف عن باقي النساء، فصُورُ فقدِان جدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمِها الزهراء ظلت عالقةً في ذهنها، ومعاصرتها عن قرب الأحداث التي ثارت في وجه أبيها، والتي كان آخرها رؤيتها له وهو يستشهد في محرابه بسيف "ابن ملجم" أحد الخوارج أثناء الفتنة التي ألمت بالمسلمين، ظلت ماثلة أمامها حتى آخر لحظة في حياتها، هذه المآسي خلقت من حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة قوية الإيمان والعقيدة، فقد كانت أشد النساء إيمانا بقدر الله وقدره، وكانت كلما وقعت لها فاجعة تحتسبها عند الله عز وجل، فلم تصرخ يوما ولم تشق جيب يوما، وكانت بحق من أفضل النساء اللواتي يستحقن اكتمال الإيمان لديهن.
جثمان السيدة زينب.. هل هو في القاهرة أم دمشق؟
يقول بعض المؤرخين إن مجاعة أصابت المدينة المنورة فرحل عنها بأهله عبد الله بن جعفر إلى الشام في ضيعة له هناك، وهناك أصيبت زوجته زينب -رضي الله عنها- بالحمى جراء عناء السفر فتوفيت في منتصف رجب سنة خمس وستين من الهجرة ودفنت هناك حيث قبرها الشهير الموجود إلى يومنا هذا.
في حين يؤكد عدد آخر من المؤرخين أن هذا القبر هو للسيدة أم كلثوم ابنة أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- والمشهور أن أسمها "زينب" أيضا، ويفرق بينها وبين أختها زينب الكبرى بثالثة تدعى بزينب الوسطى، لما يقوله جماعة من أهل العلم منهم صاحب كتاب (ذخائر العقبى)، والذي جاء فيه: وولدت فاطمة -رضي الله عنها- حسنا وحسينا -رضي الله عنهما- وزينب ورقية وأم كلثوم، وولدت هذه السيدة بعد أختها زينب الكبرى وكانت من أجل النساء فضلا وزهدا وتقوى وعبادة وشرفا وعفة.
وقيل إن السيدة زينب توفيت بمصر، في حين يقال إن الفاطميين نقلوا جثمانها م
ن دمشق إلى القبر الموجود في القاهرة أثناء إنشائهم لدولتهم في مصر.
لكن يكاد يكون هناك إجماع من كثير من العلماء على أن القبر الموجود بقرية راوية
من غوطة دمشق المعروفة بقرية الست هو قبر السيدة زينب رضوان الله عليها.
الصلاة على طريقة الشيعة
من بعيد لمحت عيناي امرأة شيعية همت للصلاة وقبل أن تكبر مدت يدها في جيبها وأخرجت منديلا أخضر وقطعة من الحجر، ففرشت المنديل باتجاه القبلة، ثم وضعت فوقه هذا الحجر الصغير، ثم بدأت صلاتها، فرأيتها تسجد دون أن تلامس جبهتها الأرض ليكون هذا الحجر موضع سجود جبهتها، جذبني الأمر.. فهذه هي المرة الأولى التي أرى فيها مسلما لا يسجد بالطريقة المعتادة، أخذت أسأل عن هذه الحكاية من مرافقي، فأخبروني أن الشيعة لا يسجدون مباشرة على الأرض وإنما يسجدون على مثل هذه الحجارة المختلفة الأحجام، وأن سر هذه الحجارة يكمن في أنها من كربلاء موضع استشهاد الحسين رضي الله عنه، وقالوا لي أيضا إنه لا يوجد منزل لشيعي دون أن يدخل في بناءه حجر مصنوع من رمال كربلاء، لكني لم أقتنع بهذا الكلام وأردت أن أعرف القيمة الدينية لهذا الحجر من أحد الشيعة، فأخبرني أحدهم أن هذه الحجارة مصنوعة من تراب الصعيد الطاهر، وهذا الصعيد عندهم هو موضع استشهاد الحسين،
وهم يسجدون عليه ليؤكدوا تمسكهم بعهدهم مع الحسين واتباع وصاياه.
ــــــــ
دمشق: ع. وليد