'الشروق' في قبر صلاح الدين الأيوبي: أعظم أبطال التاريخ .. يأبى الزمان محو ذكراه
lotfi Flissi
يحاربون سيرته لأنه حطم جبروتهم وأذل طغيانهم هو الفارس النبيل والبطل الشجاع وواحد من أفضل القادة الذين عرفتهم البشرية ، فشهد بأخلاقه أعداؤه من الصليبيين قبل أصدقائه ، ونشروا سيرته في مجلدات .
إنه نموذج فذ لشخصية عملاقة من صنع الإسلام، وحد المسلمين ، ثأرا للنبي"ص" شن معركة حطين ، حرر القدس الشريف ، حارب جميع جيوش الغرب التي جاءت لتقضي على الاسلام والمسلمين ، فانتصر بقوة الايمان وصدق العقيدة ، واليوم يحاربون سيرته ويطمسون تاريخه في عقول وأفئدة أبناء المسلمين بحجة " أنه محرض على العنف " ، أما السبب الحقيقي فهو خشية أعداء الاسلام من بطل مسلم جديد يلبس عباءة صلاح الدين وينقذ القدس ويحرر المسلمين .
جيل بأكمله من أبناء الاسلام لايعرفون شيئا عن هذا القائد العظيم ، شأنه شأن الكثير من أبطالنا الذين حذفت سيرتهم من المناهج التربوية والتعليمية في اطار " حوار الثقافات والأديان " هذا الحوار الذي يفرض على المسلمين ونشئهم الذلة والمهانة والركوع تحت أقدام الصليبيين الجدد والصهاينة والتفريط في حقوقنا وأراضينا المقدسة السليبة ، ولأن تاريخ صلاح الدين وبطولاته تتناقض مع هذه المخططات العدوانية ، فها هم ينفذون ما عجزوا عن تحقيقه وهو حي ، يقتلونه ..
يهينونه .. يشوهون تاريخه .. ويمحون سيرته من ذاكرتنا .
ضريحان لجثة واحدة
يقع ضريح صلاح الدين داخل المدرسة العزيزية في حي الكلاسة شمالي الجامع الأموي في دمشق، وقد بنى المدرسة الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين الأيوبي، بعد وفاة والده، ويذكر أن صلاح الدين أول ما دفن في قلعة دمشق سنة 589 هـ، ونقل من بعد جسمانه ليستقر في هذا القبر الى يومنا هذا، القبر تعلوه قبة، وفوق الضريح تركيبة من خشب الجوز المزين بزخارف منحوتة، وفي أعلاه نقشت آية الكرسي بالخط الكوفي، ومكتوب على الضريح عبارة بخط القاضي الفاضل المعروف بابن زكي الدين الدمشقي ونصها: "اللهم فارضَ عن تلك الروح، وافتح لها أبواب الجنة، فهو آخر ما كان يرجوه من الفتوح".
وبجوار الضرح يوجد ضريح آخر فارغ من الرخام ، وهو هدية من امبراطور المانيا "غليوم الثاني" عام 1898 عندما بدأ الضريح الأصلي في التآكل والتصدع ، لكن بقي الجثمان في مكانه ووضع القبر الفارغ الى جواره ، في اشارة الى احترام قادة الغرب لسيرة صلاح الدين حتى وقت قريب .
عيون حاقدة وأخرى خاشعة
كانت المرة الأولى التى أقف فيها أمام قبر صلاح الدين والذى يتوسط غرف بسيطة للغاية، لا تتجاوز مساحتها 4×5 أمتار ، أول ما شد انتباهي هو خلو صحن الضريح من الزوار العرب والمسلمين وفي المقابل وجدت المكان مكتظا عن آخره بالسائحين الأجانب من مختلف الجنسيات ، لون بشرتهم واللغات التي يتحدثون بها تشير الى بلدانهم الأوربية والأمريكية ، أخذت أعمق النظر في عيونهم وقسمات وجوههم فقرأت مئات الأحاديث بين الزوار ونزيل الضريح ، المهم أنهم انقسموا لثلاث فرق أولاهما تلقي عبارات التحية والاعجاب على البطل الذي ضرب أروع الأمثلة في الشجاعة والسماحة ، والذي رغم انتصاره الساحق على الغزاة لم يمعن في القتل ولم يبيدهم وهم تحت رحمة سيفه ، فسمح لهم بالرحيل وأمن " حجهم " للقدس وجعل المدينة الشريفة آمنة بعد عقود من الخراب والدمار .
أما الفريق الثان فقد حملت عيونهم من الغل والكراهية ما يفوق الوصف ، انهم لا يستطيعون نسيان ما لحق بهم على يد هذا الرجل الذي كسر شوكتهم ونكث هامتهم وهزمهم شر هزيمة رغم كثرتهم ، كانت نظرات الشماتة تكسي وجوههم ويقولون له نفس المقولة الخبيثة "ها قد عدنا يا صلاح الدين " ويضيفون " أنظر الينا الآن ، الى قوتنا وتقدمنا وسيطرتنا ، وأنظر الى أحفادك الضعفاء .. المساكين والجبناء ، هل يستطيعون أن يقفوا في وجهنا ؟ لقد مت يا صلاح الدين ولم يبقى منك سوى هذا الضريح ، حتى هذا سنزيله عن قريب من الدنيا مثلما أزلنا سيرتك من نفوس أحفادك "
بينما وقف الفريق الثالث ونظرات الهيبة والرهبة بادية على وجوههم ، كانت روح صلاح الدين حاضرة في المكان ، وكأن نصل سيفه يلوح فوق أعناقهم ، فوقفوا يرتجفون في حضرة الفارس الذي لا يشق له غبار ، والذي حصد رؤوس أجدادهم " الأشاوس" ، وهم يرجون في قرارة أنفسهم أن يهربوا من ذلك المكان الذي يذكرهم بالعار الذي لحق بهم .
حوار مع صلاح الدين
أما أنا .. فلم أتمالك نفسي والدموع المتحجرة منذ سنين تقذفها عيناي ، سنين وأنا أراقب ما يحدث للمسلمين وما آلت اليه الأمة ، ووجدتني أطيل التفكير والتأمل فى واقعنا الحالي، وهزيمتنا فى داخل أنفسنا حتى تمكن أعداء الأمة من تمزيقنا فرقاً وشيعا وحققوا مخططاتهم التى تهدد سقوط بلداننا واحدة تلو الأخرى ، وقادتنا يتفرجون أو يشاركون فى التخطيط لتمكين العدو الأمريكى الصهيونى من مخططاته، فهل يضيع المسلمون ويسقطون من حساب التاريخ ؟، وتجسد أمامى فى لحظات دور وموقف وتاريخ القائد صلاح الدين ، ورن في أذني صليل فرسه وجند الاسلام عند دخولهم المسجد الأقصى وسط التهليل والتكبير وإقامة صلاة الشكر ، ثم تذكرت مقولته التي ظل يرددها حتى آخر لحظة من عمره الذى لم يتجاوز 57 عاما "القدس قطعة من الجسد العربى، وأنا مسئول عنها أمام الله يوم القيامة .
وبينما أنا أفكر فى أحوالنا، تطلعت حولى فى أركان غرفة القبر لأجد على الحائط لافتة قديمة استهلكها الزمن، فأخذت أمعن النظر فى الكلمات المخطوطة بالورقة تحت البرواز الخشبي المعلق لأقرأ عنوانا "قف باحترام أمام مرقد بطل الاسلام العظيم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب شادى، ولد رحمه الله فى قلعة تكريت سنة 532 هـ، ونسبه يتصل ببطن عظيم من بطون الأكراد الراووية، استتب له الملك والسلطان على مصر والشام نحو عشرين سنة الى أن توفى بدمشق سنة 589 هـ ودفن فى قلعتها. رحمه الله وطيب ثراه " ، فسألت نفسي: هل يمكن أن نتصور أجيالا قادمة، تقف أمام لوحة أخرى تحمل اسم قائد عظيم منتصر، وقد استرد أمل هذه الأمة المقهورة فى استعادة عزتها وكرامتها وحقوقها الضائعة؟ أم أن ذلك بات شيئا من المجهول، أو حلما من الأحلام المستحيلة فى زمن العجز والهوان والسقوط الاسلامي المشين؟
لم أجد اجابة .. وفجأة شعرت بنسمة ريح عليلة تهب على المكان ، ورغم رقتها الا أنها أفقدتني توازني ، فجلست واضعا ظهري على الضريح ، ولم تمر ثوان حتى انتابتني رجفة مزلزلة وشئ يحدثني بأن روح صلاح الدين حاضرة بالفعل ، انتفضت والغضب واليأس يمزقان جسدي رافعا صوتي : أجبني يا بطل الاسلام .. متى نتحرر من عبوديتنا ؟ متى نحرر القدس ؟ متى يتوحد المسلمين ؟ ومتى نسترد قوتنا حتى نقف بشجاعة في وجه أعدائنا والمتربصين ؟ متى نضع حد لأولئك الفجرة الذين يسبون نبينا ويدنسون قرآننا ويتجنون على ديننا ؟ ألا تجيب ؟
كان الصمت قد خيم على المكان ، ولم يبقى فيه سواي ، فسمعت شيئا يحدث نفسي قائلا : لقد اخترتم بأنفسكم طريق الذل والهوان ، غرتكم الدنيا وغرقتم في ملذاتها تاركين العمل والجهاد ، تخلفتم عن الدور الذي شرعه الله لكم واخترتم الراحة والخمول ، استسلمتم لأعدائكم وسلمتوهم زمام أموركم طلبا للأمان فخسرتم كرامتكم ولم تلقون منهم سوى القتل والاحتلال ، وتأتي اليوم لتندب خالك وحال الأمة على قبر لا حول له ولا قوة !!!
فقلت لهذا الصوت الخفي : أعرف أنني وملايين المسلمين حملناك مالا طاقة لك به ، لقد جاهدت وأفنيت حياتك في اعلاء كلمة الله ، ورغم ذلك نستصرخك ليل نهار لتعود الينا لتنقذ هذه الأمة مما لحق بها ، فلا يوجد سواك لهذه المهمة ، وأنت أكثر الناس غيرة على الاسلام والعروبة ، فهل يرضيك ما يحدث لنا الآن ؟
فأجابني : لا أستطيع أن أعود في زمنكم المشين الذي فرطتم فيه في كل شئ ، وأصبحتم أهون على أعدائكم من جناح بعوضة ، أين جندي الأبطال ، وأين الفرسان الأقوياء الايمان والعقيدة ؟ أم حسبت أنني على استعداد لقيادة شباب الجينز والشات والبرابول ؟ لا تتصور كم أعتصر ألما وأنتم تفرطون في دماء وتضحيات أجدادكم ، وتضيعون تعب وكفاح وجهاد السنين ؟ عذرا يا ولدي أنت تطلب مني المستحيل .
فقلت : أنت أهل المستحيل ، كل ماحققته للاسلام والمسلمين كان مستحيلا ، الا أنك قهرت كل شئ بقوة ايمانك .. عد يا صلاح الدين .. عد بروحك لا جسدك ، أجعل هذه الروح تسكن جسد واحد من أبناء هذه الأمة ليرفع هامتها من جديد
فقال: جسد واحد لا يكفي ، بل أجساد المسلمين كلها تحتاج لايمان وقوة وصلابة العبد الفقير الى الله صلاح الدين وخالد بن الوليد وعمر بن الخطاب .. فهل شباب المسلمين اليوم على استعداد لذلك ؟ فقلت : وكيف السبيل الى ذلك ؟
فقال : اسمع يا ولدي .. عد الى الناس وقص عليهم ما دار بيني وبينك ، وذكرهم بسيرة أبطال الاسلام ، وحث كل أب وأم على أن يلقنوا أبنائهم سيرة وتاريخ أجدادهم العظام ، وتأكد أنه بذلك سيأتي يوم يصبح فيه جميع أبناء الأمة أفضل من صلاح الدين .
وبعد هذه الكلمات هدأ المكان ، وكأن روح صلاح الدين عادت الى مرقدها .
ثم ألقيت السلام على صلاح الدين ، مودعا اياه ، وعدت لأنفذ عهدي معه ، فأقرأي يا أمة الاسلام سيرة هذا البطل ، اقرأوها يا شباب الاسلام ، احفظوها أو احتفظوا بهذه المعلومات لتقصوها على أبنائكم وتعلموهم اياها .
عبقرية صلاح الدين الدينية
تحييد التشيع ونشر المذهب السني
شاءت الأقدار أن يتولى صلاح الدين الوزارة لدى خليفة مصر العاضد الفاطمي، سنة (564هـ - 1168م)، خلفا لعمه "أسد الدين شيركوه" الذي لم ينعم بالوزارة سوى أشهر قليلة، وبتوليه هذا المنصب تغيرت حركة التاريخ في القرن السادس الهجري، فسقطت دولة كانت في النزع الأخير، وتعاني سكرات الموت، وقامت دولة حملت راية الجهاد ضد الإمارات الصليبية في الشام، واستردت بيت المقدس من بين مخالبهم، بعد أن ظل أسيرا نحو قرن من الزمان.
شهدت السنوات الأخيرة من عمر الدولة الفاطمية في مصر صراعا محموما بين "شاور" و"ضرغام" على منصب الوزارة، ولم ينجح واحد منهما في حسم الصراع لمصلحته، والانفراد بالمنصب الكبير، فاستعان كل منهما بقوة خارجية تعينه على تحقيق هدفه؛ فاستعان ضرغام بالصليبيين، واستعان الآخر بنور الدين محمود سلطان حلب، فلبَّى الفريقان الدعوة، وبدأ سباق بينهما لاستغلال هذا الصراع كلٌّ لصالحه، والاستيلاء على مصر ذات الأهمية البالغة لهما في بسط نفوذهما وسلطانهما في تلك المنطقة.
وانتهى الصراع بالقضاء على الوزيرين المتنافسين سنة (564هـ - 1168م)، وتولى "أسد الدين شيركوه" قائد حملة نور الدين منصب الوزارة للخليفة العاضد الفاطمي، ثم لم يلبث أن تُوفي شيركوه فخلفه في الوزارة ابن أخيه صلاح الدين الذي كان في الثانية والثلاثين من عمره.
وكانت مصر في عهد الفاطميين تتبع المذهب الشيعي ، وكانت المفارقة أن يتولى صلاح الدين السُّني المذهب الوزارة لدولة شيعية، وأن يدين في الوقت نفسه بالولاء لنور الدين الزنكي سلطان حلب التابع لدولة الخلافة العباسية، وتحولت مهمته من منع مصر من السقوط في أيدي الصليبيين إلى السعي في ردها إلى أحضان الخلافة العباسية.
ولم يكن لصلاح الدين من سابق الأعمال أو خبرة السنين ما يُسَهِّل عليه القيام بهذه المهمة الصعبة، لكنه نجح في أدائها على نحو يثير الإعجاب، والتقدير، واستعان في تحقيقها بوسائل جديدة تدل على فرط الذكاء وعمق البصيرة، وحسن التصرف، وقوة الإدراك والوعي بحركة التاريخ، وتفضيل التغيير السلمي الواعي على غيره من وسائل التغيير، وتهيئة الأجواء له حتى لا تصطدم به أي عوائق.
ولكي ينجح صلاح الدين في تحقيق هدفه كان عليه أن يقوي المذهب السني في مصر؛ حتى يتمكن من إسقاط الدولة الفاطمية، وإلغاء المذهب الإسماعيلي الشيعي، واستغرقت هذه المهمة ثلاث سنوات، لجأ في أثنائها إلى العمل المتأني والخطوات المحسوبة، فعزل القضاة الشيعيين، وأحل محلهم قضاة من أهل السنة، وأنشأ عددا من المدارس لتدريس الفقه السني.
حتى إذا وجد أن الفرصة المناسبة قد لاحت، وأن الأجواء مستعدة للإعلان عن التغيير، أقدم على خطوة شجاعة، فأعلن في الجمعة الأولى من شهر المحرم (567هـ - سبتمبر1171) قطْع الخطبة للخليفة الفاطمي الذي كان مريضًا وملازمًا للفراش، وجعلها للخليفة العباسي، فكان ذلك إيذانا بانتهاء الدولة الفاطمية، وبداية عصر جديد.
استعدادا لمواجهة الأعداء والجهاد في سبيل الله
توحيد المسلمين تحت راية واحدة
قضى صلاح الدين السنوات الأولى بعد سقوط الدولة الفاطمية في تثبيت الدولة الجديدة، وبسط نفوذها وهيبتها على كل أرجائها، خاصة أن للدولة الفاطمية أنصارًا وأعوانًا ساءهم سقوطها، وأحزنهم إضعاف مذهبها الإسماعيلي، فناهضوا صلاح الدين، فخططوا للقضاء على الدولة الوليدة قبل أن يشتد عودها، فكانت فتنة "عمارة اليمني" ، وفتنة أسوان التي اشتعلت لإعادة الحكم الفاطمي، لكن تلك الحركات باءت بالفشل، وتمكَّن صلاح الدين من القضاء عليها تماما.
وبعد وفاة "نور الدين محمود" سنة (569هـ - 1174م) تهيأت الفرصة لصلاح الدين الذي يحكم مصر نيابة عنه، أن يتطلع إلى ضم بلاد الشام إلى حكمه؛ لتقوية الصف الإسلامي، وتوحيد الجهود استعدادا للوقوف أمام الصليبيين، وتحرير الأراضي المغتصبة من أيديهم، فانتهز فرصة استنجاد أحد أمراء دمشق به، فسار إلى دمشق، وتمكن من السيطرة عليها دون قتال سنة (570هـ - 1174م)، ثم على حمص وحماة وبعلبك، ثم أعلن عن استقلاله عن بيت نور الدين محمود وتبعيته للخلافة العباسية التي منحته لقب سلطان، وأصبح حاكما على مصر، ثم عاود حملته على الشام سنة (578هـ - 1182م)، ونجح في ضم حلب وبعض المدن الشامية، وأصبح شمال الشام كله تحت سيطرته، وتعهَّد حاكم الموصل بإرسال مساعدات حربية إذا طلب منه ذلك. واستغرق هذا العمل الشاق من أجل توحيد الجبهة الإسلامية أكثر من عشر سنوات، وهي الفترة من سنة (570هـ - 1174م) إلى سنة (582هـ - 1186م)، وهي فترة لم يتفرغ فيها تماما لحرب الصليبيين.
لماذا قتل صلاح الدين " أرناط" المجرم ولم يعفو عنه ؟
معركة حطين انتقاما لاهانة النبي "ص"
اطمأن الناصر صلاح الدين إلى جبهته الداخلية، ووثق تماما في قوتها وتماسكها، فانتقل إلى الخطوة الأخرى، وانصرف بكل قوته وطاقته إلى قتال الصليبيين، وخاض معهم سلسلة من المعارك كُلِّلت بالنصر، ثم توج انتصاراته الرائعة عليهم في معركة "حطين" سنة (583هـ -1187م)، وكانت معركة هائلة أُسر فيها ملك بيت المقدس وأرناط حاكم حصن الكرك، وغيرهما من كبار قادة الصليبيين.
كانت معركة حطين المباركة على المسلمين في يوم السبت 14 ربيع الآخر سنة 583هـ في وسط نهار الجمعة وكان صلاح الدين كثيرا ما يقصد لقاء العدو في يوم الجمعة عند الصلاة تبركا بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر ، فسار في ذلك الوقت بعدما بلغه أن العدو حشد جموعه بمرج صفورية بعكا ، ونزلت جيوش الإسلام على بحيرة طبرية ثم صعدت الى سطح الجبل في انتظار هجوم الصليبيين إلا أن هؤلاء لم يتحركوا ، فهجم صلاح الدين على طبرية فحررها في ساعة واحدة وبقيت القلعة محتمية بمن فيها ، وعندما بلغ العدو ما جرى في طبرية أزعجهم الأمر فزحفت جيوش الصليبين نحوها ، فعلم صلاح الدين ذلك ، فترك على طبرية من يحاصر قلعتها ، وتحرك بسرعة فالتقى بالعدو على سطح جبل طبرية الغربي في يوم الخميس 22 ربيع الآخر ، وحال الليل بين المعسكرين حتى أشرق يوم الجمعة فالتحم الجيشان واشتد القتال ، وضاق الخناق بالعدو وهم سائرون كأنهم يساقون إلى الموت ، ولم تزل الحرب مندلعة حتى حل الليل فتوقفت حتى صبيحة يوم السبت ، وتحقق المسلمون أن من ورائهم الأردن ومن بين أيديهم بلاد العدو وأنهم لا ينجيهم إلا الاجتهاد في الجهاد ، فصاحوا صيحة رجل واحد فألقى الله الرعب في قلوب الكافرين وكان حقا عليه نصر ، وأحاط المسلمون بالصليبيين من كل جانب وأطلقوا عليهم السهام وحكموا فيهم السيوف وانهزمت طائفة منهم فتبعها أبطال المسلمين فلم ينج منها أحد ، واعتصمت طائفة منهم بتل يقال له تل حطين وهي قرية عندها قبر النبي شعيب عليه السلام فضايقهم المسلمون وأشعلوا حولهم النيران واشتد بهم العطش وضاق بهم الأمر حتى استسلموا للأمر خوفا من القتل ،فأسر بعضهم وقتل الباقون.
وكان ممن سلم الملك جفري وأخوه والبرنس أرناط صاحب الكرك والشوبك وابن الهنفري وابن صاحبة طبرية ومقدم الديوية وصاحب جبيل ومقدم الأسبتار.
وأما أرناط فان صلاح الدين كان قد نذر أنه إن ظفر به قتله وذلك لأنه كان قد عبر به عند الشوبك قوم من مصر في حال الصلح فغدر بهم وقتلهم فناشدوه الصلح الذي بينه وبين المسلمين فقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وبلغ صلاح الدين ما جرى فحملته حميته ودينه على أن يهدر دمه ، فضربه ضربة قاتلة يسفه لتتلقفه بقة سيوف المسلمين التي مزقت جسده الخبيث ، انتقاما لتعديه باللفظ الفاحش على الرسول صلى الله عليه وسلم .
تطهير الشام وإنقاذ الأسرى
وبعد أن ثأر لرسول الله "صلى الله عله وسلم" ممن أهانوه باللفظ ، وبعد أن من الله عليه بنصر حطين العظيم ، توجه صلاح الدين صوب عكا فكان نزوله عليها يوم الأربعاء فقاتل الصليبيين بها يوم الخميس فحررها وأنقذ من كان بها من أسرى المسلمين وكانوا أكثر من أربعة آلاف نفس واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع لأنها كانت محطة تجارية ، وتفرق جنود الإسلام في بلاد ساحل الشام يحررون الحصون والقلاع والأماكن المنيعة فسقطت نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة وكان ذلك لخلوها من الرجال لأن القتل والأسر أفنى كثيرا منهم ، ولما استقرت قواعد عكا وقسمت أموالها وأسراها سار البطل صلاح الدين باتجاه تبنين ، فنزل عليها يوم الأحد 11 جمادى الأولى ، وهي قلعة منيعة فنصب عليها المناجيق وضيق عليها الخناق ، فقاتل من فيها قتالا شديدا حتى نصره الله سبحانه عليهم ، فتسلمها منهم يوم الأحد 18 من نفس الشهر عنوة وأسر من بقي فيها بعد القتل ، ثم رحل عنها إلى صيدا فنزل عليها وتسلمها في غد يوم نزوله عليها وهو يوم الأربعاء 20 جمادى الأولى ثم سار الى بيروت فوصلها ليلة الخميس 22 جمادى الأولى وظل يقذفها بالمجانيق وداوم الزحف والقتال حتى أخذها في يوم الخميس 29 من الشهر ذاته ، ولما فرغ من هذا الجانب رأى صلاح الدين أن التوجه الى عسقلان أولى لأنها أيسر من صور فوصلها يوم الأحد 16 جمادى الآخرة من السنة وتسلم في طريقه إليها مواضع كثيرة كالرملة والداروم وأقام في عسقلان المناجيق وقاتلها قتالا شديدا وتسلمها في يوم السبت نهاية جمادى الآخرة ، وأقام عليها إلى أن تسلم أصحابه غزة وبيت جبريل والنطرون بغير قتال وكان بين فتح عسقلان وأخذ الإفرنج لها من المسلمين 35 سنة لأنهم احتلوها من المسلمين في 27 جمادى الآخرة سنة 548هـ.
إشارة ربانية أبكت المسلمين في كل مكان
رسالة الله للمجاهدين يوم تحرير القدس
وبعدما حرر صلاح الدين عسقلان والأماكن المحيطة بالقدس ، بدأ يجهز نفسه لأسمى وأرقى غاية وهي تطهير القدس الشريف ، فاجتمعت جيوشه التي كانت متفرقة في مدن ساحل الشام ، وبدأ الزحف في اتجاه القدس معتمدا على الله تعالى مفوضا أمره إليه ، ومنتهزا الفرصة في فتح باب الخير الذي حث على انتهازه بقوله "من فتح له باب خير فلينتهزه فإنه لا يعلم متى يغلق دونه" فوصل المدينة يوم الأحد 15 رجب سنة 583هـ ، وكان نزوله بالجانب الغربي وكان معه من المقاتلين ما يزيد عن الستين ألفا ، ثم تحرك بتكتيك عسكري إلى الجانب الشمالي من المدينة يوم الجمعة 20 رجب ، فنصب المناجيق وضيق الخناق على الصليبيين المتحصنين داخل أسوار المدينة بالزحف والقتال حتى نجح في تهديم جزء من سور الحصن ، فلما رأى أعداء الله الصليبيون ما يحيق بهم ، وظهرت لهم علامات فتح المدينة وسطوع سيوف المسلمين فوق أعناقهم اشتد رعبهم خوفا من المصير الذي طال أبطالهم وحماتهم على د المسلمين ، فاستكانوا وأخذوا يطلبون الأمان ، فتسلم المسلمين المدينة يوم الجمعة 27 رجب ، وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم ، فانظروا إلى هذا الاتفاق العجيب ، ان الله سبحانه وتعالى يكافئ عباده المجاهدين ويؤكد لهم أنه كان معهم في كل معاركهم وأنه ناصرهم ومؤيدهم طالما يرفعون راية الجهاد ضد أعداء الإسلام والدليل هذه الرسالة الربانية التي تجعل فتح القدس في نفس يوم الإسراء بنبيهم ، وأكدت هذه العلامة لصلاح الدين وجنده رضي الله عليهم ،وكان فتحا عظيما شهده من أهل العلم الكثيرون ، وذلك أن الناس لما بلغهم ما يسره الله تعالى على عباده من فتوحات الشام زحف العلماء من مصر والشام بحيث لم يتخلف أحد منهم وارتفعت الأصوات بالضجيج بالدعاء والتهليل والتكبير وصليت صلاة الجمعة في المسجد الأقصى ليخطب القاضي محيي الدين محمد بن علي المعروف بابن الزكي أول خطبة في المسجد الذ بارك الله حوله بعد احتلال دام لأكثر من 150 سنة .
وقد كتب عماد الدين الأصبهاني رسالة في فتح القدس،وجمع كتابا سماه الفتح القسي في الفتح القدسي وهو في مجلدين ذكر فيه جميع ما جرى في هذه الواقعة.
وكان الشاعر المشهور النابلسي قد شهد هذا الفتح ، فأنشد السلطان صلاح الدين قصيدته التي أولها: هذا الذي كانت الآمال تنتظر . . فليوف لله أقوام بما نذروا وهي قصيدة طويلة تزيد على مائة بيت يمدحه ويهنيه بالفتح.
ويقول بهاء الدين بن شداد في السيرة الصلاحية: "نكس الصليب الذي كان على قبة الصخرة وكان حجمه كبيرا، ونصر الله الإسلام على يد صلاح الدين نصرا عزيزا ، وكان الإفرنج قد استولوا على القدس سنة 492هـ وظل أسيرهم حتى أنقذه منهم صلاح الدين، وكانت قاعدة الصلح أنهم افتدوا أنفسهم عن كل رجل 20 دينارا وعن كل امرأة 05 دنانير صورية وعن كل صغير ذكر أو أنثى دينارا واحدا فمن أحضر فديته نجا بنفسه وإلا أخذ أسيرا ، وأفرج عمن كان بالقدس من أسرى المسلمين وكانوا كثيرون"
معارك غيرت وجه
التاريخ جيوش أوروبا تتحطم تحت أقدام المسلمين
انتصارات عظيمة تهاوى فيها الوجود الصليبي في بلاد المسلمين ، فارتجت أوروبا رجا عندما استرد المسلمين مدينتهم المقدسة " القدس" وعندما انتهت حقبة الاستعمار الغربي للشرق الإسلامي ، فتعالت صيحات قادتهم للأخذ بالثأر والانتقام من المسلمين، فأرسلت حملة من أقوى حملاتهم الصليبية وأكثرها عددا وعتادا، وقد تألفت من ثلاثة جيوش ألمانية وفرنسية وإنجليزية، نجح جيشان منها في الوصول إلى موقع الأحداث، في حين غرق ملك ألمانيا في أثناء عبوره نهرًا بآسيا الصغرى، وتمزق شمل جيشه.
استطاع الجيش الفرنسي بقيادة "فيليب أغسطس" من أخذ مدينة عكا من المسلمين، واستولى نظيره الإنجليزي بقيادة "ريتشارد قلب الأسد" من الاستيلاء على ساحل فلسطين من "صور" إلى "حيفا"؛ تمهيدا لاستعادة بيت المقدس، لكنه فشل في ذلك، واضطر إلى طلب الصلح، فعُقد صلح بين الطرفين، عُرف بصلح الرملة في (22 شعبان 588هـ - 02 سبتمبر 1192م)، ولحق ريتشارد بملك فرنسا عائدا إلى بلاده .
أعظم أمثلة قيادة الأمة انجازات صلاح الدين الحضارية
يظن الكثير من الناس أن صلاح الدين شغلته أعمال الجهاد عن الانصراف إلى شئون الدولة الأخرى الحضارية، ولعل صورة الفارس المحارب صلاح الدين قد طغت على الجوانب الأخرى من شخصيته، فأخفت بعضا من ملامحها المشرقة وقسماتها المضيئة.
وأول عمل يلقانا من أعمال صلاح الدين هو دعمه للمذهب السني؛ بإنشائه مدرستين لتدريس فقه أهل السنة، هما المدرسة الناصرية لتدريس الفقه الشافعي، والمدرسة القمحية لتدريس الفقه المالكي، وسُميت بذلك؛ لأنها كانت توزع على أساتذتها ومعيديها وتلاميذها قمحًا، كانت تغله أرض موقوفة عليها، وفي الوقت نفسه قصر تولي مناصب القضاء على أصحاب المذهب الشافعي، فكان ذلك سببا في انتشار المذهب في مصر وما يتبعها من أقاليم.
وبرز في عصر صلاح الدين عدد من الشخصيات العلمية والفكرية، مثل "القاضي الفاضل" المتوفَّى سنة (596هـ - 1200م) رئيس ديوان الإنشاء وصاحب القلم البديع في الكتابة، وكان صلاح الدين يستشيره في أدق أمور الحرب والسياسة، و"العماد الأصفهاني" المتوفَّى سنة (597هـ - 1201م)، وصاحب المؤلفات المعروفة في الأدب والتاريخ، ونجح مع القاضي الفاضل في ازدهار ديوان الإنشاء في مصر، وهذا الديوان يشبه في وظيفته وزارة الخارجية.
وعُني صلاح الدين ببناء الأسوار والاستحكامات والقلاع، ومن أشهر هذه الآثار "قلعة الجبل"؛ لتكون مقرًّا لحكومته، ومعقلا لجيشه، وحصنا منيعا يمكِّنه من الدفاع عن القاهرة، غير أن صلاح الدين لم يتمكن من إتمام تشييدها في عهده، وظلت القلعة مقرا لدواوين الحكم في مصر حتى وقت قريب، وأحاط صلاح الدين الفسطاط والعسكر وأطلال القلاع والقاهرة، أحاطها جميعا بسور طوله 15كم، وعرضه ثلاثة أمتار، وتتخلله الأبراج، ولا تزال بقاياه قائمة حتى اليوم في جهات متفرقة.
واستقرت النظم الإدارية؛ فكان السلطان يرأس الحكومة المركزية في العاصمة، يليه نائب السلطان؛ وهو المنصب الذي استحدثه صلاح الدين لينوب عنه في أثناء غيابه يليه الوزير، وكان يقوم بتنفيذ سياسات الدولة، ويلي ذلك الدواوين، مثل: "ديوان النظر" الذي يشرف على الشئون المالية، و"ديوان الإنشاء" ويختص بالمراسلات والأعمال الكتابية، و"ديوان الجيش" ويختص بالإشراف على شئون الجيش، و"ديوان الأسطول" الذي عُني به صلاح الدين عناية فائقة لمواجهة الصليبيين الذين كانوا يستخدمون البحر في هجومهم على البلاد الإسلامية، وأفرد له ميزانية خاصة، وعهد به إلى أخيه العادل، وقد اشترك الأسطول في عدة معارك بحرية في سواحل مصر والشام، منها صدِّه لحملة أرناط على مكة والمدينة.
وعُني صلاح الدين بالمؤسسات الاجتماعية التي تعين الناس وتخفف عنهم بعض عناء الحياة؛ فألغى الضرائب التي كانت تفرض على الحجاج الذين يمرون بمصر، وتعهد بالإنفاق على الفقراء والغرباء الذين يلجئون إلى المساجد، وجعل من مسجد "أحمد بن طولون" مأوى للغرباء من المغاربة.
واشتهر صلاح الدين بسماحته وجنوحه إلى السلم؛ حتى صار مضرب الأمثال في ذلك، فقد عامل الصليبيين بعد استسلام المدينة المقدسة معاملة طيبة، وأبدى تسامحا ظاهرا في تحصيل الفداء من أهلها، وكان دخول المسلمين بيت المقدس دون إراقة دماء وارتكاب آثام صفحة مشرقة ناصعة، تُناقض تماما ما ارتكبه الفرنج الصليبيون عند استيلائهم على المدينة سنة (492هـ - 1099م) من الفتك بأهلها المسلمين العُزَّل وقتل الألوف منهم.
سماحته في حقه وغضبه لله
هناك مواقف مشرفة وكثيرة في سيرة البطل صلاح الدين ، تجعله بصدق أحد النماذج الرفيعة التي يقتدى بها ، بل وتجعله يستحق أن نسعى لجعل كل أبناء المسلمين صورة من صلاح الدين ومن هذه المواقف عندما فتح الله تعالى عليه بنصره في حطين ،جلس في دهليز الخيمة لأنها لم تكن نصبت بعد وعرض عليه الأسرى وسار الناس يتقربون إليه بمن في أيديهم منهم وهو فرح بما فتح الله تعالى على يده للمسلمين ، ونصبت له الخيمة فجلس فيها شاكرا لله تعالى على ما أنعم به عليه واستحضر الملك جفري وأخاه وأرناط وناول السلطان جفري شربة من الماء والثلج فشرب منها وكان في شدة العطش ، ثم ناولها جفري لأرناط فقال صلاح الدين للمترجم : " قل للملك أنت الذي سقيته أما أنا فلا أرغب في سقيه " وكان من عادة العرب وكرم أخلاقهم أن الأسير إذا أكل أو شرب من مال من أسره أمن ، وبعد ذلك أمر صلاح الدين بمجئ الأسرى إلى موضع أمام عينه وأمر لهم بالطعام ، فأكلوا شيئا ثم عادوا بهم ولم يبق عنده سوى بعض الخدم فأستحضرهم وأقعد الملك في دهليز الخيمة.
ثم أحضر صلاح الدين أرناط وأوقفه بين يديه وقال له: ها أنا أنتصر لمحمد منك ثم عرض عليه الإسلام فلم يفعل فسل سيفه فضربه بها فمزق كتفه وتمم قتله من حضر وأخرجت جثته ورميت على باب الخيمة،فلما رأى الملك جفري الواقعة ظن أنه سيلحق به ، فاستحضره صلاح الدين وطيب خاطره ، وقال له : " لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك وأما هذا فإنه تجاوز الحد وتجرأ على الأنبياء صلوات الله عليهم " ، فهذه هي أخلاق المتسامح الكريم الذي يسمح في حقه ، لكن غضبته لله تجعله وحشا يفترس كل من يعتدي على الثوابت والمقدسات .
دانت له العروش والممالك .. ومات مفلسا
سلطان المسلمين يرحل وخزائنه خاوية
أثناء مفاوضات صلح الرملة التي جرت بين المسلمين والصليبيين مرض السلطان صلاح الدين، ولزم فراشه، ثم لقي ربَّه في (27 صفر 589هـ - 4 مارس 1193م) ، أما عن سيرة رحيله للرفيق الأعلى فهي الأخرى مليئة بالعظات والعبر .
أخذ المرض يتزيد على سلطان المسلمين، وكان مرضه في بطنه ثم انتقل إلى رأسه ، وكان من دواعي دنو أجله غياب طبيبه عنه ، والذي كان يعشق السفر والترحال ، ولم يزل المرض يتزايد على صلاح الدين حتى انتهى إلى غاية الضعف واشتد مرضه في أيام السادس والسابع والثامن من المرض ، ولم يزل يتزايد ويغيب ذهنه ولما كان اليوم التاسع حدثت له غشية وامتنع من تناول الماء واشتد الخوف بين الناس وانتشرت الكآبة والحزن في جميع أرجاء الأمة الإسلامية ، ولما كان اليوم العاشر من مرضه حقن الأطباء جسده على دفعتين فنال بعض الراحة وفرح الناس بذلك ، ثم اشتد مرضه وأيس منه الأطباء ، ثم توفي بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء 27 صفر سنة 589هـ وكان يوم موته يوما لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقدان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم .
وأخرج بعد صلاة الظهر رحمه الله في تابوت مسجى بثوب فارتفعت الأصوات عند مشاهدته وعظم الضجيج وأخذ الناس في البكاء والعويل ، وصلوا عليه ، ثم دفن ف قلعة دمشق وتؤكد كل المصادر التاريخية أنه مات ولم يترك في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهما ، وجراما واحدا من الذهب ، ولم يترك لأولاده ميراثا ، لا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة. فانقضت تلك السنون..وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام " كما يقول الشاعر