[center][b]إرهاصات واعدة في الإنتاج المصري
السينما المستقلة
ظاهرة فنية ـ سينمائية تجلّت في مختلف المهرجانات السينمائية العربية التي أنهت دوراتها مع نهاية العام 2010. فقد أجمع المراقبون والنقاد، وكذلك المتابعون، على أن السينما المصرية في العام 2010 سجلت في كل المهرجانات حضوراً غير مسبوق، من خلال أعمال "سينمائية مستقلة"، نفذها شباب يمثلون الجيل الجديد، فكان أن حصدت اعمال هؤلاء معظم الجوائز، وفي مختلف الفروع، وفي كل المهرجانات العربية السينمائية، رغم المنافسات الشديدة التي شهدتها، وأهمية الأفلام المشاركة.
إذا كان فوز الأفلام المصرية (بعد غياب 14 عاماً عن منصات التتويج في مثل هذه الاستحقاقات السينمائية العربية)، قد لفت الرأي العام السينمائي في الوطن العربي، وأثار الدهشة في كواليس المهرجانات المستضيفة للنجوم والضيوف المتوافدين من عواصم عربية وأوروبية وغربية وآسيوية وإفريقية، فإن الأمر الأكثر أهمية، ودائماً بحسب المراقبين وأهل السينما والنقاد في الوطن العربي، تمثّل في كون معظم هذه الجوائز ذهبت الى أعمال "سينمائية مستقلة"، أنجزها شبان ينتجون ويكتبون ويصورون ويمثلّون، قدموا أفلاماً "مختلفة".
ويتابع المراقبون والمهتمون وأهل السينما في المنطقة العربية كيف أن السينما المصرية، بأفلام شبابها، وبعد الفوز بجوائز مهرجانات "القاهرة" و"الدوحة" و"قرطاج"، أثبتت حضورها القوي في مهرجان "دبي السينمائي الدولي" الأخير، وتمثلت في دورته السابعة بـ4 أفلام تعتبر افضل انتاجاتها للعام 2010، ونجحت في أن تعكس التوجهات الجديدة التي بدأت تتكرس تدريجياً في هذه السينما المنطلقة بقوة، والتي وصفها الناقد السينمائي القدير كمال رمزي بـ"رحلة البحث الجديدة عن الذات السينمائية في مصر".
يضيف الناقد السينمائي الكبير، أنه، نتيجة لسيطرة السينما التجارية التي أغرقت السوق المصرية على مدى أكثر من عشرين عاماً بسبب ابتعاد التمويل الخارجي عن انتاج أفلام من نوعية "سينما المؤلف"، كان لا بد من رؤية جديدة، تسهم في ولادة متجددة للسينما المصرية، فكان أن تشكل أخيرا ما يمكن وصفه بـ"الحراك" الذي بدأت ارهاصاته قبل عشر سنين، من خلال انتاج عدد مهم من الافلام القصيرة التي "حرّضت" على الجرأة، و"حضّت" على العمل السينمائي "المختلف".
ويذّكر كمال رمزي، بأن انتاج السينما المصرية تراجع في الثمانينيات من القرن الفائت، من نحو 85 فيلماً في العام الواحد الى زهاء الـ16 فيلماً في نهاية التسعينيات من القرن ذاته، كما يعيد سبب هذا التراجع في الانتاج السينمائي، الى الازمات المالية التي شهدتها سوق الافلام السينمائية في مصر، جراء الاحداث السياسية ـ العسكرية التي شهدتها المنطقة وأدت الى انحسار رأس المال الاجنبي عن هذه السوق، اضافة الى تخوف المنتجين المحليين من المغامرة في ظل أوضاع سياسية ـ اقتصادية غير مستقرة، وندرة الدعم الرسمي للفيلم المصري، مشيراً الى أن ارتفاع عدد الأفلام في السنوات السابقة، كان بسبب "هوجة" ما أطلق عليه "سينما المقاولات" التي قدمت أفلاماً لا طعم لها ولا هدف.
أما الناقد السينمائي علي أبو شادي، وهو العارف في أمور السينما، بصفته وكيل اول وزارة الثقافة المصرية، ورئيساً للرقابة على المصنفات الفنية، اضافة الى ترؤسه العديد من المهرجانات المحلية، ومشاركاته المتكررة في لجان تحكيم أكثر من مهرجان سينمائي عربي دولي، فهو يكمل ما بدأ طرحه زميله كمال رمزي، ليؤكد ان بداية العام 2010 شهدت تطوراً ملموساً وملحوظاً في حركة الانتاج السينمائي في مصر، إذ تشير الوقائع الى انتاج نحو 25 فيلماً، اي بزيادة نسبتها اكثر من 50% عن الاعوام السابقة، وكل هذه الأفلام حظيت بالاحترام.
ويعيد الناقد علي أبو شادي هذا الارتفاع في منسوب الانتاج، الى القنوات التلفزيونية العربية التي دخلت مجال الانتاج السينمائي من دون التدخل في المضامين، فأسهمت بالتالي في زيادة حجم الانتاج، مع بروز "شباب مغامرين" لم يتهيّبوا خوض معركة الانتاج ولو بإمكانات مادية متواضعة.
وحول مصطلح "السينما المستقلة"، وهو التعبير الملتبس حتى تاريخه، لدى كثيرين لم يستوعبوا بعد مقاصد السينما الجديدة، سيما وأن هذه السينما هي التي حملت الجوائز الى السينما المصرية في العام 2010، يشرح ابو شادي أن مصطلح "السينما المستقلة" يعني السينما التي لا تعتمد في تمويلها على شركات الانتاج التقليدية، ويضرب مثالاً فيلم "هيليوبوليس" للمخرج احمد عبد الله، مضيفاً ان هذا الفيلم انتج في العام 2008 بالتعاون مع المنتج شريف مندور والممثل الشاب خالد ابو النجا، وبميزانية بسيطة جداً، وان "السينما المستقلة" غالباً ما تبتعد عن أسماء نجوم السينما التقليدية التجارية. ويتابع: هكذا أيضاً كان حال المنتج ايهاب ايوب الذي انتج فيلم "الطريق الدائري" من اخراج تامر عزت في اول تجاربه مع الاخراج، والفيلم المذكور عرض في المسابقة العربية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2010، وانتاجه، بحسب ما افاد منتجه، اقتصر على مبلغ 300 ألف دولار فقط لا غير.
ويضيء علي ابو شادي على احدى ابرز نقاط افلام "السينما المستقلة"، والتي من وجهة نظره، تعتبر عنصراً مهماً، من اجل الخروج من قبضة السينما التقليدية، فيقول: اذا كان فيلم "الطريق الدائري" قد تعاطى مع قضية الفساد في مصر، من خلال محقق صحفي، فإن فيلم "الخروج" للمخرج تامر عيساوي في اول تجربة اخراجية له، صوّر الحياة في القاهرة اليوم، من خلال قصة حب بين قبطية ومسلم، بكل ما في مثل هذه المواضيع من تعقيدات شائكة ومؤلمة. الشاب سعى، في نهاية الأمر، الى مغادرة البلاد على مركب غير شرعي، متجهاً الى ايطاليا، فيما بقيت الفتاة في مصر، ما يعني بالتالي، واستناداً الى المواضيع التي تطرحها "السينما المستقلة"، ان افلام هذه السينما بالتحديد، تعتمد على الكثير من المفردات الواقعية، وتتناول المسكوت عنه، والمهمل، في السينما التقليدية، وسواء في الانتاج الرسمي او التجاري، وبالتالي، والكلام دائماً للناقد علي ابو شادي، فإن هذا الانتاج يحمل في مجمله نغمة حداثة، واحساساً أكبر بالواقع الاجتماعي المصري، كما يتضمن تنوعاً مطلوباً ومرغوباً لدى غالبية المشاهدين.
يتابع ابو شادي: على سبيل المثال وليس الحصر، فإن السينمائي محمد دياب، حمل الى مهرجان دبي الاخير، فيلمه الاول كسيناريست ومخرج، "678"، وقد سبق له ان كتب 4 سيناريوات لـ4 افلام تجارية... لكنه، تعاطى في فيلمه الجديد مع مسألة مرفوضة في السينما التجارية ـ الاستهلاكية، وهي موضوع التحرش الجنسي العلني في مصر، الظاهرة التي دفعت بالسلطات المصرية الى سن قانون يعاقب عليها... وقد سبق لهذا السينمائي ان ذكر انه امضى زمنا طويلا في البحث عن تمويل لمشروعه، الى ان وجده أخيراً، لكن خارج مصر.
يذكر هنا، ان فيلم "678" عرض ضمن تظاهرة "الحسر الثقافي" في مهرجان دبي 2010 ونال جائزة "أفضل ممثل" (ماجد الكدواني) وجائزة "أفضل ممثلة" (بشرى).
مجدداً، يتسلم الناقد السينمائي كمال رزي دفة الحوار، مذكراً بأن غالبية النقاد يؤرخون لبداية "السينما المستقلة"، وينسبونها لفيلم "عين شمس" للمخرج ابراهيم البطوط في العام 2008، وان هذا السينمائي عاد من "مهرجان الدوحة ـ تربيكا" في شهر تشرين الاول (اكتوبر) 2010، متوجاً بجائزة المهرجان، عن فيلمه الثاني "الحاوي"، وان هذا الفوز تكرر ايضاً في مهرجان دبي في دورته الاخيرة، وعن الفيلم ذاته، مع اهمية الاشارة هنا ـ كما يؤكد الناقد ـ الى ان جميع "الافلام المستقلة" الحاصدة للجوائز في العام 2010، ومن مختلف المهرجانات السينمائية العربية، نفذت بتمويل ذاتي، بعيداً عن شركات الانتاج التجارية المحلية، واعتمدت على التقنيات الرقمية، كما ابتعدت عن الاسماء الكبيرة في دنيا النجوم، الموصوفين بـ"نجوم شباك التذاكر"، لا سيما وان هؤلاء "يرهقون" ميزانيات "الانتاج المستقل" بأجورهم المرتفعة.
فيلم "678" شكل مفاجأة لصناعه الذين كانوا قد عبرّوا (قبل موعد العرض في مهرجان دبي) عن خوفهم الكبير من نتائج التجربة "الجريئة جداً"... فالمخرج محمد دياب اعلن ان مشروعه اشبه ما يكون بـ"مخاطرة غير مأمونة العواقب"، ويشكل، بالنسبة اليه، "تجربة مرعبة"، إلاّ أنه اضاف بأنه كان محظوظاً جداً، لأن شركة انتاج من خارج مصر، لا تهتم بالربح التجاري، آمنت به وبمشروعه، وحققت له رغبته لمجرد احقاق الدعم لمبدع شاب.
وإذا كانت ارهاصات الجرأة في مواضيع السينما الجديدة، قد برزت في العقد الأخير، من خلال عدد مهم من الافلام القصيرة، أخرجها وصورها وكتبها جيل كامل من الشباب كان مصراً على تحقيق تجربته بكل حرية وعزم، فإن "العدوى" هذه، سرعان ما انتقلت الى "الفيلم الطويل" الذي خاض صانعوه اخيراً، نوعاً من المواجهة مع الجيل القديم من السينمائيين، كما مع الرقابة المصرية، في محاولة للدخول بأعمالهم الى المناطق "المحرَّمة"، بحيث يعيد الفن السينمائي الجديد صياغة الواقع، كما حدث مع فيلم "شوق" من اخراج خالد الحجر ومن بطولة سوسن بدر وروبي وأحمد عزمي ومجموعة وجوه شابة، حيث ان هذا الفيلم رصد، بدقة وشفافية، موضوع الكبت الجنسي لدى فئة المهمشين في مصر، واستحق بالتالي، وعن جدارة، الجائزة الكبرى من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2010، الى جانب جائزة "افضل ممثلة" ـ دور أول ـ التي فازت بها بطلة "شوق"، الممثلة سوسن بدر.
ويتفق الناقد السينمائي كمال رمزي وزميله علي ابو شادي، على انه، ومع عودة الجوائز الى خزائن السينما المصرية، بعد غياب 14 سنة، اي منذ آخر جائزة نالها السيناريست المخرج رأفت الميهي عن فيلمه الجميل "تفاحة"، يجدر بشباب الفن السابع في مصر، مؤلفين وممثلين ومخرجين ومصورين، ونقادا أيضاً، استذكار دور الرائد، الناقد السينمائي الراحل المخرج سامي السلاموني، صاحب الوقفات المتجلية في مجال التأسيس لـ"السينما المستقلة"، والذي كرمته الدولة، ومنحت اسمه لجائزة السيناريو التي تعطى في المهرجان القومي للسينما المصرية الذي تقيمه سنوياً وزارة الثقافة، وتشرف على تنظيمه جمعية نقاد السينما في مصر.
عبد الرحمن سلام[/b]
[/center]